لم يكن من المستغرب أن يصور كل من الأميركيين والروس زعيميهم على أنهما حازمان في مواجهة الآخر. فعلى الرغم من أن مكالمة الثلاثاء الماضي عبر الفيديو لم تسفر عن مفاجآت كبيرة، إلا أن الرئيس الأميركي جو بايدن استغلها لتأكيد توحد الغرب وتحديد العقوبات الجديدة التي ستواجهها روسيا إذا غزت أوكرانيا، كما استغلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتقليل من أهمية الحشد العسكري الروسي، وفي اتهام الناتو بتأجيج المواجهة حول أوكرانيا. لكن هل يعني الاتفاق على مزيد من المحادثات أن خطر اندلاع الحرب قد تلاشى، أو أن الخصمين اللدودين سيتوقفان عن التصعيد؟
اختبار نية الآخر
على مدى ساعتين من اجتماع متوتر لم يخلُ من بعض الدعابة، تبادل الرئيسان الأميركي والروسي الاتهامات حول أزمة أوكرانيا الأخيرة في محاولة منهما لاختبار نيات الطرف الآخر، إذ حذر بايدن من أن غزو أوكرانيا سيؤدي إلى عقوبات اقتصادية غير مسبوقة ضد روسيا تتجاوز الرد الغربي عقب غزو روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وقد ينهي آمال روسيا في استكمال خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" إلى أوروبا، الذي سيكون بمثابة مصدر رئيس جديد لإيرادات الطاقة الروسية، كما سيدفع حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى إعادة تمركز قواته في بولندا وجمهوريات البلطيق الثلاث في شرق أوروبا. وفي المقابل اعتبر بوتين أن توسع الناتو ليشمل أوكرانيا، سيشكل تهديداً خطيراً لروسيا، وسيكون ذلك خطاً أحمر، لكن بوتين لم يشر إلى نيته النهائية عما إذا كان يخطط بالفعل لشن غزو أوائل العام المقبل، أو أنه يحاول فقط دفع الغرب إلى الاهتمام بمطالبه من خلال صُنع أزمة.
وفي حين يعتبر مراقبون أن القمة نجحت في تحريك عجلة التفاوض من خلال الإعلان عن مواصلة الحوار الأمني والدبلوماسي بين الجانبين خلال أيام، وحديث بوتين عن مناقشة بشأن المخاوف الروسية بشأن أوكرانيا وليس الغزو، إلا أن آخرين يشككون في ما إذا كان التلويح بالعقوبات الأميركية - الأوروبية المنسقة يمكن أن تردع بوتين عن غزو أوكرانيا التي حشد لها عشرات الآلاف من القوات.
شكوك متواصلة
وتعود هذه الشكوك إلى أن المحادثات المنتظرة قد تفشل في حسم الخلافات الكثيرة بين الجانبين حول أوكرانيا، حيث يقول ستيفن بيفر، الخبير في مركز "ستانفورد" للأمن والتعاون الدولي، إنه على الرغم من فتح طريق للخروج من الأزمة عبر وقف التصعيد والحوار لمعالجة الصراع الروسي - الأوكراني في دونباس وحول مسائل أمنية أوروبية أوسع، إلا أن هذه المناقشات لن تكون سهلة، فلن يستجيب الناتو، لمطلب الكرملين بأن يتخلى الحلف عن سياسة الباب المفتوح بشأن توسيع الحلف.
وتشير صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن ما يعتبره بوتين خطاً أحمر، ترى أوكرانيا والغرب أنه دفاع معقول عن دولة فقدت بالفعل السيطرة على شبه جزيرة القرم، وهي لا تزال "أرضاً محتلة" على حد وصف الولايات المتحدة، كما يقول إيفو دالدر، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الناتو ورئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، إن السؤال الذي يواجه الناتو، هو كيف يحافظ على مصداقيته بعدما عرض العضوية على أوكرانيا وجورجيا عام 2008، ولكن من دون تحديد متى أو كيف، بينما لا يعرف الحلف كيف يحافظ الآن على استقلال وسيادة أوكرانيا، التي تتمتع بوضع شريك، ولكنها لا تستفيد من مبدأ الالتزام بالدفاع الجماعي لأنها ليست عضواً في الحلف، على الرغم من أنها أرسلت قوات للقتال في مهمات للناتو في العراق وأفغانستان.
وفي حين تعتبر روسيا عرض عضوية الناتو على أوكرانيا تهديداً محتملاً لحدودها وتعدياً على قلب دائرة نفوذها، وهو الأخطر في سلسلة الإهانات التي ارتكبها الناتو بتوسعه شرقاً منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، فإن الحلف لديه مصلحة ملحة في محاولة ردع روسيا حسبما تقول مارتا داسو، نائبة وزير الخارجية الإيطالي السابقة ومستشارة أوروبا في معهد أسبن للأمن، التي ترى أنه لا يمكن قبول اقتراح بوتين باستبعاد عضوية أوكرانيا في الناتو، وأنه من الضروري بناء الردع العسكري الأوكراني، وعدم اللجوء فقط إلى مزيد من العقوبات الاقتصادية، لأنها لا تكفي على الأرجح لردع روسيا.
وما يزيد من الشكوك أن بوتين الذي شاهد على مدار ربع قرن انضمام عشرات الدول التي كانت ذات يوم جزءاً من الكتلة السوفياتية إلى الناتو، يرى أن ضم أوكرانيا للحلف بمثابة ضربة قوية لدولة طالما كانت جزءاً من روسيا.
هل ستؤثر العقوبات الاقتصادية؟
وتشمل سياسة الردع الأميركية ثلاثة عناصر رئيسة لكل منها تأثيره القوي على روسيا، بما يجعل الرئيس بوتين يفكر مرتين قبل الإقدام على غزو أوكرانيا، ويتمثل العنصر الأول في العقوبات الاقتصادية المشددة، إذ تتراوح العقوبات المحتملة التي جمعتها وزارة الخزانة، بالتعاون مع الحلفاء الأوروبيين، بين منع الشركات الروسية من الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية، إلى العقوبات المالية التي تستهدف النخبة الروسية الذين ساعدوا في تمويل ودعم بوتين، والتهديد بوقف خط الغاز الروسي لأوروبا "نورد ستريم 2" الذي ينتظر أن يعزز مدخولات روسيا من النقد الأجنبي، إضافة إلى عزل روسيا عن نظام التسوية المالية العالمية، المسمى "سويفت"، لكن بعض المسؤولين الأوروبيين يخشون أن تؤدي هذه الخطوة إلى رد قاس للغاية.
غير أن مشكلة العقوبات الأميركية أنها قليلاً ما تنجح إذا ظلت أحادية الجانب، ولكي تكون هذه العقوبات فعالة، ستحتاج الولايات المتحدة إلى دعم حلفائها حسبما يقول ديفيد كورترايت مدير مركز السياسات في معهد كروك لدراسات السلام الدولية في جامعة نوتردام الأميركية. ففي ظل اقتصاد عالمي يزداد عولمة، تواجه العقوبات أحادية الجانب عقبات هائلة حتى عندما يفرضها أكبر اقتصاد في العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووجدت دراسة تاريخية نشرها معهد بيترسون للاقتصاد الدولي عام 1997، أن العقوبات الأميركية أحادية الجانب حققت أهداف سياستها الخارجية في 13 في المئة فقط من الوقت، بينما العقوبات المتعددة الأطراف التي تشمل دولاً عدة، تكون أكثر فعالية من التدابير أحادية الجانب، ولأن روسيا تعد خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، بينما يعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك لروسيا، ستسمح العلاقات التجارية الواسعة لموسكو مع دول في الاتحاد الأوروبي بتخفيف آثار العقوبات التي لا تحظى بالدعم والتعاون الأوروبي الكاملين، خصوصاً وأن روسيا تزود أوروبا بكثير من غازها الطبيعي، ما يضمن الوصول إلى التجارة والعائدات بغض النظر عن الإجراءات الأميركية.
ومع ذلك فإن اقتناع الحلفاء الأوروبيين بأن التهديد بفرض مزيد من العقوبات له ما يبرره، سيجعل تعاونهم مع واشنطن مؤثراً بشكل فعال، ولكن تنفيذ ذلك واقعياً يظل أمراً آخر يضع الجميع تحت الاختبار.
دعم الجيش الأوكراني
أما العنصر الثاني في سياسة الردع الأميركية فهو زيادة المساعدة الدفاعية لأوكرانيا، فمنذ الاستيلاء على القرم، خصصت الولايات المتحدة أكثر من 2.5 مليار دولار للمساعدة الأمنية، بما في ذلك رادارات المراقبة الجوية، ورادارات مضادة للطائرات من دون طيار، والاتصالات الآمنة، وزوارق الدوريات المسلحة، والأهم من ذلك، أنظمة جافلين المضادة للدبابات، وهي التي تثير قلق القادة العسكريين الروس لدرجة أن بعض الدبابات الروسية عززت من إجراءات الحماية على طول الحدود مع أوكرانيا.
وإذا أوضحت الولايات المتحدة أن القوات الروسية ستدفع ثمناً باهظاً إذا غزت أوكرانيا من خلال دعم المقاومة الأوكرانية بأعداد هائلة من العبوات الناسفة، ومزيد من الأسلحة المضادة للدبابات، وطائرات "الدرون" المسلحة من دون طيار، والدفاعات الجوية، فقد يعيد بوتين التفكير في الأمر.
وتحذر ميليندا هارينغ، نائبة مدير مركز أوراسيا، من أن الولايات المتحدة ربما لا تستطيع إرسال أنظمة أسلحة كافية إلى كييف في الوقت المناسب لغزو محتمل في يناير (كانون الثاني) أو فبراير (شباط) المقبلين، ولهذا تطالب واشنطن بمساعدة الأوكرانيين في الاستعداد لحرب عصابات، وتوفير أي معدات أخرى قد تحتاجها الآن.
تعزيز الناتو في شرق أوروبا
ويتمثل العنصر الثالث في سياسة الردع الأميركية في زيادة وجود الناتو على الجانب الشرقي من أوروبا بما يساعد في إقناع بوتين بأن كل ما يعتقد أنه قد يكسبه من غزو أوكرانيا، سيؤدي في النهاية إلى توازن قوى غير ملائم لروسيا، حيث من المؤكد أن موسكو لن ترحب بمزيد من القدرات العسكرية للناتو في بولندا ودول البلطيق ورومانيا.
ويعتبر باري بافيل، النائب الأول لرئيس المجلس الأطلسي أن تهديد الردع الواضح ثلاثي الأبعاد للرئيس بايدن يبدو أنه يتمتع بالمصداقية، ويُحتمل أن يكون فعالاً لإقناع روسيا بأن أي غزو بأي شكل سوف يستدعي رد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، خصوصاً وأن بايدن عزز موقفه بالتشاور في اليوم السابق مع قادة بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا وإيطاليا، وهذا يعني أنه تحدث مع بوتين على أساس موقف غربي موحد.
هل نجح بايدن؟
وعلى الرغم من اتفاق كثيرين على أن بايدن فعل ما يتوجب فعله، إلا أن الشيء الوحيد الذي تجب مراقبته، هو مدى تحرك القوات الروسية بعيداً عن أوكرانيا والعودة إلى مواقعها النظامية. ففي حين لم يتم تحقيق أي اختراق في المواقف خلال قمة بايدن – بوتين، إلا أن التهديد بالتصعيد الروسي لايزال قائماً وسيظل الوضع يتطلب يقظة وعزيمة من حلفاء الولايات المتحدة خلال الأسابيع المقبلة.
ويقول مايكل كوفمان، خبير الشؤون العسكرية الروسية في المركز الأميركي للتحليلات البحرية، إن موسكو تريد أن توافق الولايات المتحدة على تحييد فعلي لأوكرانيا، الأمر الذي سيكون له تداعيات عميقة على كيفية إدارة الأمن في أوروبا، وهو لا يعتقد أن القوات الروسية المتواجدة على حدود أوكرانيا يمكن أن تنسحب من الميدان من دون أن تحقق مكاسب سياسية.