تبدأ اليوم الخميس 13 يناير (كانون الثاني)، في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، سلسلة اجتماعات دبلوماسية لمناقشة مطالب موسكو بنموذج أمني جديد في القارة العجوز، في وقت تظهر فيه واشنطن وطهران قليلاً من المرونة في محادثات فيينا النووية، بينما يستعد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة العاصمة الروسية الأسبوع المقبل في توقيت يحمل معان كثيرة، إذ يعتقد بعض من في الغرب أن روسيا يمكن أن تساعد في إحياء الاتفاق النووي حتى عندما يهدد الكرملين بغزو أوكرانيا، لكن على الرغم من أن روسيا لعبت دوراً رئيساً في التوصل إلى اتفاق عام 2015، إلا أن تصعيدها الأخير في أوكرانيا لا ينفصل ولو جزئياً عن استراتيجية الاستفادة من ملف إيران، فما أوجه التماس والتشابك بين الملفين؟ وما الذي يمكن أن تقبل به واشنطن بينما تحاول حلحلة الأزمتين؟
ورقة مساومة
بعد ثماني جولات من المحادثات في فيينا، لا تزال هناك نقاط شائكة عدة تقف حجر عثرة أمام التوصل إلى حل وسط لتجديد اتفاق 2015 النووي، مما يجدد المخاوف من اندلاع حرب في الشرق الأوسط، لكن المواجهة الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن حول أوكرانيا والأمن الأوروبي، والتي طغت على الأحداث خلال الأيام الأخيرة، بدت مرتبطة في جزء منها باستراتيجية روسيا حيال إيران، من حيث استخدامها كورقة مساومة يمكن من خلالها تحصيل مكاسب سياسية في المفاوضات مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) حول أوكرانيا والأمن في أوروبا، بخاصة بعدما فشلت جولتا مفاوضات جنيف وبروكسل في تحقيق أي انفراجة مع رفض واشنطن و"الناتو" المطالب الروسية، باعتبارها تمس المبادئ الأساس لتحقيق الاستقرار الأمني في أوروبا وعبر المحيط الأطلسي.
وبينما تتراكم أسباب الرفض الأميركي والغربي للمطالب الروسية في ملف أوكرانيا، إلا أن النبرة الأعلى صوتاً في واشنطن هي عدم الثقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يحاول التلاعب بالغرب وترهيبه بحشد 100 ألف من القوات الروسية على حدود أوكرانيا، فهو يحاول ترسيخ إرثه في التاريخ الروسي ويفتقد الإمبراطورية السوفياتية في أوروبا، ويريد استعادتها عبر ترهيب الغرب وتسليم دول بأكملها لسيطرة موسكو، بحسب ما يقول مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون أوروبا وأوراسيا دانيال فرايد، خلال إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش.
التلاعب بالتوتر
ويرى الأستاذ في معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية حرب الجيش الأميركي جون دايني، أن الأسباب التي قدمتها موسكو لحشدها العسكري الهائل بالقرب من حدود أوكرانيا سخيفة، نظراً إلى أن صناع السياسة في واشنطن أو بروكسل لم يناقشوا بجدية عضوية أوكرانيا في "الناتو"، ولم يخططوا لتركيب صواريخ في أوكرانيا، فضلاً عن أن نظام الدفاع الصاروخي المحدود لحلف "الناتو" لا يضاهي الترسانة الروسية، في حين تبدو تدريبات "الناتو" العسكرية في أوروبا الشرقية ضعيفة وباهتة، مقارنة بحجم ونطاق التدريبات العسكرية الروسية، ولهذا فإن تصرفات بوتين تهدف على الأرجح إلى تعزيز مكانته داخل روسيا أكثر من أي شيء آخر.
لكن رئيس تحرير دورية "يوكرين آليرت" بيتر ديكنسون يتوقع استمرار التصعيد الروسي على مدى طويل، إذ يشير إلى خطاب ألقاه بوتين أمام الدبلوماسيين الروس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، قال فيه إنه يعتزم الحفاظ على شعور بالتوتر المتزايد في علاقات روسيا مع الغرب لأطول فترة ممكنة كشكل من أشكال الردع، وهو ما يفسره ديكنسون بأن أسهل طريقة لتحقيق ذلك، هي الاستمرار في التهديد بتصعيد درامي في حربه ضد أوكرانيا.
عامل إضافي
ولكي يحصل بوتين على نتائج أفضل في صراعه مع الغرب، سيكون من المفيد استغلال ورقة اتفاق إيران النووي كعامل إضافي يسهم في تحقيق الأهداف الروسية، إذ ينظر الكرملين إلى "إيران القوية" كعامل مفيد يضعف المكانة الإقليمية للولايات المتحدة التي تعتبر المنافس الرئيس لروسيا على الساحة الدولية.
وعلى الرغم من أن روسيا لا ترغب في أن تصبح إيران دولة نووية، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنها تشارك الغرب أهدافه أو أساليبه، كما أنها تفضل أن تتخذ الدول الأخرى خطوات لمنع مثل هذا السيناريو من خلال دور روسي فاعل ومؤثر، تأكيداً لمكانة روسيا على الساحة الدولية.
وعلى مدى عقود لعبت روسيا دوراً رئيساً في المفاوضات النووية، وساند الكرملين العقوبات المفروضة على طهران كوسيلة لانتزاع تنازلات من أميركا والغرب، لكنه عمل أيضاً على تخفيفها، مدعياً أن المخاوف الغربية مبالغ فيها وتضر بجهود روسيا الرامية إلى توسيع التجارة الثنائية مع طهران، بحسب ما تقول آنا بورشفسكايا الخبيرة المتخصصة في سياسة روسيا الشرق أوسطية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إذ تتوقع أن تبقى موسكو ملتزمة بتحقيق مصالحها الخاصة بغض النظر عما تفضي إليه محادثات فيينا.
وتستند الباحثة السياسية في ذلك إلى أن بوتين سعى خلال سنوات عدة إلى تقويض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، ولهذا سيكرس طاقته وقدراته لتوجيه التطورات الأخيرة في هذا الاتجاه، بخاصة وأنه لم يتعاون في البداية مع واشنطن.
من ناحية أخرى، لن يكون لدى موسكو الكثير لتكسبه من إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة باسم "اتفاق إيران النووي"، ولهذا يمكنها الانتظار والتظاهر باتخاذ الخطوات المطلوبة خلال مرحلة بذل المساعي الدبلوماسية تجاه إيران، بينما يمكن لبوتين استغلال حقيقة أن الغرب يعتبر أن إيران تشكل تهديداً هائلاً كوسيلة ضغط يستخدمها بمهارة في المسارح السياسية الأخرى، وقد يلمح إلى أنه سيعمل جاهداً بشكل أكبر مع طهران إذا تساهلت معه واشنطن في شأن أوكرانيا.
أوجه تشابه
ولا تقتصر استراتيجية موسكو حيال طهران إلى هذا العامل فقط، إذ تبدو هناك أوجه شبه كثيرة تدفع الكرملين إلى اتخاذ هذه المواقف، أبرزها أن روسيا تخضع بالفعل لعقوبات بسبب ضمها شبه جزيرة القرم، مثلما تخضع طهران لعقوبات أميركية قاسية، كما يتدخل الكرملين باستمرار من خلال أدوات دبلوماسية واقتصادية وسرية وعسكرية في شؤون الجمهوريات السوفياتية السابقة، من أجل دعم القادة الموالين لروسيا، مثلما تستخدم إيران أدوات مختلفة لتقويض حكومات دول الشرق الأوسط، بما في ذلك تمويل وتسليح الوكلاء الذين يعملون كذراع طويل لها في لبنان والعراق واليمن.
وعلاوة على ذلك ترسل إيران وروسيا قواتاً لدعم الحلفاء أو استخدام القوة لسحق المطالب الشعبية، كما هو الحال في سوريا واليمن أو بيلاروس وكازاخستان.
ويرى مراقبون أمنيون أن طهران وموسكو تسعيان إلى الحصول على ضمانات من واشنطن وحلفائها بالامتناع من التورط في ما تعتبره روسيا وإيران مناطق نفوذ لهما.
ابتزاز سياسي
ومع ترقب وصول الرئيس الإيراني إلى موسكو في 19 يناير (كانون الثاني) الحالي، في وقت تبدو فيه محادثات إحياء الاتفاق النووي الإيراني في الميزان، بينما تتصارع الولايات المتحدة وروسيا في أوكرانيا، قد تعمد موسكو مرة أخرى إلى تعليق صفقة أسلحة متوقعة مع طهران للحصول على ما تريده في مكان آخر، بحسب ما يقول المحلل الاستراتيجي نيكولا ميكوفيتش.
ووفقاً لعدد من التقارير، فإن لدى روسيا فرصة فريدة لبيع طائرات "سوخوي 35" متعددة الأغراض فائقة المناورة إلى إيران التي تسعى إلى الحصول على 24 طائرة منها على الأقل، في محاولة لتحديث قوتها الجوية التي عفا عليها الزمن، بخاصة في ظل ما رددته أوساط عسكرية حول انسحاب عدد من الحكومات في الشرق الأوسط وجنوب آسيا من صفقاتها السابقة لشراء هذه الطائرات بسبب تلويح الولايات المتحدة بفرض عقوبات عليها، وفقاً لقانون أصدره الكونغرس يحظر شراء أسلحة روسية في أعقاب ضم روسيا للقرم عام 2014.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لعبة الصفقات
إضافة إلى صفقة طائرات "سوخوي 35" يأمل الرئيس الإيراني بتوقيع اتفاق تعاون أمني ودفاعي مدته 20 عاماً مع روسيا، قد يشمل شراء نظام متقدم للأقمار الاصطناعية، فضلاً عن دبابات "تي 90" وطائرات تدريب وأنظمة دفاع جوي "إس 400" وأنظمة دفاع ساحلية أخرى.
وعلى الرغم من انتهاء حظر مجلس الأمن الدولي الصادر عام 2007 على شحنات الأسلحة التقليدية إلى إيران في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، إلا أنه لا يزال من غير المؤكد ما إذا كان الكرملين سيجرؤ على بيع الطائرات لإيران، لأن مثل هذه الخطوة ستزيد تدهور علاقات روسيا بالغرب، وحتى لو وقع البلدان صفقة دفاعية فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الكرملين سيمضي قدماً ويرسل أسلحة متطورة إلى طهران، ولن تكون تلك هي المرة الأولى التي لا تفي فيها روسيا بوعودها، إذ قدم الكرملين في الماضي بسهولة الأعذار لعدم المضي في تعاونه العسكري مع طهران.
ففي عام 2010 رفضت موسكو بيع نظام صواريخ "أس 300" لإيران تحت ضغوط من الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعد تسع سنوات رفضت روسيا طلباً من طهران لشراء نظام صواريخ "أس 400" بعدما توصل الكرملين وإسرائيل إلى اتفاق ضمني لتجنب بيع أسلحة متطورة إلى دول معينة، في مقابل رفض إسرائيل بيع طائرات من دون طيار لأوكرانيا، ولهذا السبب تتردد روسيا في تعميق العلاقات العسكرية مع إيران، إذ يدرك المسؤولون الروس أن بيع أسلحة متطورة لطهران من شأنه أن يعرض للخطر علاقات روسيا مع إسرائيل، ويؤدي إلى توترات إضافية مع واشنطن.
لذلك يمكن أن يحاول الكرملين خلق توازن دقيق من خلال التعهد بمراعاة بعض المخاوف الأميركية والإسرائيلية في شأن التعاون العسكري الروسي مع إيران، في مقابل نهج أكثر مرونة من واشنطن تجاه طموحات موسكو في أوكرانيا، وهذا يعني أن روسيا ستستمر في استخدام إيران كورقة رابحة في حل مشكلاتها مع الولايات المتحدة.
كيف ستتصرف واشنطن؟
بينما تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز فكرة النظام الدولي القائم على القواعد، يدفع مراقبون في واشنطن باتجاه ألا تحصل روسيا أو إيران على حرية التصرف في سلوكهما، أو أن تقبل واشنطن الإذعان لمطالب غير مقبولة، حتى لو كانت الدبلوماسية لا تزال أفضل طريق لمعالجة معظم القضايا، لأن قبول الولايات المتحدة بضغوط أحدهما سيشجع الطرف الآخر على السعي إلى تحقيق الشيء نفسه.
كما يطالب باحثون وخبراء أمنيون بالحذر في التعامل مع الإيرانيين والروس، إذ يمكن أن تشير موسكو إلى تحول حقيقي في سياساتها من خلال اتخاذ خطوات ملموسة للحد من النفوذ الإيراني في سوريا، ووقف مبيعات الأسلحة إلى طهران أو عبر انتقاد إيران في شأن القضية النووية، غير أن أياً من هذه السيناريوهات لن يكون واقعياً، لأن موقف بوتين المعادي للغرب لم يقتصر أبداً على أوروبا، ولذلك تبدو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تحت ضغوط واسعة للتركيز مع الحلفاء على بناء استراتيجية موحدة تعزز الموقف التفاوضي للولايات المتحدة، وتظهر الإرادة السياسية للدفاع بقوة عن النظام العالمي القائم على القواعد.