يقدم الروائي الإيطالي أليساندرو باريكو عمله الروائي "ثلاث مرات في الفجر" (ترجمة أماني فوزي حبشي، منشورات الجمل، 2021) في صفحات بالكاد تربو على المائة. ومن يتابع أعمال باريكو يدرك أن عنوان هذه الرواية سبق أن ورد في رواية أخرى له بعنوان "مستر غوين"، وهي رواية رائعة حصدت نجاحاً عالميا وتمت ترجمتها إلى لغات عدة من بينها العربية، في الدار المذكورة نفسها وعلى يد المترجمة نفسها (2020).
يعترف باريكو أنه وبمجرد ذكره عنوان هذه الرواية في روايته السابقة شعر بالفضول والتشوق لكتابتها، وما إن أنهى روايته "مستر غوين" حتى شرع بكتابة "ثلاث مرات في الفجر" التي لا علاقة لها بسابقتها، فليست قراءة الأولى شرطاً لفهم الثانية. على العكس، إن الرواية الثانية تحمل ما يكفي من غموض ولبس لزعزعة القارئ الذي يكتشف قصص شخصيات لا يستطيع التعبير عنها بصريح العبارة لأن باريكو لا يمنحه ترف قطع الشك باليقين.
ومن الجدير ذكره، أن العنوان يقدم إيحاءات للقارئ لا علاقة لها بالحبكة، فماذا يحصل ثلاث مرات في الفجر؟ ونضيف هنا أن صفحة الغلاف المختارة للطبعة العربية لا تليق بالنص تماماً ولا تمنحه الوهج الذي يحمله، بل ترميه في متاهة هو في غنى عنها وتؤجج لدى القارئ توقعات ليست صائبة تماماً ولا توافق النص للأسف. فبينما يظهر الغلاف صورة امرأة نائمة في سريرها، لا يقترب الفضاء السردي بأي طريقة من هذه الثيمة، على العكس، فالمرأة الوحيدة في الرواية هي شرطية محترفة ولا مشاهد حميمة بينها وبين أي شخصية طيلة السرد.
رواية مزعزعة
تقوم رواية باريكو على ثلاثة فصول مرقمة: واحد، اثنان، ثلاثة. فيغوص القارئ في أحداث القسم الأول الذي تدور أحداثه في فندق بين رجل وامرأة، وما يكاد يتفاعل مع الشخصيتين الرئيستين ويبدأ بفهم سماكتهما النفسية وماضيهما وكيف وصلا إلى هذه الغرفة في الفندق، حتى ينتهي الفصل وينتقل السرد إلى الفصل الثاني. فصل تدور أحداثه في فندق أيضاً وبين رجل وامرأة. ولا يكاد السرد يتطور في القسم الثاني حتى يعيد باريكو لعبته نفسها ويهدم الفضاء السردي الذي بناه والذي دام ما يناهز الثلاثين صفحة، ليقفز إلى الفصل الثالث والأخير الذي يبدأ هو الآخر في فندق وبين صبي وامرأة وينتهي أيضاً بعد حوالي أربعين صفحة من دون أن يشفي غليل القارئ ولا يشبع نهمه.
لكن المشكلة لا تكمن هنا. المشكلة في هذه الرواية تكمن في أن الرجل والمرأة هما نفسهما في الفصول الثلاثة، إنما ليس بالضرورة، فالتطور الكرونولوجي الذي تدور الأحداث وفقه لا يوافق أي منطق ولا نظام، فتشكل الرواية عقدة للقارئ الذي لا يستطيع الامتناع عن الشك في قدراته التحليلية. فبينما اسم الرجل هو مالكوم في الفصول ثلاثتها، وبينما تترابط حبال قصة حياته في الفصول ثلاثتها، إلا أن الزمن مفكك وغير منطقي. كذلك هي حال المرأة التي تعمل مع الشرطة، والتي يعيد باريكو وصفها وفق الطريقة نفسها في الفصول كلها، لكنها مع ذلك لا تشكل وحدة متماسكة. فالرجل والمرأة الأربعينيان في الفصل الأول، يتابعهما الفصل الثاني ويكون الرجل فيه قد كبر ثلاثة عشر عاماً، أما المرأة، فتكون قد عادت إلى سن السادسة عشرة، أما الفصل الثالث، فيرافق مالكوم وهو في الثالثة عشرة، والمرأة الشرطية قد أصبحت على وشك التقاعد أي في عمر السادسة والخمسين. أين وحدة الزمن الذي يتقدم بالتوازي بين الشخصيات كلها، هل الرواية تدخل في سياق التجريب الروائي الذي يخربط نظام السرد والزمن؟
امرأة واحدة
هل المرأة في الفصول الثلاثة هي نفسها؟ كل شيء يشير إلى ذلك، حياتها، خصالها، أفكارها، شكلها، طريقة وصفها حتى هي نفسها، فيقول الراوي عنها في الفصل الأول: "فقط في تلك اللحظة لاحظ عينيها، كانتا فاتحتين، ولكن رماديتان، كأنهما لذئب، وأدرك أين كان يبدأ جمالها". (ص: 45)، ثم يصف المرأة في الفصل الثاني قائلاً: "كانت صبية... عينان فاتحتان، ولكنهما رماديتان، كالذئبة". (ص: 53). أفتراهن ثلاث نساء أم واحدة؟ وماذا عن الرجل "مالكوم" الذي يبيع موازين (جمع ميزان) والذي ارتكب جريمة كلفته ثلاث عشرة سنة من السجن والذي تتراكم تفاصيل حياته في الفصول الثلاثة بصلابة من دون أن يكون الزمن متوافقاً متجانساً قابلاً للتراكب في أي منها؟
وعلى الرغم من أن الكاتب يحذر قارئه من أن هذه الرواية واقعية إنما لا يمكن أن تقع فعلاً على أرض الواقع، وعلى الرغم من أنه يوضح في بداية السرد أن الفصول تحكي قصة شخصين يلتقيان ثلاث مرات وكل مرة منها هي الأولى والأخيرة في الوقت نفسه، إلا أن ذلك لا يسهل مهمة فك اللغز. لغز هو في الواقع جوهر عبقرية الكاتب الذي يضفي المزيد من العبثية على نصه عبر حوارات قصيرة تقوم بين الشخصيتين وتشكل معظم مساحة الرواية وتذكرنا بأعمال بيكيت وبخاصة نصه المسرحي "بانتظار غودو". وعلى الرغم من أن الصحافة الأوروبية قد أخذت على باريكو إفراطه في توظيف الحوار فإنه لا بد من الاعتراف بأن السرد أفاد منه قطعاً فقد تحول إلى لعبة أكثر حنكة وعبثية.
عقدة الفجر
تبدأ أحداث رواية أليساندرو باريكو في فصولها الثلاثة في فندق هو "ذو أناقة شاحبة بعض الشيء." (ص: 13). وعلى الرغم من غياب أي دليل على أن الفندق هو نفسه في الفصول الثلاثة، كما هي حال كل عناصر السرد في هذه الرواية، إلا أن الوصف يكاد يتشابه، ويكاد القارئ يجزم أن الأحداث تدور في برمنغهام، ميدلاندز ببريطانيا (ص: 104). إنما طبعاً لا دليل قاطعاً على ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المؤكد الوحيد في هذه الرواية هو الفجر، هو العنصر الثابت الوحيد في الفصول كلها، فهو يأتي ليغير مجرى الأحداث وينقل الشخص التائه الحزين إلى بر الأمان. فيضع القارئ يده على حنكة باريكو السردية عندما يجد أن الفجر هو دائماً موجود بوصف سريع قصير ثاقب تتغير الأحداث من بعده. ففي الفصل الأول يرد: "وفي ذلك الوقت استطاع أن يزيح الستائر بعض الشيء. كان الفجر". (ص: 39)؛ ثم في الفصل الثاني من بعد تدهور الأحداث بين حارس الفندق والفتاة الشابة يقول الحارس: "انظري إلى الخارج، إنه الفجر بالفعل". (ص: 72)، ويأتي الفصل الأخير ليمنح الأمل لكل من ينتظر الفجر: "انظر كم هو رائع! ماذا؟ الضوء، هناك فوق. هذا اسمه الفجر– الفجر". (ص: 119). يتحول الفجر إلى القاسم المشترك الوحيد الأكيد بين الفصول الثلاثة، فلا المرأة هي نفسها على الأكيد، ولا الرجل، ولا الفندق، ولا المدينة، ولا السنوات. لا شيء ثابتاً وحقيقياً سوى ضوء الفجر والوعد بالخلاص الذي يحمله.
بين الهرب والانتظار
تدور حبكة السرد في الفصول الثلاثة حول امرأة تؤثر الهرب ورجل يؤثر الانتظار، طباع مشتركة في الفصول كلها، والخط السردي الذي يجمعهما هو أن هناك عملية إنقاذ تحصل. ففي الفصل الأول يشعر الرجل أنه ينقذ المرأة وفي الفصل الثاني كذلك، أما في الفصل الثالث، فالمرأة هي التي تنقذ الصبي ذا السنوات الثلاث عشرة. يتعاون الرجل والمرأة في فصول الرواية لينقذ أحدهما الآخر إنما لا مجال لمعرفة مآل عملية الإنقاذ هذه، فغالباً ما ينقطع السرد مباشرة بعد انبلاج الفجر، وكأن الليل والعتمة والأحداث تسير كلها تجاه الفجر وما إن تبلغه حتى ينتهي كل شيء وكأنه لم يكن.
"ثلاث مرات في الفجر" رواية باريكو القاطعة للأنفاس والمزعزعة، تماماً كما اعتاد القارئ من هذا الكاتب الإيطالي الرائع. فبين هرب وتيه ويأس، فجر ينبلج ووعد بحياة ليست دائماً قاسية.