على الرغم من قرار الرئيس الأميركي جو بايدن رفع السرية عن 1491 وثيقة جديدة حول التحقيق في اغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963، فإنها سببت خيبة أمل كبيرة لأنها لم تقدم في الواقع أية معلومات مهمة، ما عزز من نظريات المؤامرة التي ارتبطت بالحادثة على مدى 58 عاماً، وزاد من الشكوك بأن ما تخفيه الحكومة الأميركية قد لا يظهر للعلن أبداً، فما أبرز ما كشفته الوثائق وهل ستتكشف آلاف الوثائق الجديدة العام المقبل أم ستظل أسرار اغتيال كينيدي حبيسة الأدراج؟
إضعاف الثقة
لم تتسبب الوثائق الجديدة التي كشف عنها الأرشيف الوطني الأميركي استجابة لأمر تنفيذي من الرئيس بايدن سوى في مزيد من إضعاف الثقة في الحكومة الأميركية، إذ تبين للصحافيين والباحثين أن الملفات الجديدة هي خليط من تلك التي تم إصدارها سابقاً بشكل جزئي أو كلي، وما تكشف عنها الآن لا يبدو أنه يضيف أي معلومات أو خيوط جديدة مهمة، ما يثير انتقادات متكررة بشأن تعامل الحكومة مع هذه الوثائق، وسبب استغراق ما يقرب من 60 عاماً لنشر المعلومات حول حادثة خطيرة بحجم اغتيال رئيس الولايات المتحدة في أوج الحرب الباردة، بينما لا تزال هناك أكثر من 13500 وثيقة أخرى لم ترفع السرية عنها بعد.
وفي حين أن الخطاب الرسمي للرئيس بايدن يتحدث عن روح الشفافية، فإن موجز الأرشيف الوطني لم يقدم مساعدة حقيقية للمؤرخين والباحثين لتأكيد هذه الشفافية من حيث توضيح ومقارنة الوثائق الجديدة بالقديمة، وتلك المنقحة مسبقاً أو ما إذا كانت الوثائق قد رفعت عنها السرية لأول مرة، الأمر الذي أحدث قدراً من الارتباك، وجعل باحثين مثل ريكس برادفورد، الباحث في مؤسسة "ماري فيريل"، التي تسجل آلاف الوثائق المتعلقة بجون كينيدي، يعتقد أن الأمر قد يستغرق أسابيع عدة لتقييم ما إذا كان هناك أي شيء جديد حقاً في الملفات الأخيرة حول الاغتيال.
وكتب فيليب شينون، الخبير في ملف اغتيال كينيدي، في مقال نشره موقع "بوليتيكو" أن هناك على الأرجح وثائق لن يتم الكشف عنها لأسباب أمنية، وهذا يعزز فكرة أن المؤامرات الشريرة حول وفاة كينيدي لها أساس في الواقع.
ولا تزال عائلة كينيدي تنتظر نشر كل الوثائق على الملأ، فقد أعرب روبرت كينيدي جونيور، ابن شقيق جون كينيدي، عن غضبه من أن بعض الملفات ستبقى سرية حتى نهاية العام المقبل 2022 لمزيد من المراجعة من أجهزة الاستخبارات وأجهزة الأمن القومي، معتبراً أنه أمر شائن، وانتهاك للديمقراطية الأميركية، كما انتقد النائب السابق باتريك كينيدي، ابن صديق بايدن السيناتور الراحل تيد كينيدي، قرار تأجيل رفع السرية عن بعض الملفات، التي قال إنها تعزز كثيراً من نظريات المؤامرة وتزيد من عدم الثقة في الحكومة بشكل عام.
الحقيقة الغائبة
وبالنسبة إلى غالبية الأميركيين الذين عاشوا وقائع الاغتيال المريب للرئيس كينيدي يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1963، ما زال الأمل يراودهم في معرفة الحقيقة الغائبة، بخاصة أن لي هارفي أوزوالد الذي اتهم بإطلاق ثلاثة أعيرة نارية على الرئيس جون كينيدي خلال تجوله في سيارة مكشوفة مع زوجته جاكلين في شوارع مدينة دالاس بولاية تكساس، نفى التهمة عندما ألقي القبض عليه، قبل أن يُقتل بعد يومين فقط من الحادثة على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام ووسط رجال الشرطة على يد جاك روبي، وهو صاحب ملهى ليلي ادعى أنه غاضب من اغتيال كينيدي.
نظرية المؤامرة
وعلى الرغم من أن اللجنة التي تشكلت بعد عام من اغتيال كينيدي تحت اسم لجنة "وارن"، قررت أن الاغتيال كان نتيجة أفعال فرد واحد هو أوزوالد، وليس مؤامرة أوسع، فإنها تعرضت لانتقادات شديدة، ما أدى إلى قيام كثيرين بنسج كثير من نظريات المؤامرة حول تفسيراتهم للأحداث، واعتقد البعض أن أوزوالد، المتعاطف مع الشيوعية والمتزوج من روسية، جنده الزعيم الكوبي السابق فيدل كاسترو أو عملاء الاستخبارات الروسية بعد محاولات كينيدي إسقاط حكم كاسترو وفشل عملية خليج الخنازير عام 1961 وما تلا ذلك من أزمة الصواريخ الكوبية مع السوفيات في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1962، بل زعم آخرون أن خصوم كينيدي السياسيين وأصحاب المصالح يقفون وراء الاغتيال، ربما بدعم من الاستخبارات المركزية الأميركية أو مكتب التحقيقات الفيدرالي، اللذين يحتفظان بآلاف الوثائق التي لم يكشف عنها حتى الآن.
وبينما خلص التحقيق الرسمي الذي أجرته لجنة "وارن" عام 1964 إلى أن أوزوالد كان المسلح الوحيد الذي قتل كينيدي، لكن تحقيقاً تالياً أجرته لجنة تابعة لمجلس النواب الأميركي بعد نحو عقد ونصف العقد من حادثة الاغتيال، وجد أنه على الرغم من أن الأدلة تدعم الاستنتاج بأن أوزوالد كان القاتل، فإنه لم يستبعد أن مقتل كينيدي ربما كان نتيجة مؤامرة.
"النمس" والمافيا
ومن بين قصص المؤامرة التي انتشرت لفترة طويلة، الشائعات التي ترددت عن تورط شخصيات مافيا أميركية رفيعة المستوى، في عملية أطلقتها الاستخبارات المركزية الأميركية بأمر من الرئيس كينيدي في نوفمبر عام 1961 تحت اسم "مونغووز" بمعنى "النمس"، واشتملت هذه العملية على مجموعة واسعة من المؤامرات لتخريب اقتصاد كوبا والتجسس عليها بعد فشل كارثة غزو خليج الخنازير في أبريل (نيسان) عام 1961 وكانت الاستخبارات الأميركية تستفيد من المافيا بسبب صلاتها في كوبا وغضبها من كاسترو بعد إغلاقه الكازينوهات التي كانت تديرها في هافانا.
وتشير ملفات كشفت عنها لجنة شكلها مجلس الشيوخ للتحقيق في انتهاكات الأنشطة الاستخباراتية عام 1975 إلى أن روبرت كينيدي شقيق الرئيس جون كينيدي، كان جزءاً من مجموعة سرية تابعة لمجلس الأمن القومي تشرف على عملية "النمس"، وكان يبدو بالنسبة إلى كثيرين القوة الدافعة الرئيسة في المجموعة، كما كشفت هذه الملفات أيضاً عن دور محامي المافيا الذي كان يعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحسب بعض روايات الكتب التي جسدها فيلم المخرج أوليفر ستون عام 1988 تحت اسم "جيه أف كيه" وهو اختصار اسم جون كينيدي، فإن أوزوالد الذي كان جندياً في مشاة البحرية الأميركية كان مشاركاً في عمليات "النمس"، حيث استغلته الاستخبارات المركزية الأميركية لاختراق الجماعات الشيوعية في كوبا بسبب أنشطته العلنية المؤيدة لكاسترو، ومع ذلك، فإن الوثائق التي رفعت عنها السرية، يوم الأربعاء، لم تكشف عن أي صلة من هذا القبيل، بل شملت شهادة من رئيس عمليات "النمس" إدوارد لانسديل الذي نفى أي صلة للمافيا بهذه العمليات.
ما كشفته الوثائق؟
لكن نظرية المؤامرة بشكل عام لم تكن غائبة عن الوثائق التي رفعت عنها السرية، ويتحدث تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مكون من 73 صفحة، عن أن عدداً من مسؤولي الوكالة في الداخل والخارج لم يكونوا مقتنعين بأن أوزوالد هو الجاني الوحيد، وجاء في التقرير غير المؤرخ أن الوكالة ومحطاتها الميدانية، لا سيما في مكسيكو سيتي وميامي، لم تغفل احتمال أن أوزوالد لم يتصرف بمفرده، بخاصة أن الوكالة كانت تراقب أوزوالد خلال رحلة قام بها إلى مكسيكو سيتي في أواخر سبتمبر (أيلول)، وأوائل أكتوبر عام 1963، أي قبل اغتيال كينيدي بشهر واحد، حيث التقى مع القنصل فاليري فلاديميروفيتش كوستيكوف، عميل الاستخبارات السوفياتية في العاصمة المكسيكية.
وتوضح مذكرات أخرى بالتفصيل لقاءات أوزوالد الذي تزوج من روسية وكان متعاطفاً مع الشيوعيين مع نشطاء شيوعيين في المكسيك، وتفاصيل عن كيفية محاولته التخلي عن جنسيته الأميركية قبل أربع سنوات من الاغتيال ليصبح روسي الجنسية.
وتصف وثيقة أخرى الأساليب المستخدمة لتعقب أوزوالد في مكسيكو سيتي، بما في ذلك اعتراض المكالمات الهاتفية، وتفاصيل أخرى عن أساليب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للتجسس على الاتحاد السوفياتي في المكسيك، كما طلبت الوكالة معلومات حول قائمة الأفراد الذين ربما كانوا على صلة بأوزوالد عندما كان يعيش بمدينة مينسك في الاتحاد السوفياتي من عام 1959 إلى عام 1962.
اتصالات ساخرة
غير أن الوثائق تضمنت أيضاً العديد من الاتصالات عقب اغتيال الرئيس كينيدي التي اعتبرتها الأجهزة الأمنية أنها لا تتمتع بالمصداقية وأحياناً ما تكون ساخرة، وتصف مذكرة مكتوبة بخط اليد تعود إلى شهر مايو (أيار) 1964 العديد من الاتصالات التي تدفقت على وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية في أعقاب الاغتيال، منها واحدة بعد يومين فقط من مقتل كينيدي، إذ أرسل الملحق العسكري للولايات المتحدة في كانبيرا بأستراليا برقية إلى وكالة الاستخبارات المركزية للإبلاغ عن أن شخصاً يدعي أنه سائق بولندي في سفارة الاتحاد السوفياتي، اتصل هاتفياً للإبلاغ عن أن الحكومة السوفياتية مولت اغتيال كينيدي، غير أن أجهزة الأمن الأسترالية اعتبرت المتصل شخصاً مهووساً لأنها لم تتمكن من التعرف على أي موظف بولندي في السفارة السوفياتية.
وتنص مذكرة أخرى على أن السفارة الأميركية في ستوكهولم تلقت خطاباً في اليوم التالي للاغتيال، يتهم الصين الشيوعية بالتخطيط للعملية، لكن تحليلاً أجرته وكالة الاستخبارات المركزية حدد أن الرسالة المجهولة كتبها سويدي باستخدام آلة كاتبة تعمل بلوحة مفاتيح سويدية، كما تلقت السفارة الأميركية في سان خوسيه بكوستاريكا خطاباً في أواخر نوفمبر 1963 يزعم أن اغتيال كينيدي كان جزءاً من مؤامرة لقتل جميع رؤساء العالم الحر، وهي رسالة اعتبرتها الاستخبارات الأميركية عملاً من أعمال السخرية والدعابة.
هل ستتكشف الحقيقة؟
ووسط الجدل حول حقيقة اغتيال كينيدي ومن يقف وراءها، قد يقرر الرئيس بايدن الكشف الكامل عن آلاف الملفات والوثائق الإضافية في ديسمبر (كانون الأول) 2022، لكنه أيضاً قد يقرر تأجيلها إلى أجل غير مسمى إذا تمكنت الوكالات الاستخباراتية من إقناعه هو أو من سيأتي بعده من رؤساء، بأنهم في حاجة إلى إبقاء الوثائق سرية لحماية الأمن القومي الأميركي، على الرغم من أن قانون جمع سجلات اغتيال الرئيس كينيدي الصادر عام 1992 الذي يشترط الكشف عن كل السجلات الحكومية المتعلقة بالاغتيال لتمكين الجمهور من الحصول على معلومات كاملة، غير أن البيت الأبيض يتعرض لضغوط من بينها ما يخطط له البعض لمقاضاة بايدن للحصول على أمر من المحكمة يوجه الرئيس إلى رفع السرية عن الوثائق المتبقية.