أثارت الاتهامات التي وجهت إلى الأحزاب العقائدية التي تقوم على أيديولوجية معينة، إسلامية ويسارية وقومية، احتمال انتهاجها مزيداً من العنف السياسي في السودان. وقد ارتبط التهديد الذي صرح به علي عثمان محمد طه، نائب الرئيس السابق عمر البشير، بإنزال "كتائب الظل" لمواجهة المتظاهرين إبان ثورة 2018، وحدوث جرائم قتل ووقوع ضحايا وجرحى بعد ذلك، بتأسيس الأحزاب العقائدية قوات تحميها.
ونشطت تلك الميليشيات في وقت ارتبط فيه الإرهاب ارتباطاً وثيقاً بالجماعات الإسلامية، وأسست له فكرة حسن الترابي في إطار تقوية النظام بعد انقلاب الثلاثين من يونيو (حزيران) 1989، بعزمه على تكوين "الحكومة العالمية الإسلامية". ثم قوى من هذه الفكرة المنافسة السياسية بين هذه الأحزاب العقائدية، التي تسابقت في ظل الحكومة الانتقالية لتحل محل "الإسلاميين"، لكن مع التظاهر بانتهاج عقيدة مدنية، فتكررت الممارسة في احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) الأخيرة، التي اتهمت فيها ما سميت بـ"كتائب حنين" البعثية وما نقل عن دورها في حوادث القتل.
توحيد الإسلاميين
على الرغم من تسجيل عشرات الأحزاب السياسية في عهد النظام السابق، استناداً إلى مشروع حسن الترابي "التوالي السياسي" الذي روج له كـ"دستور عصري" مستمد من الشريعة الإسلامية هدفه "إحداث الانتقال من الشرعية الثورية إلى دولة المؤسسات"، وضمن في دستور السودان لعام 1998، لكن مثلما تنبأ لهذه الأحزاب المسجلة، فإنها لم تستمر طويلاً، خصوصاً أنها جاءت بعد عقد من انقلاب حكومة "الإنقاذ" في 1989 الذي أطاح 40 حزباً، كانت تدير الفترة الديمقراطية في حكومة الصادق المهدي (1986-1989). كانت هذه الأخيرة نسخاً من أحزاب معارضة تساقطت في أول انتخابات برلمانية أجريت في عهد "الإنقاذ" عام 1999، ولم تخلق أحزاباً حقيقية، بل تحايلت على الأحزاب الموجودة.
انضم الترابي إلى جبهة الميثاق الإسلامية في الستينيات، وهي امتداد سياسي لجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا في مصر، ونشأ تحالف بين الإخوان المسلمين والسلفيين والطريقة التيجانية الصوفية لخوض انتخابات 1968. ثم أسس الترابي الجبهة القومية الإسلامية 1986، وفي عام 1991 أسس حزب "المؤتمر الشعبي الإسلامي"، الذي ضم ممثلين من 45 دولة إسلامية، وانتخب الأمين العام له، وكانت فكرته تتجاوز حدود السودان لتكوين حكومة إسلامية عالمية. ثم أنشأ مع البشير حزب "المؤتمر الوطني" عام 1998 على أنقاض الجبهة الإسلامية، ثم انشق عنه "المؤتمر الشعبي" في 31 يونيو 2001.
حدث خلاف واسع بين الترابي والبشير في 1999 عرف بـ"المفاصلة"، وزجَّ بالترابي في السجن، لكن واصل النظام استخدام مفهوم "التوالي السياسي". وبعد المصالحة بينهما وقيام ما سمي بثورات "الربيع العربي"، لفتت الأنظار نحو تكالب الإسلاميين على السلطة، وطرح الترابي في مارس (آذار) 2015 مشروعاً لدمج الأحزاب والتيارات الإسلامية، بما فيها المؤتمر الوطني، في حزب واحد هو مشروع "النظام الخالف"، ظل حتى وفاته في 5 مارس 2016.
وخلال الفترة الانتقالية بعث حزب المؤتمر الشعبي، "النظام الخالف" بتوحيد الإسلاميين (المؤتمر الوطني، والمؤتمر الشعبي، والإصلاح الآن، وسائحون، ومنبر السلام العادل، وحتم، والحركة الوطنية للتغيير "المنبر الحر")، من خلال تلاشي الحدود والعوائق السياسية بين حزبي المؤتمر الوطني والشعبي.
تحديات مؤسسية
تزخر الساحة السودانية بأحزاب يسارية ويمينية وطائفية وقومية عروبية، وكثير غيرها لا تتسم بطابع معين أو بنية سياسية أو اجتماعية محددة، تقع في خانة أحزاب الموالاة، وهي لكثرتها اصطلح على تسميتها في الأدب السياسي السوداني بـ"أحزاب الفكة"، وأغلبها بما فيها العقائدية والطائفية يلحق باسمها عبارة "الديمقراطي" مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي يتبع لطائفة "الختمية" ومتوارث من عائلة "المراغنة" لا يتسنم قيادته من خارج البيت الميرغني، مثله مثل حزب الأمة الذي يتبع لطائفة "الأنصار"، ولا يتزعمه إلا من البيت المهدوي، منذ فترة ما بعد استقلال السودان في خمسينيات القرن الماضي.
وللفصل في هذه المسألة فإن شديدي الانتماء لحزب الأمة، اخترع لهم الجسم الموازي للحزب "هيئة شؤون الأنصار" لاستيعابهم والإبقاء على ولائهم للحزب والاستفادة منهم في الاستقطاب، خصوصاً أن للحزب كتلة شعبية كبيرة من "الأنصار" في غرب السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعب الحزب الشيوعي وحزب المؤتمر السوداني كيسار سياسي دوراً كبيراً منذ الاحتجاجات وفي الحكومة الانتقالية. وهناك أيضاً حزب البعث السوداني، الذي ظل تمثيله باهتاً منذ تأسيسه منشقاً عن حزب البعث العربي الاشتراكي عام 2002، لكن لمع نجمه في الحكومة الانتقالية وارتبط بعدة أحداث، إذ اتهم بتكوين ميليشيا "كتائب حنين" يتردد أنها ضالعة في حوادث القتل في الاحتجاجات الأخيرة.
وعلى الرغم من نفي الحزب، فإن مروجي الاتهام اعتمدوا على معلومة عودة قيادات ومقاتلي حزب البعث من العراق وسوريا، واستندوا إلى أدوارهم التي قاموا بها هناك.
لا تقتصر انشقاقات الأحزاب على العقائدية فقط، إنما شملت جميع التيارات والتكتلات السياسية، خصوصاً التي شهدت اصطفافات سياسية بعد الثورة، ما أدى إلى تفككها. لكن الأحزاب العقائدية ظلت هي الأقل تبعثراً في المشهد السياسي السوداني، حتى إن بعضها ظل في حالة ركود لتعود بعد اندثارها في منابعها. ولا يعد نشاط الأحزاب العقائدية مؤشراً على حيوية الحياة الديمقراطية، إنما يشير إلى تفاقم التعبئة، واستفادتها من انقسامات الأحزاب الأخرى.
التغذية بالعنف
نبع التطور الأهم لدور الأحزاب العقائدية في المرحلة الانتقالية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي وحزب البعث من تطويع أيديولوجيتهما بإضفاء البعد العلماني، بدلاً من الأيديولوجية الاقتصادية أو الاجتماعية، لأخرى تنطوي على حل سحري لجميع أزمات السودان. ويجادل كوادر هذين الحزبين بالتجديد الطارئ على الأفكار والشعارات، مع التمسك برفض فكرة التطبيع مع إسرائيل.
لم يستطع الحزبان تنظيف سمعتهما التاريخية المرتبطة بالقمع والتصفيات، إنما ظل يطغى عليها قمع النظام السابق، ما أعطاها جواز مرور في المجتمع السوداني استفاد من خفوت الهالة القاسية التي كانت محيطة بها، إضافة إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وسط الثوار الذين يختلف تعريفهم للانتماء السياسي عن الأجيال التي شاركت في ثورات سابقة.
كما أن ظهور أشكال جديدة من التنظيمات والكيانات المنقسمة عن هذه الأحزاب، التي لا تضع في حسابها الصرامة التنظيمية، جعل انتماء الثوار غير معروف تحديداً، وهنا استفاد قادة هذه الأحزاب من تحريك الميدان بالاستفادة من الروح الثورية، أملاً في أن تفضي إلى تحقيق هدفها، ومن ثم تقفز إلى تسنم المواقع القيادية في الدولة. حدث هذا في الحراك الثوري الذي أعقبه تكوين الحكومة الانتقالية الأولى، لكن بعد 25 أكتوبر، تضاربت الأحداث، وحصلت فوضى وتمرد من بعض الثوار أعلنوا استقلالية حراكهم، ما أحدث تغييراً حوَّل التظاهرات من سلمية إلى عنيفة.
وعموماً فإن الأحزاب العقائدية والطائفية في السودان لم تعتد على حرية التعبير، إذ لم يوفره أي مناخ سياسي في العهود السابقة، كما أن بعضها دعمت هيكلها التنظيمي بإرث ديكتاتوري كما في العقائدية، وعائلي كما في الطائفية، وسمحت ممارساتها بحدوث الانقسامات نتيجة لذلك.
وبسبب هذا التشظي، فشلت الأحزاب الحالية في تطوير هويات مستقلة، وبناء قواعد انتخابية فاعلة، وهذا ما ستكشفه العملية الانتخابية بعد انقضاء الفترة الانتقالية، بأن ما يحيط بها من تحديات مؤسسية سوف يحكم مصير الانتقال الديمقراطي المرتقب.
نظرة أحادية
لم يعد الحزب الشيوعي وحزبا البعث والمؤتمر السوداني للممارسة السياسية في السودان بقاعدة اجتماعية، وينبع نفوذها الحالي من فترتها القصيرة التي قضتها في السلطة. أما الأحزاب الإسلامية فقد فقدت أيضاً قاعدتها الاجتماعية بعد الثورة، وهنا يلتقي هدف هذه الأحزاب بضرورة الاستفادة من الحشود الثورية بلا انتماء واضح، مع محاربة الأحزاب الثلاثة الأولى نفوذ الإسلاميين المفترض ومنع عودتهم إلى السلطة.
في استعراض سريع للخريطة الحزبية السودانية، نجد أن حزب الأمة يكافح من خلال استراتيجيته القديمة بالمحافظة على وجوده في الحكومة والمعارضة معاً، ساعدته الانقسامات الداخلية في التبرؤ من أي بيان يلقي به إلى الإعلام لقياس نتيجته، وهذا ما أظهره كلاعب مراوغ مقارنة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي يقبع على هامش الخريطة السياسية، بينما مثله منشقون عنه أيضاً في الحكومة الانتقالية في مناصب غير مؤثرة.
ينتظر أن يجري التغيير الأبرز في الانتخابات المقبلة، ومن المفترض أن تكون مطلب أي حزب سياسي بوصفها الوسيلة الأسلم للمشاركة والفاعلية السياسية، لكن لم تبد أي من هذه الأحزاب حماساً نحوها. وبخلاف الأحزاب المعروفة، تحاول أحزاب جديدة أن تسبغ على نفسها طابعاً برامجياً، إلا أنها جميعها لم تستطع أن تفرض حضوراً في الحياة السياسية في السودان.
وبما أن أغلب الأحزاب العقائدية تميل إلى التعبئة والاستقطاب، فقد حافظت على نضالها وثوريتها الدائمة، بينما غيبت أفكارها وبرامجها الأساسية، وإزاء هذه البنية الأحادية النظرة، لم تستطع منع ظهور تيارات أخرى ربما تصور نفسها أكثر انفتاحاً على الآخر، بينما تحافظ على أيديولوجيتها.
وظلت في موضع المواساة، تجربة هذه الأحزاب خصوصاً الحزب الشيوعي ومعاناته من القمع وإحالة المنتمين له إلى الصالح العام عند انقلاب "الإنقاذ"، وعندما وجد نفسه في السلطة إبان الفترة الأولى من الحكومة الانتقالية مارس الدور ذاته عبر لجانه وأذرعه، مثل لجنة إزالة التمكين.
وإن كانت قد ظهرت في الماضي مشكلة مصداقية الأحزاب السياسية كمعيار نظري، فقد أسهم العنف السياسي الذي تعيشه هذه الأحزاب الآن في التشكيك في ما إذا كانت قادرة على القيام بالدور القيادي لعملية التحول الديمقراطي واقعاً معاشاً أم لا.