"في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1999، وصلنا إلى اليابسة وترجلنا من السفينة بعد 8 أيام في البحر، ملابس رثة وشعور كثة ووجوه محروقة بفعل الشمس وكثير من الذل، أحاط بنا خفر السواحل وموظفو الجمارك مع آخرين يلتقطون الصور لأجساد بالكاد تمشي على قدمين". بهذه التفاصيل يسرد الطبيب حمودي نشمي قصته الذاتية في كتابه "عشرون شتاء" وقصة رحلته مع أشخاص من جنسيات مختلفة إلى منفاه الإجباري في أستراليا بحثاً عن الأمان وتحقيق ما عجز عن تحقيقه في بلاده، الرحلة التي تخيم عليها أجواء الخيبة والاقتراب من الموت كل لحظة تنتهي بالوصول لشواطئ أستراليا.
لا تختلف قصص العالقين على الحدود البيلاروسية - البولندية عن التجربية الذاتية التي سردها حمودي نشمي في كتابه "عشرون شتاء" رغم أن تجربة الكتاب في الهجرة هي نحو أستراليا، فالطريق إلى أوروبا شائك أيضاً بالمخاوف وتحكم المهربين، البعض ينتهي بهم الحال إلى أن تطأ أقدامهم القارة الأوروبية والبعض يبقى محاطاً بحرس الحدود ويعاني من ظروف قاهرة ليتلاشى حلمه في الوصول إلى أوروبا وينتهي به الحال في السكن بالمخيمات في انتظار اقتناص فرصة توصله إلى أوروبا.
مصير مجهول
لم تفلح محاولات الشابة الإيزيدية ماريا خيري إلياس في الوصول إلى أوروبا والالتحاق بأشقائها وأبيها عن طريق (لم الشمل العائلي) بعد أن رُفض طلبها من قبل إحدى الدول الأوروبية، واضطرت لمحاولات السفر أكثر من مرة بواسطة جواز سفر وكلها لم تفلح، فلجأت للطريق البري للهجرة عبر بوابة بيلاروس ولم تفلح أيضاً في عبور الحدود، ولم تحقق حلمها بالوصول إلى أوروبا بل انتهى بها الحال في المخيمات على الحدود بين بيلاروس وليتوانيا.
تصف إلياس التي تحدثت لـ"اندبندنت عربية" معاناتها وهي في المخيمات منذ أكثر من أربعة أشهر قائلة "تغيب كل مستلزمات الحياة هنا، بل تم سحب هواتفنا أيضاً عند الوصول وكانوا يزودونا بوجبة أكل واحدة مع ليتر ماء، وعند انتقالنا إلى الكرافانات أعادوا لنا هواتفنا النقالة مع تزويدنا بـ3 وجبات طعام".
إلياس ترى أن بإمكانها تحمل كل هذه المعاناة من أجل الوصول إلى أوروبا لكنها تخشى أيضاً من البقاء في المجهول "أتمنى أن أصل إلى بيئة تساعدني على العمل والدراسة بحرية والالتحاق بإخوتي وأبي والتخلص من كل ما عانيناه من ظروف نفسية قاهرة بسبب داعش".
تغيير طريق الهجرة إلى أوروبا
تغيرت طرق الهجرة إلى أوروبا إذ يلجأ المهربون- في الغالب- لاختيار الطرق الأقل خطورة، فبعد أن كان طريق الهجرة يمر من تركيا وعبر البحر ليصل إلى اليونان، تغير هذا الطريق بعد التشديد من قبل الحكومتين التركية واليونانية على تنفيذ بنود الاتفاق الموقع بينهما ودول الاتحاد الأوروبي بعدم السماح بمرور اللاجئين عن طريقهما فأصبح الطريق البري عبر بيلاروس بوابة الهجرة لأوروبا.
في هذا السياق يتحدث الناشط مراد الإيزيدي عن تجارب أصدقاء له وصلوا إلى أوروبا سلكوا طريق بيلاروس - ليتوانيا وبالفعل حالف الحظ العديد ووصلوا لأوروبا، لكن بعد أن أصبح هذا الطريق محفوفاً بالمخاطر إثر إلقاء الشرطة الليتوانية القبض على المهاجرين وهي تتحفظ عليهم منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وبين الحين والآخر تحاول إقناعهم بالرجوع إلى الدول التي هاجروا منها، ويضيف "بعد هذه المخاطر انتقل خط الهجرة عبر الحدود بين بيلاروس وبولندا، وأغلب اللاجئين لديهم أمل في أنهم سينجحون في العبور مهما طال فترة احتجازهم".
وفي نفس السياق يوضح الكاتب والباحث السياسي من إقليم كردستان، شاهو القره داغي، أن التسهيلات المتاحة على حدود بيلاروس أسهمت في فتح المجال أمام المهاجرين للوصول إلى أوروبا، هذه التسهيلات دفعت بالشباب إلى ترك الطرق الأخرى والتوجه نحو بيلاروس بعدما نجحت شبكات الاتجار بالبشر في التسويق لهذا الطريق باعتباره طريقاً برياً ومخاطره أقل والتكلفة أقل من باقي الطرق، وهذا ما دفع الآلاف إلى التوجه إلى بيلاروس.
مطار بغداد
وهناك من يرى أن خط الهجرة يبدأ من مطار بغداد وليس من مطارات أخرى إذ يوضح الكاتب، أحمد شوقي، أن خط الهجرة يبدأ من بغداد ثم إسطنبول في تركيا وصولاً إلى مينسك (عاصمة بيلاروس)، ومنها إلى ليتوانيا بتكلفة 35 ألف يورو للعائلة الواحدة، فيما ينقل الشاب لوحده بسعر 1500 يورو. ولا يستبعد شوقي وجود شبهات فساد في شركات الطيران التي تستغل هذا الظرف "يأتي هذا ضمن الفساد المستشري، وعدم وجود مراقبة حقيقية لشركات الطيران وكشف المضاربين والفاسدين في هذه المفاصل".
الشباب محاطون باليأس
يرى يعقوب كوركيس نائب السكرتير العام للحركة الديمقراطية الآشورية، أن أسباب هجرة الشباب من إقليم كردستان يعود لسببين رئيسين، الأول سياسي يتمثل "في سيطرة الحزبين الرئيسين على مقاليد السلطة والحياة بصورة شبه مطلقة وتقسيم الإقليم إلى منطقتي نفوذ تحكمان بصورة شبه ديكتاتورية"، والسبب الثاني يحدده بـ"الاقتصادي، وذلك نتيجة الفساد الكبير والاستئثار بالسلطة ومقاليد الأمور الاقتصادية من قبل الحزبين الحاكمين (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني) وسوء الإدارة للموارد المالية والاقتصادية، وسرقة المال العام، والتوظيف الحكومي على أساس الانتماء الحزبي".
ويرى كوركيس، أن هذه الأوضاع السياسية والاقتصادية أصابت الشباب في كردستان باليأس ودفعتهم للهجرة "الشباب في كردستان غارق في اليأس من الإصلاح الاقتصادي والسياسي وإيجاد فرص عمل له".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليست الموجة الأولى للهجرة
يوضح الكاتب شاهو القره داغي أن إقليم كردستان شهد أكثر من موجة للهجرة، ففي التسعينيات عندما شهد العراق ظروفاً اقتصادية صعبة واضطراب أوضاع أمنية في كردستان ما دفع الشباب في كردستان للهجرة إلى الخارج، وبعد عام 2003 تراجعت موجات الهجرة نتيجة لتحسن الوضع المعيشي، إلا أن الموجة بدأت وعادت من جديد بعد عام 2014 بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة وتدهور الوضع الاقتصادي، ويضيف "يعاني الشباب في الإقليم من البطالة وغياب فرص العمل والوظائف، حيث أصبح الشعور باليأس سائداً عند شريحة الشباب الذين يطمحون للتغيير والإصلاح وتوزيع عادل للثروات ما يدفع الشباب إلى البحث عن بيئة أفضل للعيش".
القره داغي يرى أن حكومة الإقليم لم تخلق مشاريع حقيقية للشباب على الرغم من وجود الإيرادات الحكومية "الإقليم يُصدر النفط ويمتلك إيرادات المنافذ الحدودية والإيرادات الداخلية إلا أنه لم يحول هذه الإمكانيات إلى مشاريع حقيقية للشباب بإمكانها إعادة بناء الثقة بين هذه الشريحة المهمة والمنظومة السياسية، بل أصبح الشرخ أوسع من دون وجود معالجات حقيقية".
بالعودة إلى الكاتب أحمد شوقي الذي يرى أن الظروف القاهرة التي عصفت بالعراق منذ عام 2014 أثرت بشكل كبير على إقليم كردستان كما أن نزوح السكان من المحافظات التي احتلها "داعش" صوب إقليم كردستان للبحث عن والأمان والمشاكل المتعلقة مع المركز حول حصة الإقليم والرواتب كل هذه العوامل أسهمت في توقف جزء كبير من المشاريع النهضوية لتلبية احتياجات كثيرة ومهمة لمستقبل جميع الشباب ليس فقط في كردستان، وإنما في أغلب المحافظات العراقية التي تعاني من ارتفاع نسبة البطالة.
إجراءات حكومة الإقليم
ويكمل شوقي ويقول، إن حكومة الإقليم سعت لاتخاذ جميع الإمكانيات وشكلت لجنة للاطلاع على أزمة المهاجرين والعالقين على الحدود، لا سيما بعد الحديث عن وفيات في صفوفهم، كما أصدرت حكومة الإقليم لجميع الشركات والمكاتب السياحية تعليمات مشددة على الهجرة غير الشرعية ومحاسبة المهربين والمتابعة الشديدة من قبل الأجهزة الأمنية.
وعلى النقيض، لا يرى شاهو القره داغي أن حكومة الإقليم جادة لحل تداعيات أزمة المهاجرين، ويقول، إنها ومنذ البداية حاولت أن تغض الطرف عن هذه الأزمة على الرغم من أنها أصبحت حديث العالم، بعدها حاولت أن تربط الأمر بنظرية المؤامرة لتجنب تحمل المسؤولية، القره داغي يوضح أن الإجراءات الحكومية اقتصرت على التعهدات والوعود بدراسة أسباب هجرة الشباب وليس هناك اعتراف صريح بوجود الفساد ومشاكل حقيقية تدفع الشباب إلى الهجرة قائلاً، إن هذه الأزمة من الممكن أن تضر بسمعة الإقليم دولياً، ويؤكد "رفض الحكومة والأحزاب الاعتراف بهذه المشكلة سيؤدي إلى تفاقمها مستقبلاً بصورة أكبر ويعطي إشارات سلبية لسمعة الإقليم على المستوى الإقليمي والدولي".
"الهروب من جحيم كردستان"
ويقول الصحافي الكردي دانا طيب منمي، "لا يقتصر حلم مغادرة إقليم كردستان على الشباب فحسب بل يشمل المسنين أيضاً"، ويوضح أن كل من يعيش في الإقليم يرغب بالهجرة والهرب مما سماه "جحيم كردستان"، لغياب العدالة الاجتماعیة في توزیع الثروات وانعدام فرص العمل. ويشير منمي إلى أن "الأحزاب الكردیة الحاكمة استولت علی منابع النفط ويعيش أفرادها ثراء فاحشاً بينما يصعب على خريجي الجامعات إيجاد فرصة عمل".
منمي يوضح أن حكومة الإقليم اتهمت المهاجرين العالقين على الحدود بالكذب والإساءة لسمعة الحكومة، وعليه يتوقع أن المهاجرين قد لا يجرؤون على العودة خوفاً من الاستجواب والاعتقال من قبل حكومة الإقليم.
إجراءات وزارة الخارجية العراقية
وحظرت تركيا السفر على السوريين والعراقيين واليمنيين من مطارات تركية إلى بيلاروس على خلفية أزمة اللاجئين.
وأعلنت وزارة الخارجية العراقية سحب رخصة عمل القنصل البيلاروسي في بغداد. وقال المتحدث الرسمي للوزارة أحمد الصحاف في تصريحات صحافية، إن "وزارة الخارجية العراقية سحبت مؤقتاً رخصة عمل القنصل البيلاروسي الفخري في بغداد"، مضيفاً أن "هذه الخطوة تأتي لحماية المواطنين العراقيين من شبكات تهريب البشر عبر بيلاروس وبولندا وللحد من منح سمات الدخول إلى بيلاروس".
وينتظر ما بين 4 و5 آلاف شخص من إقليم كردستان على الحدود البيلاوسية أن تفتح لهم أبواب فرص النجاة إلى أوروبا هرباً من بلد تتصارع فيه الأحزاب الحاكمة وتعصف به أزمة اقتصادية ضاعفت معدلات الفقر والبطالة.