في أبريل (نيسان) 1995، كنت أستعد للسفر إلى أفغانستان من أجل أول وظيفة تطوعية لي مع إحدى الجمعيات الخيرية في المملكة المتحدة. كنت قد سافرت إلى لندن لمقابلة المدير المسؤول عن شؤون أفغانستان في المنظمة غير الحكومية التي كنت سأعمل فيها، فأدخلوني إلى مكتب المنظمة الصغير حيث جلست أمامه. كان والدي قد سافر إلى أفغانستان في السبعينيات وأحبها، وفتنتني قصصه هناك، وبعد أن حلمت لسنوات بالذهاب إلى أفغانستان، شققت طريقي إليها أخيراً.
كنت متوترة ولم يكن لديَّ أي فكرة عما يمكن توقعه؛ سواء كنت سأجد الدولة التي مزقتها الحرب كما قرأت في الصحف، أو البلد الجميل الذي صوره "رولاند وسابرينا ميشو"، المصوران اللذان جابا أفغانستان في السبعينيات والتقطا ثروة من الوجوه والمناظر الطبيعية في كتبهما المصورة الرائعة. سألت المدير عن خطر حركة طالبان. فأجابني "سيبي، بحلول الوقت الذي ستسيطر فيه طالبان على أفغانستان، سأكون ميتاً وأنت ستكونين سيدة عجوزاً".
ولكن كم كان مخطئاً.
في ذلك الوقت، كان ينظر إلى "طالبان" بشكل عام على أنها مجرد فصيل آخر من المتشددين، المقاتلين المسلمين الذين انتفضوا لطرد الجيش السوفياتي الغازي من أفغانستان. كذلك، اعتقد كثيرون أنهم كانوا متطرفين لدرجة أن نجاحاتهم المبكرة ستكون قصيرة الأجل وذات نتائج لا تذكر. لذلك، لم أركز تفكيري عليهم.
آنذاك، كان عمري 25 سنة. لكن بحلول الوقت الذي بلغت فيه الـ27 من عمري، وكنت ما أزال أعيش في أفغانستان، قرابة نهاية عام 1996، كانت "طالبان" قد استولت على معظم البلاد. وبعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، غزت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وقوات الناتو أفغانستان، ما أدى إلى تشريد "طالبان" وتشكيل حكومة جديدة. غير أن "طالبان" لم تختفِ والنظام الجديد لم يدم. وفي أغسطس (آب) من هذا العام حدث ما كنت أتوقعه منذ فترة طويلة، إذ تسلمت "طالبان" السلطة مرة أخرى. علماً أن المدن ونقاط التفتيش وأي شكل من أشكال المقاومة كانت قد سقطت مثل الكثير من قطع الدومينو قبل ذلك.
الانطباعات الأولى
قمت بدراسة أفغانستان لبعض الوقت قبل أن أنزل في مطار قديم في عام 1995، وبدأت العمل في "فايز آباد، في ولاية بدخشان"، وهي منطقة نائية بمحافظة منعزلة في الجهة الشمالية الشرقية الجبلية من البلاد. في الغالب كان يسكنها "الطاجيك" مع مزيج من المجموعات العرقية الأخرى، بما في ذلك "البشتون" و"الأوزبك". والجدير بالذكر أن البلاد كانت فقيرة قبل الحرب ضد الجيش السوفياتي. وبعد الحرب، تم تدمير البنية التحتية القليلة التي تم بناؤها، ولم تكن هناك ميزانية كافية لترميمها أو حتى لتعيين موظفي خدمة مدنية.
طوال السنوات التي أمضيتها في أفغانستان، كنت دائماً مندهشة من عدد المجتمعات التي لم تحتوِ قط على مدرسة أو عيادة أو مبنى حكومي. في "بدخشان"، شاهدت أطفالاً يحملون عبوات زيت فارغة على ظهورهم ويجمعون كل ما يجدونه من روث الحيوانات على الطريق ليحرقوه كوقود في المنزل. وفي "كابول"، شاهدت الكبار والصغار يبحثون بين أكوام القمامة عن طعام للأكل ومواد لإعادة الاستخدام.
كان نهر "كوكشا" الغاضب والصاخب يقسم "فايز آباد" الصغيرة إلى نصفين، وكانت البلدة مليئة بالرجال ذوي اللحى الكبيرة والبنادق نصف الآلية. وفي غضون ذلك، تجولت جميع النساء في الأماكن العامة وهن يرتدين البرقع. وسرعان ما كونت صداقات معهن، إذ كنت الأجنبية الوحيدة هناك في ذلك الوقت. وحين كانت إحداهن ترحب بي في البازار المحلي، لم أتمكن دائماً من التعرف على صوتها، لذلك كنت أنزل تحت البرقع لأرى من هي، وكنا نتحدث في خيمتنا الزرقاء الخاصة.
لكن التباين بين القرى الصغيرة والعاصمة "كابول" قد يكون صارخاً. ذات مرة، خلال زيارة قمت بها إلى "كابول" قبل تولي "طالبان" السلطة، صدمت عندما رأيت رجالاً يرتدون بدلات في المكاتب ونساء يعملن في الوزارات، فيما لم يسمح لي حتى بتلقي زيارات من النساء في مكتبي في "فايز آباد"، ولم أرَ قط رجلاً يرتدي بدلة هناك. لذلك في عام 1996، عندما وصلت حركة طالبان إلى كابول، حيث كنت أعيش، أحضرت معها إلى العاصمة طريقة حياة كنت قد عشتها بالفعل في "بدخشان".
انبثقت "طالبان" من حركة اليقظة ضد القادة المحليين الذين أصبح فسادهم وعنفهم ضد الناس لا يطاق في مقاطعة "قندهار" الجنوبية
بعد مهمتي التطوعية الأولية، ذهبت للعمل مع مجموعة من المنظمات غير الحكومية في المناطق التي تسيطر عليها "طالبان". منذ أوائل عام 1997، سافرت بمفردي مع سائق أفغاني واحد في جميع أنحاء البلاد، وقمت بأعمال في مجال التنمية الريفية، وغالباً ما ركزت على مساعدة النساء.
كان كل ذلك غريباً للغاية بالنسبة إليَّ. عندما بدأت العمل في أفغانستان، غالباً ما كان الجو متوتراً ومخيفاً بسبب تصرفات بعض القادة المحليين، إذ انتشر القتل والاغتصاب والنهب. لم أكن أسافر بمفردي على الإطلاق خوفاً من الاغتصاب، وكان يتم إيقافي عند نقاط التفتيش حيث طلب المتشددون المسلحون المال أو حاولوا سرقة الأشياء من حقيبتي. لكن الأمور بدأت تتغير ببطء في ظل حكم "طالبان"، إذ لم تمانع الحركة مرافقتي للموظفات من أجل العمل في القرى، كما أنها دعمت أنشطة محدودة للنساء.
بالطبع، كان على النساء ارتداء البراقع، وعلى الأنشطة أن تحترم حدود الدين الإسلامي، وفق الطريقة التي تفسره بها "طالبان". وقبل "طالبان"، عندما كانت مجموعة من أمراء الحرب المتطرفين تدير معظم أفغانستان، كان من الخطير أخذ أي موظفة في رحلات بسبب احتمال تعرضها للاغتصاب، وفي بعض الأحيان واجهنا كثيراً من القيود. فقد وجد الأشخاص الذين تحدثت معهم والذين أداروا مشاريع في الثمانينيات مثلاً، صعوبة كبيرة في الوصول إلى النساء في المجتمعات، كما عانى البعض لإقناع أولياء الأمور بضرورة تعليم الفتيات، حتى في المدارس المنزلية.
لكن ذلك أيضاً بدأ يتغير تدريجياً. إذ طلبت المجتمعات من بعض المنظمات غير الحكومية بناء مدارس للفتيات. علماً أنني عملت في إحدى تلك المنظمات واستمررنا في بناء مدارس للبنات بعد أن استولت "طالبان" على السلطة.
في ذروة قوة "طالبان" في أواخر التسعينيات، غالباً ما كنت في كابول أعمل على قضايا المرأة، وتمكنت مرة أخرى من التفاوض حول وجود المرأة في المشاريع. طوال تلك الفترة، التقيت وزراء وحكاماً وقادة وجنوداً من حركة طالبان، بالإضافة إلى الشرطة المرعبة المسؤولة عن "نشر الفضيلة ومنع الرذيلة".
في الواقع، واجهت كل أنواع المواقف والتصرفات، وفي الوقت نفسه لم يكن وقتا سهلاً على زملائي الأفغان. لكننا نجحنا بشكل ما في شق طريقنا. بعد سقوط "طالبان" في عام 2001، واصلت عملي مع المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة والمتبرعين وحلف شمال الأطلسي والبنك الدولي والحكومة الأفغانية. واصلت رحلاتي وزاد اهتمامي بحركة طالبان، بخاصة بالعودة إلى التفكير في ما شهدته بين عامي 1996 و2001.
بدأت أفكر بشكل أعمق حول الطريقة التي يتم تصوير "طالبان" بها، وكيف أن الوضع لم يكن بالأبيض والأسود كما حاول كثيرون في المجتمع الدولي رسمه. وأدركت أن تجربتي كانت مختلفة تماماً عن "السردية الرسمية" التي تروى عن "طالبان"، وبدأت أتساءل عن السبب. فكرت في ما إذا كان إظهار "طالبان" بشكل مختلف سيؤدي إلى نتائج مختلفة بالنسبة إلى أفغانستان.
حركة للأوقات المضطربة
بدأت تتشكل تساؤلات في ذهني حول هوية "طالبان" وكيف اختلفت عن فصائل المتشددين الأخرى. على سبيل المثال، كان "أحمد شاه مسعود"، القائد الجذاب للجماعة الإسلامية، إحدى أقوى مجموعات المتشددين الأفغان، نموذجاً من أمراء الحرب المتطرفين، إذ كان خطيباً ملفتاً ومثيراً للإعجاب، يتمتع بشخصية كاريزمية.
في المقابل، كان الملا عمر، المؤسس والقائد الأساسي لحركة طالبان، الذي توفي عام 2013، منعزلاً عن العالم. وكان قد فقد إحدى عينيه خلال الحرب ضد السوفيات. ومن هذا المنطلق، ذكرني بشخصيات صوفية أخرى من ماضي المنطقة، مثل المقنع [هاشم بن حكيم] الذي ولد في أفغانستان في القرن الثامن وتشوه عندما حدث انفجار كيماوي، ثم قاد تمرداً شعبياً ضد السلالة العباسية الحاكمة.
كان أتباع "المقنع"، على غرار حركة طالبان في تلك السنوات الأولى، يرتدون ملابس بيضاء. هل كانت هذه مصادفة؟ هل التاريخ يعيد نفسه؟ بالنسبة إلى الجماهير، زاد كل ذلك من غرابة "طالبان"، وجاذبيتها في أعين بعض الناس.
بدأت أبحث عن استغلال "طالبان" الأحداث، العنيفة عادة، لكي تقيم عرضاً تمثيلياً يظهر قوتها. أدركت أن هذا لم يكن مجرد عنف من أجل العنف. بل تم تصميمه لكي يترك أثراً في جمهور معين، بهدف نقل رسالة كانت تدور في العادة حول إبراز قوة الحركة وشرعيتها.
كذلك، أدركت أن هذا النوع من الأداء العنيف كان لغة "طالبان". وإذا نظرنا إلى أفعالها على أنها مبسطة أو وحشية أو متخلفة أو كارهة للنساء، كما يفعل كثيرون، ستفوتنا فرصة تعلم كيفية مواجهتها في ساحة المعركة هذه بالتحديد. علماً أنها ساحة معركة لم تواجه الحركة فيها مطلقاً تحدياً مستداماً، كما توحي عودتها إلى السلطة في العام الحالي.
في الواقع، يجدر بنا أن نتذكر أن حركة طالبان ظهرت خلال فترة شديدة العنف في تاريخ أفغانستان، حين كانت جميع الفصائل الرئيسة متورطة في القتل والاغتصاب والنهب على نطاق ينذر بالخطر.
تحكي قصة أصل "طالبان" كيف تم الاتصال بالملا عمر طلباً للمساعدة بعد أن اغتصب أمراء الحرب المحليون بعض الفتيات الصغيرات عند نقطة تفتيش. وهكذا، انبثقت "طالبان" من حركة يقظة ضد القادة المحليين الذين أصبح فسادهم وعنفهم ضد الناس لا يطاق في مقاطعة "قندهار" الجنوبية. بالنسبة إلى الغربيين الذين كانوا محصنين من العنف اليومي الناتج من العيش تحت حكم المتطرفين، لم تكن "طالبان" مختلفة سوى في الكشف عن عنفها علناً. على الرغم من أن الفصائل الأخرى اختطفت واغتصبت وعذبت وأعدمت، ولكن في كثير من الأحيان بعيداً عن أنظار الغرب.
أتذكر قوات من فصيلة "جونبيش"، وهي جماعة سياسية "طورانية"، وصلت إلى كابول في عام 1996، قبل وقت قصير من سقوط العاصمة. علماً أنها كانت قد جاءت لدعم قوات "الجمعية الإسلامية"، التابعة لأقدم حزب سياسي إسلامي في أفغانستان، فيما كانت على وشك خسارة كابول. نتيجة لذلك، عمَّ خوف ملموس بين السكان، بخاصة بين النساء. وتذكر الناس حالات الاختفاء والاغتصاب والجثث المشوهة من الفترات السابقة عندما دمرت "جونبيش" ضواحي كابول. في ذلك الوقت، لطالما كان العنف بمثابة موسيقى تصويرية قاتمة موجودة في خلفية حياة الناس.
عندما أنظر إلى الوراء، أرى من الواضح أن حركة طالبان كانت تصويرية وأدائية للغاية في وجودها في الساحات العامة، وهذا ما أعطاها القوة. على سبيل المثال، لم تطلب من الناس ببساطة أن يبقوا شعرهم قصيراً؛ بل كانت تمسك بهم وتقص شعرهم بالقوة. كما كانت تستخدم أيضاً عصا خاصة للتحقق ما إذا كان الرجال يحلقون العانة وفقاً للتعليمات. في الحقيقة، عبرت أفعالها عن الهيمنة والسلطة. وكان لها تأثير عميق في المجتمع الأفغاني من خلال الخوف. إذ إن كل قصة رواها الأفغان منذ ذلك الحين ترتبط بشيء حدث لهم في عهد "طالبان". لقد تمكنت من دخول عقول الناس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تطورت حركة طالبان نتيجة لعملية طويلة الأمد تضمنت نشوء الدولة الأفغانية وتحولها وانهيارها، ما ترك الشعب الأفغاني في حالة فقر وأدى إلى اشتعال حرب أهلية دموية. وعندما فكرت في الأمر بعد حين، أصبح واضحاً بالنسبة إليَّ أن "طالبان"، من خلال العروض العنيفة حول السلطة والحكم والعدالة أوجدت مساحة سياسية تخصها وحدها من دون سواها. من نواحٍ كثيرة، كان سلوك "داعش" في سوريا والعراق، بما في ذلك تدمير الآثار، يقلد حركة "طالبان" في تلك الفترة المبكرة.
وفي بحثي المستمر، أقوم بتتبع تلك السنوات المبكرة. ويقول عالم الاجتماع "جيفري ألكسندر"، الذي حلل القوة والأداء خلال الربيع العربي والاضطرابات أثناء وبعد 11 سبتمبر، إن القدرة على تعبئة العناصر الثقافية من أجل تحريك الجماهير هي أساس السلطة السياسية.
والجدير بالذكر أن حركة طالبان أتقنت الأداء الاجتماعي للسلطة باستخدام لغة بصرية وعميقة. إذ إنها تجمع بين الروايات والمعتقدات المشتركة من التاريخ والثقافة الأفغانية في الفترة الإسلامية لكي تخلق قصصاً جديدة حول هويتها والدولة التي تنوي إنشاءها. علماً أن ثلاثة أحداث على وجه الخصوص تكشف عن إتقان "طالبان" هذا النوع من الأداء، كما أنها تشير إلى مراحل رئيسة في كيفية تطور هوية "طالبان".
1. عباءة النبي
أول تلك الأحداث حصل على يد "الملا عمر" عام 1996 واعتبر استثنائياً. إذ قام بإزالة بقايا مقدسة (ذخائر مقدسة) من ضريح في مدينة قندهار، وهي نفسها عاصمة تاريخية سابقة شنت فيها حروب من قبل إمبراطوريات جبارة، كما هو مصور في فيلم بوليوود الرائج، "بانيبات".
كانت تلك الذخيرة عبارة عن عباءة يعتقد المسلمون أنها تخص النبي محمداً، وارتداها في الرحلة الشهيرة من مكة إلى القدس، التي أكملها في ليلة واحدة، نحو عام 621م. وقام "أحمد شاه دوراني"، مؤسس إمبراطورية "دوراني" ودولة أفغانستان الحديثة، بإحضار القطعة إلى قندهار في القرن الثامن عشر من "بخارى"، في "أوزبكستان" الحديثة. والجدير بالذكر أنها من الذخائر التي تنسب إليها المعجزات.
في الواقع، اشتهر الملا عمر بالخجل من الكاميرا. علماً أن لقطات سرية غير واضحة ومأخوذة بيد مهتزة تظهره بشكل غير معهود ودراماتيكي، وذراعيه داخل كمي العباءة التي كان يرفعها عالياً أمام حشد كبير من قندهار.
وغالباً ما تسارعت التطورات المتعلقة بتلك الأحداث. في تلك الحالة، جاء القادة الدينيون من جميع أنحاء أفغانستان وخارجها. وآنذاك، توجب على "طالبان" أن تقرر ما إذا كان قتالها سينتهي في قندهار أم أنه سيستمر حتى المطالبة بكابول. ولكن، تم إعلان الملا عمر أميراً للمؤمنين، ما منحه السلطة الدينية والسياسية لقيادة "طالبان" إلى كابول وإنشاء إمارة أفغانستان الإسلامية.
من خلال لمس ذلك الغرض المبجل أمام الجماهير المحتشدة، كان زعيم "طالبان" يطالب بالشرعية الإسلامية والأفغانية، على أساس ارتباطه بالنبي محمد وأحمد شاه دوراني. أوضح ذلك الحدث أنه لم يصل إلى هناك بقوة السلاح فحسب وأنه لم يكن قائداً عادياً لفصيل من المتشددين. بل كان يضع نفسه في مرتبة النسب من نبي الإسلام وملوك السلالة الدورانية في أفغانستان. كما كان يدعي امتلاكه السلطة الأخلاقية والدينية التي تخوله وضع ذراعيه في كمي العباءة المقدسة.
على الرغم من وصف المتطرفين بالمحاربين المقدسين خلال حربهم ضد الجيش السوفياتي، وادعاء قادتهم امتلاك السلطة المعنوية، لم يعبر أي منهم بمثل تلك المصطلحات الدرامية والرمزية أمام حشد من الآلاف. ونادراً ما رأى الجمهور تلك الذخائر، إذ تمت إزالتها آخر مرة من الضريح قبل عقود، أثناء تفشي وباء الكوليرا، لذا فإن رؤيتها بتلك الطريقة كانت أقرب شيء إلى المعجزة بالنسبة إلى الناس الذين تجمعوا. بدأ الحشد يهتف "الله أكبر" و"أمير المؤمنين".
2. الرئيس الميت
وفي صورة انفجرت مثل قنبلة في أول يوم بعد استيلاء "طالبان" على كابول في أواخر سبتمبر 1996، ظهر شابان من جنود المشاة التابعين لحركة طالبان، يعانق أحدهما الآخر والبهجة تملأ وجهيهما، ويقفان تحت جثتي الرئيس السابق نجيب الله وشقيقه المشوهتين والملطختين بالدماء بشكل بشع، والمتدليتين من عمود إشارة المرور في ميدان "أريانا".
وبعد أن رسخت "طالبان" مؤهلاتها الدينية في قندهار، سعت إلى نقل رسائل مكافحة الفساد والعدالة، لا سيما في كابول، التي اعتبرتها وكراً للظلم. قبل وصولها إلى العاصمة، كانت قد بدأت بالفعل باستعراض أعمال العنف، ما أشار إلى أنها كانت تعتزم التحكم والسيطرة على حياة الناس الخاصة.
تم حظر أجهزة التلفاز وشرائط الفيديو والكاسيتات الموسيقية، وليس بمرسوم فحسب: في الواقع، كانت أجهزة التلفاز المحطمة تتدلى عند نقاط تفتيش "طالبان" مثل العيون العمياء، وشرائط الكاسيت تتطاير في مهب الريح كأحشاء مخلوقات مقتولة ومعروضة مثل الجوائز. وفي الحقيقة، شكل إعدام الرئيس السابق رسالة وحشية وعلنية للغاية وجهتها "طالبان" إلى شعب كابول في صباح اليوم الأول من حكمها في المدينة، ومفادها أنه لن يكون هناك أي استثناءات وكل من يستحق العقاب سيناله.
لكن لماذا ساحة "أريانا" ولماذا الرئيس "نجيب الله"؟
تقع ساحة "أريانا" عند مفترق طرق في قلب المركز التاريخي لكابول. إنها قريبة جداً من القصر الرئاسي، وهو قصر محصن بناه "عبد الرحمن"، "الأمير الحديدي"، الذي عزز أفغانستان ووضع أسس الدولة الأفغانية الحديثة. وقد تم تشييد القصر الرئاسي بعد أن دمرت القوات الهندية البريطانية قلعة "بالا حصار" خلال الحرب الأنغلو-أفغانية الثانية عام 1880. كما أن احتلال القصر لعب دوراً رمزياً في التاريخ الأفغاني الحديث، مع بقاء مركز قوة الدولة الأفغانية داخل أسواره، باستثناء الفترة التي حكم فيها الملا عمر قندهار.
دائماً ما يكون تغيير النظام في أفغانستان دموياً. في الواقع، قتل قادة الجماعات المتطرفة قبل حركة طالبان أعداداً كبيرة من الناس، لكن تلك الوفيات كانت في الخفاء، وحدثت على شكل اغتيالات أو في معارك بالأسلحة النارية. لم يحدث قط إعدام علني لشخصية عامة بارزة مع عرض الجثة وكأن المقتول مجرم عادي. لكن في حالة "طالبان"، لم يكن هناك إخفاء لمقتل الرئيس السابق وتعذيبه، علماً أن كثيرين أحبوه بسبب جاذبيته، وبالدرجة نفسها كرهه الآلاف الذين اختفوا في السجون ولم يظهروا مطلقاً.
لم يكن ذلك القتل بلا معنى، ولا وليد اللحظة. في الحقيقة، كان نجيب الله من العرق "البشتوني"، تماماً مثل "طالبان"، وكان تحت حماية الأمم المتحدة. وعندما ترك الرؤساء والقادة المتشددون كابول قبل سيطرة "طالبان"، عرضوا عليه أن يأخذوه معهم. لكنه لم يغادر، وكان واثقاً من قدرته على التحدث مع "طالبان" لأنهم كانوا رفقاءه من "البشتون".
يمكن تفسير عملية القتل هذه بعدة طرق: أن "طالبان" لن تقدم استثناءات لرفاقها من "البشتون"؛ أن سلطة الأمم المتحدة لم تعنِ شيئاً عندما أرادت "طالبان" تحقيق العدالة لمن قتلهم الشيوعيون؛ أو أن الغزو السوفياتي انتهى هنا بمقتل آخر من تمتع بحمايتهم. واتهم البعض وكالة الاستخبارات الباكستانية، "آي إس آي"، باستخدام "طالبان" للتخلص من أحد خصومها.
تركت الجثتان المخصيتان معلقتين هناك لمدة ثلاثة أيام، كتعبير آخر عن ضعفهما في ظل الجو العام الذكوري الذي تتمتع به "طالبان". وصدرت إعلانات في الراديو، وتجمع آلاف الأشخاص للتفرج على المشهد بصدمة وارتباك. وكان مشهد إعدام نجيب الله هو الأول من بين مشاهد متعددة، والهدف منه ترويع سكان كابول لكي يخضعوا لحركة طالبان ويعتبروها الحكم الإسلامي للعدالة والأخلاق.
تجدر الإشارة إلى أن عمليات القتل تلك تركت انطباعاً عميقاً استمر لفترة طويلة بعد إطاحة "طالبان". بعد ذلك، في كابول كما في أي مكان آخر، فرض البرقع على النساء، واللحية والشعر القصير وأغطية الرأس على الرجال. وعن طريق موظفي "مكتب منع الرذيلة ونشر الفضيلة"، راقبت "طالبان" سلوك الناس وملابسهم. وفرضت أن توجد المرأة في الأماكن العامة بحضور محرم (قريب ذكر) يشرف عليها.
3. تخريب الآثار والتحف القديمة
كان تدمير تمثالي بوذا في "باميان" الواقعة في المرتفعات الوسطى بأفغانستان في عام 2001 من أكثر الأعمال الدرامية التي قامت بها "طالبان". إذ جعل هذا الحدث "طالبان" سيئة السمعة على مستوى العالم. في الواقع، اعتبر التمثالان من أكثر المواقع السياحية شهرة في أفغانستان قبل الحرب، ووصفا بأنهما قطعتان أثريتان لا تقدران بثمن، علماً أنهما أكبر منحوتتين لبوذا في العالم.
جاءت المحاولة الأولى لتدميرهما عندما حاول الإمبراطور المغولي "أورنغزيب" استخدام المدفعية الثقيلة في القرن السابع عشر. ولم ينجح إلا بإلحاق الضرر بهما أثناء الهجوم. ثم حصلت محاولة أخرى في القرن الثامن عشر، قام بها الملك "الفارسي" "نادر شاه أفشار"، الذي وجه نيران المدافع عليهما.
يزعم أيضاً أن الملك الأفغاني "عبد الرحمن خان"، دمر وجه أحد تمثالي بوذا خلال حملة عسكرية ضد تمرد "الشيعة الهزارة" (1888-1893). كما انتشرت شائعات حول استخدام البريطانيين التمثالين في تدريب المدفعية في القرن التاسع عشر. ووفقاً لعالم الإثنولوجيا البروفيسور "بيير سنتليفر"، بدأ المسافرون في القرن التاسع عشر يلاحظون أن وجهي التمثالين غير موجودين. لكن حركة طالبان، تماشياً مع عروض القوة العنيفة التي أدتها، اتجهت نحو شيء أكثر منهجية وإثارة.
في عام 2000، فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حظر توريد الأسلحة إلى "طالبان" لكي يضغط عليها لقطع علاقاتها مع أسامة بن لادن وإغلاق معسكرات تدريب الإرهابيين في أفغانستان. رداً على ذلك، أصدر الملا عمر مرسوماً في 26 فبراير (شباط) يأمر بإزالة جميع التماثيل والمقدسات غير الإسلامية من أفغانستان. حينئذ بدأت حركة طالبان في تحطيم التماثيل البوذية في متحف كابول ابتداء من فبراير 2001.
وكما هو متوقع، حدث حتماً احتجاج دولي. في مذكرات كتبها وزير "طالبان" عبد السلام ضعيف، أشار إلى أن يونيسكو أرسلت 36 خطاباً للاعتراض على التدمير المقترح. وفي ذلك المجال، كان المندوبون الصينيون واليابانيون والسريلانكيون المدافعين الأكثر صخباً عن الحفاظ على التمثالين. وقدم اليابانيون عدداً من الحلول، بما في ذلك دفع المال. كما عرضت منظمة يونيسكو، ومتحف متروبوليتان للفنون (MET) في نيويورك، بالإضافة إلى تايلاند وسريلانكا وحتى إيران، شراءهما، وبطريقة موازية، عقد 54 من سفراء منظمة المؤتمر الإسلامي اجتماعاً واحتجوا على تدميرهما.
في المقابل، ذكرت شبكة "سي أن أن" أن مصر حافظت على آثارها القديمة قبل الإسلام باعتبارها مصدر فخر، وأرسل الرئيس المصري، حسني مبارك، مفتي الجمهورية، وهو أعلى سلطة إسلامية في البلاد، لمناشدة "طالبان". وكذلك، نددت الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية البالغ عددها 22 دولة بعملية التدمير ووصفتها بأنها "عمل وحشي". كما أرسل الرئيس الباكستاني "برويز مشرف" وزير داخليته، "معين الدين حيدر"، إلى كابول للاعتراض على التدمير على أساس أنه منافٍ للإسلام وغير مسبوق. وتفاعلت وسائل الإعلام في جنوب شرق آسيا مع القرار بصدمة عميقة. بينما ألقى الإعلام الهندي باللوم على الولايات المتحدة لأنها وضعت مصالحها في النفط والغاز قبل إنقاذ التمثالين.
وهكذا، بدأت المهمة الضخمة المتمثلة في تدمير تمثالي بوذا في وادي باميان في 2 مارس (آذار) 2001 ونفذت على مراحل، على مدى 20 يوماً، باستخدام مدافع مضادة للطائرات ومدفعية وألغام مضادة للدبابات. في النهاية، تم إنزال الرجال إلى أسفل المنحدر لوضع الديناميت في التجاويف وتدمير ما تبقى.
وبهدف ضمان وجود جمهور دولي وتغطية إعلامية واسعة النطاق، تم نقل 20 صحافياً إلى باميان لمشاهدة الدمار وتأكيد تحطيم التمثالين. والجدير بالذكر أن لقطات سحب الغبار المتصاعدة من المنافذ، حيث وقف تمثالا بوذا العملاقان يحرسان طريق الحرير المتعرج عبر وادي باميان لآلاف السنين، قد تم بثها في جميع أنحاء العالم، فيما شاهدها المجتمع الدولي في رعب وارتباك.
في الواقع، سعت حركة طالبان، من دون أي جدوى، إلى جعل المجتمع الدولي يتقبل نظامها. ويمكن تفسير التضحية بتمثالي بوذا على أنها عمل رمزي يعلن نهاية أي بوادر مصالحة. إذاً، كان ذلك تأكيداً للقوة من خلال عرض المشهد. كما أن الإنترنت، التي كانت جديدة نسبياً في ذلك الوقت، ضاعفت تأثير تدمير التمثالين.
"طالبان" 2.0
منذ عام 1994، كانت تصرفات "طالبان" كلها جزءاً من مناجاة غير لفظية، رداً على أشباح الإمبريالية والاستعمار والإمبريالية الجديدة والنيوليبرالية. علماً أن الحركة تستخدم الأماكن العامة في أفغانستان مثل مسرح إلى حد كبير. ويستعمل العنف كنوع من عروض أداء القوة بهدف نقل الرسائل والردود على التاريخ. والعروض ليست عشوائية، بل مدروسة ومخطط لها. ويمكن تفسيرها على عدة مستويات. فهي تتحدث عن خطابات في عوالم لا يعرفها الجمهور الغربي.
في الواقع، افتتحت "طالبان" مرحلة جديدة في خطاب طويل حول الإسلام والدولة في هذه المنطقة. على الرغم من تلك التحليلات الأولية الازدرائية التي رأت أن "طالبان" تضم أفراداً متخلفين من مناطق البشتون النائية تلقوا تعليماً في المدارس الدينية، وما زالوا يتلقونه، أصبح من الواضح أنهم كانوا في الحقيقة يحاولون توصيل رؤيتهم للعالم من خلال تلك الأنواع من العروض. لو فهم الآخرون ذلك، كانت المفاوضات مع "طالبان" ستؤدي ربما إلى نتائج مختلفة تماماً، كما كان سيتم تجنب الحرب الطويلة، التي أودت بحياة العديد من الأشخاص.
هذه المرة، تقوم "طالبان" بتسخير رموز وشيفرات أخرى. على وجه الخصوص، تضمنت أحدث عروض قواتها الخاصة، كتيبة "بدري 313". علماً أن أولئك الجنود تجهزوا تجهيزاً جيداً للغاية وهم يمثلون تقريباً صورة معكوسة لوحدات القوات الخاصة في أجزاء أخرى من العالم. وبالتالي، ينقل ذلك العمل البسيط رسائل حول انتصار "طالبان"، ويضعها على قدم المساواة مع الجنود الأميركيين الذين يرتدون الزي العسكري نفسه.
بالإضافة إلى ذلك، رأينا صوراً لجنود "طالبان" يلبسون ملابس يرتديها أفراد قبائل البشتون الجنوبيين. من خلال ارتداء الملابس التقليدية وتسريحات الشعر التي عفا عليها الزمن والصنادل الرديئة، يرسلون رسالة حول خلفيتهم المزعومة وقدرة تحملهم الجسدية. وعلى نحو مماثل يثير ذلك بعض الحنين إلى زمن المحاربين السابقين، عندما كان البشتون عدواً لدوداً.
بعد دخول كابول، وقف مقاتلو "طالبان" وقادتها لالتقاط الصور في القصر الرئاسي، وتجمعوا في وقت ما تحت لوحة تتويج "أحمد شاه دوراني". على الرغم من أن البعض قد علق على أن ذلك يتعارض مع هوية حركة طالبان، فإنني أعتبر أنه يجدر بنا النظر إلى طريقة حكمها السابقة. برأيي، أسست "طالبان" بشكل رمزي سلالة سياسية تعود إلى "أحمد شاه" من خلال ظهور "الملا عمر" برداء النبي في قندهار. في المقابل، تم التغاضي عن أهمية العديد من أفعال "طالبان" في ذلك الوقت من قبل المعلقين الذين حرصوا على تحطيمها.
كان الأمر الأكثر إثارة بالنسبة إليَّ هو حين التقى سراج الدين حقاني، زعيم فصيل "حقاني" القوي وذو السمعة المخيفة في "طالبان"، الذي يشغل الآن منصب وزير الداخلية، بعائلات المفجرين الانتحاريين وأشاد بتضحياتهم وقدم لهم هدايا من الأراضي والمال. والجدير بالذكر أن التفجير الانتحاري كان جزءاً رئيساً من معركة "طالبان" ضد الحكومة السابقة. لكن النظام السابق نادراً ما اعترف علناً بوفاة جنوده العاديين وعناصر الشرطة، إذ كانوا حرفياً مجرد وقود رخيص للمدافع (أي عديمي القيمة). وبالتأكيد لم تحصل احتفالات عامة لتكريم تضحيات الشعب الأفغاني. حتى إن الحكومة أخفت عدد الضحايا لبعض الوقت لكي تتجنب إضعاف معنويات الأمة.
وقبل أشهر من وصول "طالبان" إلى كابول في عام 2021، شاهدت إغلاقها مدارس البنات في الشمال. كان ذلك أيضاً استعراضاً للقوة. وكان تحدياً ينبغي أن تتعامل الحكومة الأفغانية معه. لم يظهر ذلك ببساطة أن "طالبان" عارضت تعليم الفتيات، بل إنها كانت تبرهن قوتها من خلال التخلص من أحد الإنجازات التي كانت الحكومة الأفغانية تعرضها باستمرار أمام المجتمع الدولي على أنها مكسب كبير. ربما كان ذلك أيضاً إشارة موجهة إلى النساء الأفغانيات الصريحات وأنصارهن بأن "طالبان" لم تكن مهتمة بأن تكون استرضائية في ما يخص حقوق المرأة.
لقد انتظرت رداً مماثلاً و"عينياً" من الحكومة الأفغانية أو نشطاء حقوق المرأة أو المجتمع الدولي. على غرار إرسال فريق للتفاوض، أو وحدة عسكرية لاستعادة المدارس؛ أو تقديم التعليم في مكان آخر للفتيات، علماً أنه في ذلك الوقت، كان الجيشان الأفغاني والدولي حاضرين وكان بإمكانهما القيام بنوع من لفتة رمزية رداً على ذلك.
ولكن لم يحدث شيء. لا أحد، على ما يبدو، فهم أسلوب أداء القوة الذي تعتمده "طالبان". وكان الرد الوحيد هو الإدانة اللفظية المعتادة على وسائل التواصل الاجتماعي. أظهرت الحكومة الأفغانية نفسها على أنها عاجزة وتخلت عن فتيات المدارس كما ستتخلى في نهاية المطاف عن بقية السكان. وهكذا، بقي العالم مرة أخرى يتفرج محبطاً وغير مستوعب، فيما كان أعضاء "طالبان" يعيدون أفغانستان إلى الأيام التي سبقت سقوطهم في عام 2001.
سيبي أذربيجاني مقدم طالبة دكتوراه في العلاقات الدولية بجامعة سانت أندروز. ظهر هذا المقال لأول مرة في "ذا كونفرسيشن" The Conversation