ما من كتابين تشابها وأحياناً إلى حد التطابق مثل كتاب "فن الهوى" للشاعر الروماني أوفيد، الذي ظهر متزامناً مع ظهور الدين المسيحي، وكتاب "طوق الحمامة" للفيلسوف الأندلسي ابن حزم الذي ظهر بنحو ألفية من السنين من بعده. ومع ذلك ليس ثمة بين المؤرخين من يصل إلى حد القول بأن ثانيهما قد اقتبس من أولهما، أو نقل عنه ولو أجزاء مختارة من مؤلفه، والمهم في الأمر هنا مسألتان تجمعان من ناحية الهيكل العام بين الكتابين، أولاهما أن الكتابين اللذين لا يمكن اعتبارهما فريدين في مجالهما في تاريخ الفكر العالمي، وضعا أصلاً وكل منهما في زمنه، بوصف كل منهما نصاً تعليمياً يستهدف تلقين مستمعين معينين شتى فنون الهوى وتقنياته وتباريحه بمنطق علمي لا يتوخى أن يكون إباحياً ولا مثيراً أو مبتذلاً، وثانيهما أن الكتابين جوبها بتشدد سلطوي وصل مع كتاب أوفيد إلى حد المنع، فيما كان الحذر لا أكثر ما جوبه به كتاب ابن حزم، ناهيك بأن كلا الكاتبين أضفى على عمله طابعاً علمياً، وكتبه بلغة شاعرية بديعة.
مكان للترياق أيضاً
أما في ما يخص "فن الهوى"، فإن أوفيد واسمه الكامل بوبليوس أوفيديوس نازو وعاش بين العام 43 قبل الميلاد والعام 17 بعد الميلاد، ثنّى على كتابه هذا بكتاب آخر عنوانه "ترياق الهوى"، توسع بالحديث فيه عن الكيفية التي تكون بها النجاة من نتائج اللوعة والتشوق وكل ما يصيب الروح والقلب جراء العشق الذي يعيشه العاشقان، تلك النتائج التي توسع في الحديث عنها في ذلك النص الشعري البديع الذي عرف كيف يعيش عبر العصور وحتى اليوم، ماحياً في طريقه مئات النصوص المشابهة الأخرى لشعراء ينتمون إلى كل الأمم، تماماً كما عاش نص ابن حزم متفوقاً على مئات النصوص المشابهة له في الفكر العربي.
صرامة علمية
وكما أشرنا، يمكن اعتبار "فن الهوى" وملحقه "ترياق الهوى" قصيدة شعرية طويلة تتألف بالنسبة إلى الكتاب الأول من ثلاثة أقسام مكتوبة على شكل رسائل، موجهة إلى قوم يهمه أن يعلمهم تلك الفنون التي كانت تعامل قبل ذلك بشكل عشوائي، وعلى الرغم من شاعرية اللغة التي كتبت بها نصوص القصائد الثلاثة، فمن الواضح أن ثمة في خلفية الكتاب إجمالاً صرامة علمية تشي بكم أن أوفيد حاول في كتابته أن يسلك سبيل من يخوض في مسائل علمية، كاتباً حول علم الجبر أو الفصاحة أو العلوم بشكل مجرد، ولعل تلك الصرامة العلمية هي التي ستعطي الهوى على مر العصور سمته بوصفه علماً من العلوم، وهو أمر وصل إلى ذروته في التراث العربي/ الإسلامي، إذ راح المفكرون يكتبون موجهين كلامهم بلغة علمية إلى الوزراء بل الخلفاء، حتى حين يكون النص إباحياً إلى حدود مدهشة.
اسمع أيها الفتى
في القصيدة الأولى من "فن الهوى" والتي تشغل ما يعتبر "الكتاب الأول"، يلقن الشاعر تلميذاً له مفترضاً ولا شك في أنه ذكر، وكأستاذ مرب حقيقي، الكيفية الأسلم والأشد فعالية في مجال السيطرة على معشوقته الأنثى، بادئاً من التوسع في الحديث عن أماكن اللقاء المتاحة والتي يمكن أن توجد فيها تلك الأنثى، مثل صالات المسرح والمسابح عند الشواطئ، وحتى المعابد التي يعتبرها أوفيد أفضل مكان يمكن أن تبدأ فيه حكاية العشق المنشودة.
ولعل من أولى النصائح التي ينقلها أوفيد إلى تلميذه أن يهتم كمبدأ أساس للتمكن من استراتيجيته في غزو فؤاد المحبوبة، باصطناع غرقه في لوعة الحب إنما من دون أن يتوقف عن استعراض مواهبه وتمكنه من السيطرة على تلك المواهب.
كيف تغزو قلب الأنثى؟
وفي "القصيدة الثانية" يعلم أوفيد قارئه كيف يتوجب عليه العمل بعد أن يغزو فؤاد الأنثى، على الحفاظ على حبها له لأطول فترة ممكنة من الزمن، "بالنظر إلى أن الوصول إلى المبتغى لا يمكنه أن يكون كل شيء، بل يفوقه أهمية العمل على الإبقاء على الحب مضطرماً في فؤاد الحبيبة"، ولذلك كما يؤكد أوفيد وسائل وطرق يتعلمها المرء علمياً، ومنها أنه "لا يكفي أن يبقى العاشق راكعاً عند قدمي معشوقته لكي ينال منها في المقابل ما يتطلع إلى نيله"، وبالتالي يبدو في غاية الأهمية أن يواصل تقديم الهدايا لها وعدم التوقف عن بعث الرسائل، ناهيك عن ضرورة أن يريها على الدوام روحاً مرحة وفكاهة أنيقة تبعث فيها سروراً دائماً، وفي مقابل هذا قد يكون من الضروري مخادعتها بين الحين والآخر على الأقل لجعلها تشعر بالغيرة وتبتغي التمسك بالعاشق، ربما لرغبتها في الفوز في "التنافس عليه" أكثر مما لرغبتها في مبادلته غرامه.
وبعد ذلك حين تحل القصيدة الثالثة، نجدنا أمام لهجة تبدلت كلياً ولسبب واضح تماماً ومنطقي، فحتى الآن لم نكن قد نظرنا إلى أمور العشق إلا من وجهة نظر الذكر، أما الآن فها هو أوفيد ينتقل إلى الجهة المقابلة، ليخوض المسألة من وجهة نظر الأنثى، بالنظر إلى أن من الضروري إقامة ميزان عادل بين الجنسين، وبالتالي يتوجه في حديثه هذه المرة إلى تلك الأنثى التي يتوجب عليها اتباع العديد من المسالك والإجراءات "إن هي أرادت أن تبقى محبوبة ومرغوبة من عاشقها".
في هذا السياق تكون أولى نصائح الشاعر للأنثى أن تعرف كيف تحافظ دائماً على جمالها ونضارة شبابها، لا سيما حين تعرف أنها سوف تلتقي بعاشقها أو حتى بمن يمتون إليه بصلة، وتعرف أنه قد يحدث له أن يسألهم عنها، وإلى ذلك يتوجب عليها أن تتعلم كيف تجتذب منافسي عاشقها كي يبقى هو دائماً على تشوق إليها وخوف من أن تفضل أحد أولئك الآخرين عليه، ولا بد لها أيضاً من أن "تتعلم كيف تنوع أساليبها في اجتذاب الرجال تبعاً لموقعهم أو عمرهم أو شغفهم، أو حتى تبعاً لأمزجتهم الخاصة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صورة مسهبة للحياة الاجتماعية
تلك هي النصائح التي يوجهها أوفيد في "فن الهوى" للذكور والإناث، وكما أشرنا أعلاه في تلك اللغة العلمية التي عرف كيف يستخدمها هنا، غير أنه سيكون من الظلم لهذا الكتاب التأسيسي الاكتفاء بالقول إنه نص تعليمي، فهو في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير، ففي نهاية المطاف نحن هنا من ناحية تبدو مواربة أول الأمر، أمام توصيف بديع للحياة في العصر الروماني بكل تشعباتها بما في ذلك الوصف الدقيق للأخلاق والعادات الاجتماعية، بل حتى للملابس وطرق التصرف في اللقاءات والعلاقة بين الشبان وعائلاتهم، من دون أن ينسى الكاتب وصف العلاقات التجارية والطرق المتبعة في التبادل الكلامي بين الذكور والإناث، إلى جانب الحديث المسهب عن علاقة كل ذلك بالفنون السائدة في ذلك العصر، مروراً بوصف الحفلات المسرحية ولقاءات حلبات المصارعة، ففي نهاية الأمر كل هذا موجود في "فن الهوى" على خلفية صورة زاهية يقدمها لحياة اللهو والترف تحت حكم الإمبراطور أوغسطوس، من دون نسيان الحفلات الصاخبة التي كانت تقام في قصور كبار القوم، لا سيما في القصر الإمبراطوري.
التوغل في فؤاد المرأة
ولكن فوق ذلك كله لا بد من العودة إلى ما هو أساس هنا، وهو تعبير أوفيد عن معرفته العميقة بموضوعه، لا سيما توغله في فؤاد المرأة إلى درجة مدهشة، وقدرته على الطلوع من ذلك كله بنظرة أخلاقية ربما تجعل منه واحداً من كبار فلاسفة الأخلاق في زمنه، والحقيقة أن ذلك البعد يتجلى بشكل أفضل في نصه التالي "ترياق الهوى"، وبصورة تجعل المرء يطرح 1000 سؤال وسؤال حول الدوافع التي حدت بالإمبراطور إلى نفيه حيث سيعيش آخر سنوات حياته في بلدة صغيرة على شواطئ البحر الأسود، منعزلاً كئيباً ومنصرفاً إلى كتابة يمارسها حتى أيامه الأخيرة، ليخلف متناً شاعرياً غنياً يضعه مع فرجيل، صاحب "الإنيادة"، بوصفه واحداً من أكبر ممثلي الأدب الروماني.