"الدولار الجمركي" إعصار جديد سيعصف قريباً بالاقتصاد اللبناني، وسيتهدد الاستقرار الاجتماعي للمواطن الفرد، والمجتمع بشكل عام. ففي سبيل رفع مداخيل خزانة الدولة المفلسة، اهتدت الحكومة إلى مشروع رفع تسعيرة الدولار الجمركي من مستوى 1500 ليرة إلى 12-14 ألف ليرة، بحسب التكهنات، أو حتى اعتماد منصة صيرفة هادفة إلى توحيد سعر الصرف، والتي بلغت حدود 20 ألف ليرة لبنانية.
ويطرح هذا التوجه تساؤلات عديدة حول آثاره العكسية في بلد اقتصاده مدولر بالكامل، ويعتمد على الاستيراد سبيلاً وحيداً للاستمرار على قيد الحياة، وهذا الأمر لا يمكنه أن يجبّ محاولات اللبناني "التشاطر" على تلك الإجراءات في بلد اعتاد فيه التجار أسلوب التهرب الضريبي، واستراتيجية الدفترين، وهذا التحايل على الإجراءات القانونية، سينسحب بالتأكيد على المجال الجمركي من أجل تفادي مضاعفة الرسوم عشر مرات.
الارتفاع القاتل
يتوقع أن يؤدي رفع الدولار الجمركي إلى مستويات قياسية، ومن ثم تعديل طريقة احتساب الرسوم إلى مضاعفة الأعباء المباشرة وغير المباشرة على التجار والمستهلكين، وكذلك على الحركة الاقتصادية والإنتاجية في البلاد.
ووفق دراسة أعدتها "الدولية للمعلومات" عن تأثير رفع الدولار الجمركي إلى حدود 14 ألف ليرة لبنانية، قدرت زيادة كبيرة للرسوم بمعدل 833 في المئة، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع بنسب مختلفة. وأشارت الدراسة إلى بعض النماذج الحية، فالهاتف الجوال الذي يبلغ ثمنه 100 دولار أميركي، تبلغ رسومه الحالية قرابة 25 ألف ليرة. أما في حال اعتماد الدولار بـ14 ألف ليرة ستصبح الرسوم 232 ألف ليرة، أي زيادة بنسبة 833 في المئة، وسيؤدي ذلك إلى ارتفاع سعر الهاتف بنسبة 9 في المئة. أما الدواء الذي يبلغ ثمنه 10 دولارات، فتبلغ نسبه الفعلية 5 في المئة، أي 750 ليرة، وسترتفع الرسوم إلى 7 آلاف ليرة، وثمنه بنسبة تقارب 3 في المئة، أي إن الزيادة بنسبة 833 في المئة.
مفاعيل عكسية
يميز المتخصص الاقتصادي باتريك مارديني بين توحيد سعر صرف الدولار الذي يشكل ضرورة اقتصادية، ورفع الدولار الجمركي على سعر المنصة المعتمدة من مصرف لبنان التي بلغت مستوى 20 ألف ليرة. ويرفض وضع رفع الدولار الجمركي في خانة تغذية موارد الخزانة، لأن "مشكلة الخزانة هي النفقات المرتفعة، والواجب تخفيضها، بالتالي فإن معالجة النفقات المرتفعة من خلال زيادة الواردات أمر سبق تجريبه، وفشل في موازنات 2017 و2019، حيث عجز رفع الرسوم والضرائب في زيادة واردات الدولة والخزانة، واتضح أنه كلما زاد لبنان الضرائب كانت المداخيل الضريبية في هبوط وتراجع وفق معادلة (منحى لافير) الاقتصادية، لأن بعض البلدان تصل إلى مكان لا تؤدي زيادة الضرائب إلى نظيرتها في الواردات، لأن أصحاب المؤسسات يفضلون إقفالها على دفع رسوم مرتفعة في بلد خرب، وتتراجع الحركة الاقتصادية، وينقلون استثماراتهم إلى دول أخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذلك يتوقع مارديني آثاراً سلبية على الخزانة لأن المداخيل ستتراجع، وستزايد التهرب الضريبي، وستبدأ الشركات في إغلاق أبوابها، وكذلك هجرة رأس المال، وعليه لن تؤثر إيجاباً في المالية العامة، مرجحاً "زيادة النفقات لضرورات انتخابية، وهو أمر معاكس لقوانين الاقتصادية العلمية".
تضخم كبير
يتوقع مارديني أن تؤثر الإجراءات المقترحة لزيادة الرسوم الجمركية بصورة مباشرة وأكيدة في المواطن اللبناني، وكذلك تضرر القطاعات الإنتاجية، حيث يتحدث عن ارتفاع كبير سيطاول الأسعار، وسيشعر به المواطن. ويترافق هذا الأمر مع تضخم كبير ليطاول القدرة الشرائية لأكثر من 80 في المئة من الشعب اللبناني، متوقعاً زيادة أعداد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر.
ويلفت إلى تأثر القطاعات المستوردة من رفع الرسوم في "بلد يقوم اقتصاده على الخدمات، ولا يمتلك مواد أولية، ويستورد لإعادة التصنيع، والتصدير، ناهيك باستيراد الأسمدة للزراعة والحبوب والبذور". من هنا، سيكون لرفع الرسوم الجمركية آثار قاسية على الاقتصاد المحلي، وسيؤدي إلى مزيد من التباطؤ والركود الاقتصادي".
تضخم النفقات الحكومية
اعتادت الأحزاب السياسية استغلال المرافق العامة لتحقيق أهدافها، وبدأ بعضها طرح تصحيح الأجور عن طريق سلسلة إجراءات من قبيل زيادة الرسوم. ويشير مارديني إلى عراقيل تواجه خفض نفقات الدولة بسبب حجم القطاع العام، وإلزامية دفع أجورهم، بمن فيهم من دخلوا لضرورات انتخابية. كما يلفت إلى عدم الشفافية في ميدان "الصفقات العمومية" التي تمولها الموازنة العامة، وتتم خارج الأطر الرقابية، علماً بأن القانون يتحدث عن دور لدائرة المناقصات من أجل التأكد من دفتر الشروط وعدم مخالفة القانون، ويؤمن المنافسة العادلة التي تخفف الأعباء الحكومية، وعدم اقتصارها على "أزلام الزعامات" الذين وضع بعضهم على لوائح العقوبات الأميركية"، وتوزيع "الكوميسيونات"، متهماً المشرع بترك ثغرات في قانون الشراء العام من أجل التحايل على المطالب الإصلاحية، وترك للحكومة صلاحية تعيين أعضاء هيئة الشراء العام بدلاً من تكريس الشفافية معياراً وحيداً للتعيين.
التهرب الجمركي
اعتادت شريحة واسعة من التجار اللبنانيين اللجوء إلى خطوات للتهرب من الرسوم الجمركية وحرمان الدولة جزءاً من مواردها وانتشار الرشوة والفساد، وحول ما يمكن أن نتوقعه في حال مضاعفة الرسوم في ظل الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يعيشه لبنان. يجيب مارديني بالإيجاب، مؤكداً أنه "كلما ازدادت الرسوم الجمركية، يزداد التهرب. وينطبق الأمر على الاستثناءات الجمركية التي تفتح أبواباً كثيرة لهذا التهرب"، مشبهاً حال لبنان ببلدان أوروبا الشرقية الخارجة من الاتحاد السوفياتي التي كانت تعاني مشاكل فساد، إلا أنها "اتخذت إجراءات من قبيل توحيد الرسوم والتعريفة الجمركية على جميع البضائع وكافة التجار، وأدى ذلك إلى تحفيز الناس على دفع الرسوم، ومن ثم رفع موارد الخزانة".
من هنا، يعتقد ضرورة توحيد أسعار الصرف من جهة، في موازاة "تخفيض الجمارك إلى أقل الحدود الممكنة، ووقف جميع الاستثناءات، وربما إلغائها، وفتح حرية التجارة العالمية وتحرير الاستيراد والتصدير لأي أحد، من أجل تحفيز الأعمال والحركة الاقتصادية، بالتالي تخفيف الأزمة الخانقة"، بالإضافة إلى ""تخفيف الضرائب، وتوحيدها، وتبسيطها من أجل تشجيع المواطنين على دفعها وعدم اللجوء إلى التهرب، الأمر الذي سيؤدي إلى رفع وادات الدولة بصورة أكيدة".