شكل النزاع في بحر الصين الجنوبي فصلاً طويلاً لصراعات إقليمية في منطقة شرق وجنوب شرقي آسيا ارتد صداها على المستوى العالمي، وتكمن أهمية بحر الصين عالمياً لتأثيره المباشر في الاقتصاد العالمي، فثلث حركة النفط والتجارة البحرية العالمية يمر عبر المسطح المائي الصيني، كما أن المناوشات السياسية الأميركية - الصينية التي احتدمت بين الجانبين في الآونة الأخيرة ترجمت على أرض الواقع بتزايد الوجود العسكري في المنطقة، فمع إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا تحالف "أوكوس AUKUS" العسكري، وهو التحالف الثلاثي الأمني التاريخي الأبرز منذ الحرب العالمية الثانية في محاولة غربية لوقف المد الصيني المتزايد في المنطقة، استنكرت الصين الاتفاق واصفة إياه بغير المسؤول، مؤكدة أن التحالف الغربي في البحر الصيني يقوض السلام والأمن في المنطقة ويزيد من سباق التسلح، متهمة الدول الغربية المشاركة في "أوكوس" بالرجوع إلى عقلية الحرب الباردة.
وتباينت ردود أفعال دول "أسيان" خصوصاً التي لها نزاع مع الصين حول البحر الجنوبي، فالتحالف الغربي الجديد خلق انعكاساً متبايناً واختلافاً في الرؤى عن مدى جدوى التحالف الغربي الجديد في حلحلة التنازع البحري في المنطقة.
نزاع جيوسياسي متجدد
ويحد بحر الصين الجنوبي بروناي وكمبوديا وإندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وتايوان وتايلاند وفيتنام، ويلعب البحر الجنوبي دوراً جيوسياسياً كبيراً في منطقة المحيط الهادئ والهندي، إذ يمر عبر هذه المياه العديد من السفن التجارية، كما يعتبر بحر الصين منفذاً لإمدادات الطاقة لدول صناعية كبرى مثل كوريا الجنوبية واليابان، ويمتاز بحر الصين الجنوبي بوفرة الثروة السمكية والغاز والبترول مما يجعله بيئة خصبة للنزاع.
وللمنطقة البحرية أهمية اقتصادية ضخمة، ويمر في البحر الصيني الجنوبي حوالي أربعة تريليونات دولار من إجمالي التجارة العالمية سنوياً، في وقت نقلت ناقلات النفط ما يقرب من 30 في المئة من النفط العالمي عبر البحر المتنازع عليه، ويكنز البحر الصيني أكثر من 190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و11 مليار برميل من البترول.
وتعود النزاعات في المنطقة البحرية إلى السيادة الإقليمية في الجزر في بحر الصين الجنوبي لفترة طويلة، وتسببت في خلق توترات واضطرابات في المنطقة، وعملت الأمم المتحدة على الحد من هذه النزاعات بإقرار معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1994، التي تعد الإطار القانوني الذي وضعته الأمم المتحدة لموازنة المصالح الاقتصادية والأمنية للدول التي تطل على البحر.
وتنص هذه المعاهدة على امتلاك الدول المطلة على البحر بما يعرف بـ "المنطقة الاقتصادية الخالصة"، فهي المنطقة التي تمتد لـ 200 ميل بحري من ساحل البلد، ووفقاً لقانون الأمم المتحدة للبحار، منح المنطقة الحصرية الاقتصادية حقوقاً خاصة تابعة لتلك الدول، والامتياز الحصري لها بالاستكشاف والتنقيب في المنطقة البحرية والاستفادة من مواردها البحرية، مع إتاحتها للمرور البحري للسفن الدولية.
أذرع عسكرية صينية
وترتفع أصوات الشجب والتنديد من قبل مسؤولي دول جنوب شرقي آسيا على التجاوزات والاختراقات الصينية للمنطقة الاقتصادية الحصرية، وتتكرر الدعوات إلى احترام معاهدة قانون البحار التي تنظم الوجود الإقليمي للدول في المنطقة البحرية، فلم تخل القمة الأخيرة التي عقدت بين الصين و"أسيان"، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي من آثار هذا النزاع، فقد أكد الرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي عن المخاوف الخطرة من التدخلات الصينية، ووصف حادثة اعتراض خفر السواحل الصيني الإمدادات الغذائية إلى العسكريين بـ "المقيت".
الصين التي تسعى إلى بسط نفوذها البحري أثناء الفترة الأخيرة من خلال تأسيس وتطوير قواعد عسكرية جديدة في المنطقة وبناء جزر اصطناعية، تقابلها اعتراضات من دول "أسيان" وتخوف من قبل جيرانها.
واتهمت التقارير الأميركية الصين بالسعي المتنامي إلى تحويل بحر الصين الجنوبي منطقة عسكرية من خلال المعدات العسكرية المتطورة التي شملت صواريخ مضادة للسفن ومدافع مضادة للطائرات وصواريخ أرض جو ومعدات التشويش الإلكتروني على الجزر الاصطناعية في المناطق المتنازع عليها.
وفي تطور ملحوظ لبث السيطرة الصينية على المناطق المتنازع عليها في البحر الصيني الجنوبي، أعلن الإعلام الصيني المحلي في سبتمبر (أيلول) الماضي أحقية خفر السواحل الوطني الصيني بمطالبة السفن الأجنبية بالكشف عن ماهية شحناتها عند عبور المياه التي تزعم الصين سيادتها عليها، ويخول القانون الصيني الجديد رفض دخول أي سفن أو قوارب يرى فيها خطراً على الأمن القومي الصيني.
وعلى الرغم من ذلك تنفي الصين السعي وراء الاستحواذ على منطقة بحر الصين الجنوبي، أو خلق إمبراطورية بحرية في المنطقة كما يقول المتحدث باسم وزير الخارجية، وتؤكد الحكومة الصينية أنها تعامل جيرانها على قدم المساواة وتسعى إلى حماية سيادتها وحقوقها في المنطقة البحرية.
تحركات مضادة
وتتخوف الولايات المتحدة وعدد من الدول الكبرى من سيطرة بكين على المنطقة البحرية التي تعد شرياناً أساساً في حركة التجارة العالمية، وكذلك لديها أهمية استراتيجية قصوى، لذلك تقترب واشنطن من دول المنطقة، وتشهد السنوات الأخيرة زيادة التعاون العسكري مع بلدانها لكسر الهيمنة التي يحاول الجانب الصيني فرضها على منطقة النزاع، ويظهر ذلك في عدد من الخطوات خلال العام الحالي، ففي يوليو (تموز) الماضي أعلنت إندونيسيا والولايات المتحدة إنشاء مركز تدريب لخفر السواحل في أقصى جنوب بحر الصين الجنوبي، وينظر إليه على أنه خطوة لتثبيت أركان الوجود الإندونيسي في المنطقة البحرية المتنازع عليها، إلى جانب تنظيم كثير من دول الإقليم تدريبات عسكرية مشتركة، مثل إجراء إندونيسيا والولايات المتحدة أكبر تدريب عسكري مشترك باسم "درع جارودا" هذا العام، والتدريبات البحرية بين الهند وفيتنام في بحر الصين الجنوبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولتأكيد الولايات المتحدة على اهتمامها بالمنطقة، استكملت واشنطن تدريبها العسكري السنوي مع مانيلا هذا العام، وكذلك فإن الوجود الغربي أصبح ظاهراً من خلال إرسال السفن والقوات البحرية لعدد من الدول، مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا مقاتلات وسفناً حربية بين حين وآخر إلى المنطقة لحماية "حرية الملاحة" وذلك لاستعراض القوة، وغالباً ما يعبرون من خلال البحر الذي تطاله النزاعات كي يثبتوا الحق في الإبحار خلاله باعتباره مياه دولية، مما يفسر إقدام الصين أحياناً على تصرفات وصفت بالعدوانية.
أستراليا على الخط
وعلى الرغم من أن أستراليا ليست طرفاً في نزاع بحر الصين الجنوبي وجيرانه، وبحكم موقعها الجغرافي، تتخوف من أي اضطرابات تحدث في المنطقة ما يبعثها على القلق المتزايد من سيطرة الصين على المنطقة البحرية، فلديها اهتمام ومصالح قوية في بحر الصين الجنوبي من الناحيتين الاقتصادية وحرية التجارة والملاحة.
وتظهر بعض التقارير تحذيرات من أن أستراليا أصبحت في الوقت الحالي تحت ضغط سياسي لإرسال مزيد من مقاتلاتها للحفاظ على مصالحها في الإقليم، ويتوقع مشاركة أستراليا في تدريبات بحرية ثنائية مع دول "أسيان" المنخرطة في النزاع، وخطت أستراليا خطوتها الأولى بالولوج إلى دائرة النزاع في المنطقة مع إعلانها إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا في منتصف سبتمبر الماضي، تكوين تحالف أمني جديد وصف بـ "التاريخي" في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وفسرت الخطوة بمحاولة لوقف المد الصيني المتزايد في المنطقة، ويلمح مراقبون إلى أن التحالف الغربي هو أبرز اتفاق أمني بين الدول الثلاث منذ الحرب العالمية الثانية.
ويسمح الاتفاق الجديد لأستراليا بامتلاك غواصة بالطاقة النووية للمرة الأولى باستخدام تقنية أميركية، ويصف بعض المحللين الاتفاق بكونه واحداً من أكبر الشراكات الدفاعية بين الدول على الإطلاق، وسيركز الاتفاق على القدرات العسكرية، ويتضمن الاتفاق الثلاثي مشاركة القدرات الرقمية والتقنيات الخاصة بأعماق البحار، وأجمعت الدول الثلاث على أن الاتفاق فرصة تاريخية لحماية القيم المشتركة ودعم الأمن والرفاهية في منطقة المحيط الهادئ الهندي، وستصبح أستراليا بفضل التحالف الجديد الدولة السابعة عالمياً المشغلة للغواصات التي تعمل بالطاقة النووية بعد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين والهند وروسيا.
ووقعت أستراليا كذلك على اتفاق مع الحكومة الإندونيسية يمكن الطرفين من إجراء تدريبات عسكرية مشتركة، وابتعاث الطلاب الإندونيسيين للأكاديميات العسكرية الأسترالية.
مواقف متباينة
ورداً على التحالف الجديد استنكرت الصين الاتفاق الثلاثي واصفة إياه بغير المسؤول، مؤكدا أن الاتفاق الجديد يقوض السلم والأمن في المنطقة ويزيد من سباق التسلح، كما اتهمت السفارة الصينية في واشنطن البلدان الشريكة بعقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجي.
ويرى مراقبون صينيون أن الاتفاق الجديد تحالف أنشأته الولايات المتحدة لتنفيذ استراتيجيتها بشأن منطقة المحيط الهادئ والهندي، مع التركيز على أهداف عسكرية أقوى، بينما ينفي محللون آسيويون تشبيه التحالف الثلاثي الغربي الحالي بما حدث في الحرب الباردة، أو تأسيس تحالف "الناتو" في آسيا، معللين ذلك بالتوجه العام السائد المبني على التكامل الاقتصادي العالمي، والذي يختلف كثيراً عن الانقسام والمواجهة بين المعسكرين في الحرب البادرة، مشيرين إلى صعوبة اجتذاب الولايات المتحدة مزيداً من الدول الغربية في التحالف بسبب تراجع الهيمنة الأميركية وفقدانها للثقة بين حلفائها.
وفي "أسيان" اختلفت ردود الفعل بشأن التحالف الجديد المتباين في المواقف الخاصة بدول الإقليم المبني على رؤيتها للتدخل الغربي في نزاع بحر الصين الجنوبي، ففي الوقت الذي رأت فيه الفيليبين اتفاق "أوكوس" داعماً لمنع أي سلوك عدواني من الصين، أشارت إندونيسيا إلى إمكان إشعال التحالف سباق التسلح بالمنطقة، والإضرار باتفاقات عدم الانتشار النووي، في وقت ينظر للتحالف الغربي بأنه خطوة عملية من الدول الثلاث للتصدي للتحركات الصينية العدوانية في منطقة المحيط الهادئ والهندي.