هل كان ابتعاد الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن عن وطنه، الذي عرفه من كثب وأمضى مساره الكتابي يتعمق في واقعه ويحوله إلى مسرحيات، دافعاً له كي يبتعد عن تلك الأساليب الواقعية، التي جعلته إلى جانب الروسي تشيخوف واحداً من المؤسسين الكبار للواقعية المسرحية عند المفترق الزمني بين القرنين التاسع عشر والعشرين؟ سؤال يطرح نفسه بالنظر إلى أن أول اثنتين بين المسرحيات الكبرى التي كتبها إبسن وهو مقيم في إيطاليا ستتسمان بشاعرية بدت غريبة جداً عن لغته المسرحية. ونتحدث هنا بالطبع عن "براند" كما عن "بيرجنت"، اللتين -على الرغم من الفوارق الكبيرة بينهما- تعتبران من قبل النقاد مسرحيتين متكاملتين تطبعهما أوجه شبه كثيرة بل مدهشة، حتى وفي الأقل من خلال رسم الكاتب شخصيتيه الرئيستين اللتين ستصبحان من أشهر الشخصيات الذكورية لديه مقابل الشهرة الفائقة للشخصيات النسائية التي نراها تهيمن على مسرحياته الأخرى، الواقعية، وعلى رأسها طبعاً نورا "بين الدمية" وهيدا غابلر في المسرحية التي تحمل اسمها. ولكن في مقابل واقعية هاتين المرأتين -وإبسن غالباً ما جعل نساء مسرحياته أكثر واقعية بكثير من رجالها حتى في المسرحيات الواقعية نفسها- ها هو ذا إبسن يعطي أبعاداً مغايرة، شاعرية أساساً، للذَّكرين الأشهرين لديه.
بعيداً من الوطن
وتبدأ حكاية هاتين المسرحيتين على أية حال قبل مغادرة إبسن النرويج، بعد أن استقال من عمله وحرر نفسه تماماً، وقد قرر أن يعيش سنوات غربة طويلة نعرف أنه سوف يمضي جلها في إيطاليا. ولئن كانت رحلة إبسن الطويلة إلى العاصمة الإيطالية قد بدأت في عام 1866 فإن شروع الكاتب في وضع الأسس الأولى للمسرحيتين بدأ قبل ذلك. ولعل تلك الأسس التي أراد منها أن تبعده عن واقعية كانت قد استبدت به، كانت هي ما حثه على المغادرة كي يبتعد عن مجتمع وجد أنه يحاصره ولا يترك له فرصة للرجوع إلى داخل ذاته. ومن المنطقي والحال هكذا أن يختار الكاتب التوقف عن كتابة "براند" ومن بعدها على التوالي "بيرجنت" حتى يصل إلى الخارج ويستقر فيه. وكان ذلك ما فعله بالتحديد.
توق إلى البعيد
وهكذا إذ نجده يشرع بالفعل عام 1865 في كتابة مسرحيته الحادية عشرة "براند"، التي حاول فيها بعض الشيء أول الأمر أن يخرج عن الإطار الواقعي، بل "الطبيعي" الذي كان ميز مسرحه منذ بداياته. ها هو ذا الآن وقد استقر في روما يستأنف الكتابة في هذا الدرب ليمعن في رسم شخصية "براند" الشاعرية، على شاكلة شخصية المناضل الذي يتنطح إلى أن يكون مثالياً يحارب التردد والاستنكاف عن الفعل، ويحارب روحية التسوية ومبدأ النفعية. فـ"براند" ستكون مع لاحقتها "بيرجنت" واحدة من مسرحيتين فقط يكتبهما إبسن من دون توصية من أحد بمعنى أنهما يمكن أن تعتبرا الأكثر ذاتية وانعتاقاً من بين مجمل مسرحيات الكاتب. ولعل اللافت هنا هو أن المسرحيتين معاً تتحدثان عن رجال يبارحون عالمهم المعتاد، إذ إن كلاً من براند وبيرجنت يرى أن ثمة مهمة تنتظره في مكان ما. وبالنسبة إلى براند، الكاهن، لا بد أن نسمع أمه وهي تقدم لنا مفتاح شخصيته القلقة من خلال قولها له ذات لحظة في المسرحية "لقد كنت دائماً على عجلة من أمرك. حتى حين كنت بعد صغيراً، كنت تتوق إلى الذهاب بعيداً". وبراند يتوجه من الوادي المريح الذي كان مستقراً ويعيش في دعة يقينياته فيه، ها هو ذا قد وصل إلى أعلى الجبل في منأى من تلك الدعة وبعيداً من الحياة الاجتماعية التي كانت متوافرة له في الوادي ودفء القرية.
مصر على الخط
أما بيرجنت في المسرحية الأخرى فإنه يبتعد بدوره إلى الجبل، لكنه ينطلق من هناك إلى العالم الخارجي أكثر وأكثر وبشكل أقل "قدسية" مما عليه حال براند. فهو سيصبح بائعاً للعبيد في كارولاينا الأميركية، ويتاجر في تماثيل وأوثان في الصين، ويستقر لفترة كتاجر ثري في مصر. ومن الواضح أن إدخال إبسن مصر في مسرحيته أتى من خلال دعوته في تلك السنوات بالضبط إلى القاهرة كواحد من مئات المدعوين الأجانب لحضور افتتاح قناة السويس، ومن هنا كما يبدو كان يتطلع إلى أن تقدم المسرحية في تلك المناسبة على أحد مسارح القاهرة التي كانت مزدهرة حينها، ولكنها لم تقدم على حد علمنا على الرغم من وجود المؤلف هناك لفترة إنما من دون أن يتنبَّه إلى وجوده أحد.
تأثير كيركغارد
مهما يكن لا بد من العودة قليلاً هنا إلى الوراء لنذكر أن إبسن من بعد كتابته "براند" مباشرة، وعلى الرغم من أنه حمَّل هذه الشخصية كل ما يتطلع إليه من قدرة المرء على معرفة ذاته وتحقيق هذه الذات بنفسه، انطلاقاً من أن هذا التحقيق هو ما كان يهمه منذ بدأ الكتابة أصلاً، وجد نفسه يقع فجأة تحت تأثير فلسفة سورين كيركغارد، أحد كبار الفلاسفة الإسكندنافيين في تلك الأزمان... وهكذا، منذ المسرحية التالية "بيرجنت"، صارت مسرحيات إبسن مطبوعة بتلك الفلسفة، بحيث إن الشخصيات الرئيسة لديه إنما باتت تمثل صورة مصغّرة للمجتمعات التي جعلها التاريخ خاضعة في شكل كلي إلى الضغوطات المحيطة والمحبطة. وهذه الشخصيات تناضل وسط هذا المجتمع وقد ألمَّت بها أزمة الاختيار، كاشفة عن ضعف الذات ومعضلات التاريخ الشخصي. وهذه الأزمة التي تشكل في الأصل جوهر حياة الفرد لدى كيركغارد، نحا إبسن إلى أن يعبر عنها، ولكن في مسرحيات آثر ألا يجعل الأحداث الحقيقية والحاسمة فيها تدور خارج المسرح، ويصار إلى التعبير عنها بالحوارات والكلام، بل مباشرة أمام أعين المتفرجين على الخشبة مباشرة. وبهذا يكون إبسن فصل مسرحه نهائياً عن بعض مسرح ويليام شكسبير أو الفرنسي راسين أو غيرهما من المؤلفين الذين آثروا دائماً أن تعبر الكلمات عن الأحداث، حين يصار إلى استخدام حيز الخشبة المسرحية لحضور أشخاص يروون ما يحدث خارج تلك الخشبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حول العالم وصولاً إلى القاهرة
وهذا كله يبدو واضحاً في "بيرجنت"، هذه المسرحية التي كتبها إبسن خلال زيارته إيطاليا عام 1867، لكنها لن تقدم للمرة الأولى إلا عام 1876. وهي تعتبر فريدة في مسار إبسن، من حيث شكلها الفني، والحيز الزمني الذي تستغرقه أحداثها، كما من حيث شخصياتها التي تبدو أقرب إلى شخصيات الحكايات الخرافية، إضافة إلى كون أحداثها -التي تتوزع على خمسة فصول- تدور في أنحاء متفرقة من إسكندنافيا، ومن العالم أيضاً، إذ إن ثمة في المسرحية كما أشرنا قبل سطور تلك الأحداث التي تقود بطلها بيرجنت إلى أميركا والصين ثم إلى شمال أفريقيا، ولا سيما إلى القاهرة، حيث نراه ذات يوم مسجوناً في بيت للمجانين ونشهد هناك صراعات يخوضها مع هؤلاء. والحال أن وجود بيرجنت في هذه المناطق العربية هو ما أعطى الموسيقي إدوارد غريغ فرصة لوضع موسيقى "السوق العربية" في المتتالية التي حملت اسم "بيرجنت" نفسه وكتبها انطلاقاً من مسرحية إبسن هذه، واتسمت هذه الموسيقى نفسها على أية حال، بطابع استشراقي رومانطيقي، بدا غريباً حتى عن عالم غريغ نفسه، وأكثر قرباً من عوالم موسيقيي الاستشراق الروس وعلى رأسهم رمسكي - كورساكوف.
ضياع الفرد والقلق الإنساني
إذاً، فإن المتآلفين حقاً، مع الطابع الاجتماعي والواقعي الذي هيمن على القسم الأكبر من مسرحيات هنريك إبسن (1824 – 1906) المعروفة، يجدون صعوبة في اعتبار "بيرجنت" عملاً من أعماله كما حالهم مع "براند". أما هو، إبسن، فقد رأى دائماً أنه في كتابته هذه المسرحية الأخيرة المتمحورة على طريقتها الخاصة من حول هذه الشخصية، إنما قدم الصورة المضادة تماماً لشخصية "براند"، معتبراً الشخصيتين وجهين لميدالية واحدة، تنرسم من خلال تكاملهما صورة القلق الإنساني وضياع الفرد أمام مجتمع يعامله من ناحية بمثالية، ومن ناحية ثانية، بلا مبالاة... ولكن أبداً بامتثال في الأحوال كافة.