في الأسبوعين الماضيين، رفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة، وأشار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى تقليص أسرع لبرنامج شراء الأصول وما يصل إلى ثلاث زيادات في أسعار الفائدة في العام المقبل. كل هذا يستند إلى فكرة أن التضخم "العابر" أصبح أكثر ديمومة، حيث ينتقل من السلع والسلع المعمرة إلى مجالات مثل الأجور والخدمات.
كان كثير من الجدل حول النمو والتضخم وأسواق الأسهم يدور حول التحولات التي قد ندخلها أو لا ندخلها. ولكن ماذا لو كان الثابت الوحيد في السنوات القليلة المقبلة هو التقلب؟ ماذا لو بدأت ديناميكيات التضخم التي تبدو راسخة في التأرجح؟ بالإمكان المجادلة بأن هذه ستكون هي الحال لعدد من الأسباب.
أولا، خلقت الآثار المتتالية للوباء بيئة تضخمية على عكس السبعينيات، التي كانت المرة الأخيرة التي شهدت فيها الولايات المتحدة فترة تضخم طويلة، إذ خلق "كوفيد" سلسلة من حالات الركود والانتعاش غير المتزامن في جميع أنحاء العالم. فالولايات المتحدة تسير في حالة "سخونة"، لكن الصين، التي كانت تحاول تقليص فقاعات ممتلكاتها وديونها، هدأت. لذلك حقيقة أن هذين القطبين للاقتصاد العالمي يُفصلان، ليس فقط من حيث التجارة وتدفقات رأس المال، ولكن أيضاً من حيث صور النمو، تجعل من الصعب التنبؤ بمدى تأثير الضغوط التضخمية.
هذا مجرد واحد من عديد من العوامل وراء ما أطلق عليه مزود أبحاث الاستثمار "أس لومبارد" باتجاه "الانقسام"، حيث تدفع عوامل العرض والطلب المتعددة بعضها بعضاً بطرق غير متوقعة. على سبيل المثال، على الرغم من أن العالم قد تكيف مع الطلب المفاجئ المرتفع لـ"كوفيد" على جميع المنتجات الرقمية، فضلاً عن السلع الخاصة بالوباء مثل المعدات الطبية ومعدات الحماية الشخصية والسلع المنزلية، فقد لا يزال هناك بعض الإمداد بعد "كوفيد-19"، حيث الصدمات في الخدمات، التي لم يكن لديها سبب وجيه للاستثمار على مدى العامين الماضيين، مما ترك طاقة فائضة ضئيلة.
ضغوط الأجور
أدى ذلك بالفعل إلى ضغط الأجور. ففي الولايات المتحدة، حيث تُشكل الخدمات غالبية الاقتصاد، تتوقع الشركات أن ترتفع تكاليف الأجور بنسبة 4 في المئة خلال 2022، بحسب "فايننشال تايمز"، حيث تصل ميزانيات الرواتب إلى أعلى مستوى لها في 14 عاماً، وفقاً لمؤسسة كونفرنس بورد، وهي مؤسسة فكرية. في حين أدى النمو المرتفع للأجور بين العمال الأصغر سناً على وجه الخصوص إلى ضغوط على العلاوة النموذجية المقدمة للموظفين الأكثر خبرة، الذين يبحثون بدورهم عن فرص جديدة في سوق عمل ساخنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التأثير الميكانيكي في مؤشر أسعار المستهلكين
في الوقت نفسه، قد تواجه الشركات انخفاضاً في هوامش الربحية. فعلى الرغم من وجود طلب كبير على السلع خلال السنوات القليلة الماضية، فقد نشهد قريباً تخمة في المخزون لدى الشركات المُصنعة وتجار التجزئة، حيث يحذر تجار التجزئة من الإٍفراط في الشراء. فقد أشار تقرير بحثي صادر عن "دويتشه بنك" في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى أن "تجار التجزئة يفرطون في الطلب قبل فترة العطلة المزدحمة" بينما "ينتج المُصنعون ويحتفظون بمخزون أكبر بكثير مقارنة مع الفترة التي سبقت كوفيد". ووفقاً لبنك التسويات الدولية، "يمكن أن يتحول التأثير الميكانيكي في مؤشر أسعار المستهلكين إلى عامل مضاد للتضخم" مع تلاشي اضطرابات سلسلة التوريد و"سلوك التخزين الاحترازي".
وهذا من شأنه أن يسبب حتماً انكماشاً في السلع، حتى مع وجود تضخم في الخدمات. كان أكبر تحول تصاعدي في الإنفاق خلال العام الماضي في مجالات مثل الترفيه خارج المنزل ووجبات المطاعم والسينما والمسرح. لكن هذا أيضاً يمكن أن يتغير بسرعة بناء على مسار متحورات "كوفيد-19"، كما رأينا مع خطط العطلات الملغاة.
كل هذا يؤدي إلى خلق ما أطلق عليه بنك التسويات الدولية أخيراً "تأثير السوط"، حيث تؤدي الجهود المبذولة لإصلاح المشكلات التضخمية الفورية إلى حدوث تموجات معقدة ومؤجلة تؤدي إلى زيادة تشويه الأسعار. فالتحول المدفوع جيوسياسياً من الكفاءة إلى المرونة في سلاسل التوريد، الذي سيفضل كل شيء بدءاً من الإنتاج المحلي إلى العملات الرقمية الجديدة المدعومة سيادياً، سيزيد من إعاقة الاقتصاديين الذين يحاولون نمذجة التضخم بالبيانات من نصف القرن الماضي.
الذكاء الاصطناعي والعمل عن بُعد
أما التكنولوجيا فهي البطاقة النهائية. فالذكاء الاصطناعي يعني أنه يمكنه فعل المزيد مما يستطيع البشر القيام به، إذ تعمل تقنية الجيل الخامس(G5) وإنترنت الأشياء على زيادة كفاءة الأعمال. وكلاهما انكماشي، لكن هذا مجرد جزء من القصة. فالعمل عن بُعد، على سبيل المثال، يخفض أسعار العقارات التجارية، ولكنه يرفع أسعار المنازل. وستكون تركيبات الروبوت (التي ارتفعت بنسبة 12 في المئة هذا العام في الولايات المتحدة) مفيدة للشركات التي تحاول الحفاظ على انخفاض الأسعار، ولكنها ستكون سيئة للعاطلين عن العمل الذين يواجهون ارتفاعاً في تكاليف الوقود والغذاء. والنتيجة؟ هي أننا من المحتمل أن نرى رسائل ذهاباً وإياباً من محافظي البنوك المركزية الذين يكافحون لمعرفة إلى أين تتجه الأمور بعد ذلك؟ أضف إلى ذلك هناك القضايا التاريخية المُتعلقة بفقاعات في الديون والأصول وعقود من انخفاض الأسعار والتيسير الكمي غير المسبوق، مما يجعلنا نعتقد بامتلاكنا لواحدة من أكثر البيئات تعقيداً في ما يتعلق بوضع السياسة النقدية. وإذا كان أي شخص يستحق زيادة في الراتب، فهو بالتأكيد سيحاول معرفة إلى أين يتجه التضخم؟