غيّب الموت ظُهر هذا اليوم المخرج السوري بسام الملا (1956-2022) عن عمر ناهر 66 عاماً إثر أزمة صحية مفاجئة، وما أن نعته نقابة الفنانين السورية على حسابها الخاص على فيس بوك، حتى تواردت عشرات التعليقات والردود من زملاء وجمهور الآغا، وهو اللقب الذي اشتهر به في الأوساط الفنية. فالمخرج السوري الذي أغنت نشأته في الأحياء الدمشقية القديمة مسيرته الإخراجية، كان قد كرّس نوعاً فنياً جديداً في الدراما التلفزيونية العربية عُرف فيما بعد بـ "مسلسلات البيئة الشامية"، لاسيما بعد أن حقق فتحاً كبيراً في هذا السياق بإخراجه مسلسل "أيام شامية" عام 1993. وهو اعتبر باكورة هذه الأعمال التي عنيت بالتراث والفلكلور الشامي، وعبرها أطل على عادات أهل الشام وتقاليدهم ، وأتبعه بأعمال من مثل "الخوالي" و"ليالي الصالحية" و" باب الحارة" بأجزائه العشرة.
ينتمي الملا إلى أسرةٍ فنية عريقة، فوالده الممثل أدهم الملا كان من جيل الرواد، ومن أوائل المشجعين لولده، ومن ساهم في وضع قدميه على طريق الفن الطويل. وقد بدأ الفنان الراحل مسيرته الحافلة بشكلٍ عصامي كمخرج منفّذ في مسلسلات القطاع العام، وكان أبرزها مسلسل "تجارب عائلية" 1981 مع الراحل علاء الدين كوكش، ليقوم بعدها التلفزيون السوري بإسناد إخراج العديد من الأعمال إليه. ولعل أبرزها كان مسلسل "الخشخاش" عام 1991، ومسلسل "العبابيد" 1997 وقد اعتُبر وقتها من الأعمال السورية ذات الإنتاج الضخم.
لمع اسم الملا في مقتبل التسعينيات من القرن الفائت كمخرج فطري تمكن من أدواته في إدارة الممثل، مشتغلاً على زوايا تصوير ملائمة من دون تكلف أو محاولة للاستعراض، بل وفق ما يقتضيه الحدث الدرامي، وما يتطلبه المشهد من كوادر تفي بتوضيح الصراع الدرامي، ونقله بسلاسة للمُشاهد.
"باب الحارة"
يفقد الوسط الفني العربي برحيل بسام الملا أحد أهم مخرجيه الذين ساهموا في انتشار الدراما السورية على المحطات العربية الكبرى، وفي مقدمتها قناة "إم بي سي" التي احتضنت أعماله، وموّلهتا لسنوات طويلة، وذلك بعد النجاح الساحق الذي حققه الجزء الأول من مسلسله "باب الحارة" عام 2006. هذا العمل أراد الملا من خلاله أن يوجد صيغة وسطاً بين التجاري والفني، مستلهماً عشرات القصص والحكايات في المسرود الشعبي الشامي، التي نقلها المخرج الراحل إلى الشاشة عبر الأجزاء الخمسة التي قام بإخراجها والإشراف عليها مع شقيقيه المخرجين مؤمن وبشار الملا، لتكون بمثابة ملحمة درامية تمكنت حلقاتها التي جاوزت الـ 150 ساعة تلفزيونية، من انتزاع إعجاب ملايين المشاهدين في العالم العربي.
وأطل الملا عبر أعمال البيئة الشامية على حقبتي الإحتلالين العثماني والفرنسي لسورية، ناقلاً معارك ثوار الشام ضد المستعمر الأجنبي، ضمن قالب درامي مشوق، مزج فيه بين الاجتماعي والسياسي، مستعيداً مشاهد متنوعة من العادات والطقوس والأعراف والحوادث التي تعرّف إليها المشاهد العربي لأول مرة في أعمال المخرج السوري. وناهز بذلك ما خطّه المتصوف والمؤلف الشعبي البديري حلاق في يومياته عن دمشق ( 1701-1762) ولكن عبر لغة تلفزيونية جذابة، وبحبكة درامية مشوّقة عمل الملا على تمرير شخوصها النمطية المحببة في مسلسلاته من مثل كاركيترات: العكيد، الزعيم، النمس، أبو النار، الإدعشري، أبو عصام، فريال، سعدية، أبو بدر، مأمون بيك، أبو جودت...
مرحلة الإستقلال
وقدم الملا أعمالاً مختلفة في هذا السياق في السنوات الأخيرة، لعل أبرزها كان مسلسل "الزعيم" ومسلسل "سوق الحرير"، وفيهما نقل الملا مشاهد من حقبة الخمسينيات في سورية، مطلاً على مرحلة ما بعد الاستقلال في بلاده. وزاوج في هذين العملين بين الدراما الاجتماعية المعاصرة ودراما البيئة الشامية، ولكن من دون أن يلقيا النجاح الذي حققته أعماله السابقة. فضل الملا الإشراف الفني على هذه الأعمال بعد سنوات طويلة من التأسيس والاشتغال على دراما أكثر قرباً من شرائح الجمهور الواسع، محققاً صناعة صرفة في مجال الإنتاج الدرامي، ومثيراً الجدل حول هوية مدينة دمشق وتاريخها. فالبعض نعت أعماله بالرجعية، إلا أن البعض الآخر أفاد من تجربته، وعمل على غرارها، مما فتح الباب واسعاً أمام عشرات الأعمال التي استوحت من "باب الحارة" شكلها وخطابها الفنيين، ما مهد الطريق لموجة مسلسلات البيئة الشامية.
اصدقاؤه يرثونه
ونعى العديد من زملاء الملا رحيله على صفحاتهم في فيسبوك، فكتب المخرج هيثم حقي المقيم في باريس يقول: "وداعاً للصديق المخرج والمنتج بسام الملا. خبر حزين لرحيل إنسان جمعتني به مودةٌ لم تنقطع أواصرها رغم بعد المسافات ومرور السنين. بسام الملا لعب بإنتاجيته الدرامية المختلفة دوراً تسويقياً مهماً في انتشار الدراما السورية كصناعة. له الذكر الطيب وللعائلة الكريمة ولمحبيه الكثيرين في سورية والعالم العربي أخلص التعازي". بينما كتبت الممثلة شكران مرتجى: "رحل آغا الشام. الأستاذ صاحب فضل وسبب لنجاح كبير. شكراً على كل شيء، ولأنني في يوم من الأيام اشتغلت تحت إدارتكَ، وإن أحداً لا ينكر أثرك الواضح على تألق الدراما السورية والعربية، اختلف أو اتفق معكَ. أرقد بسلام فأنت في القلب والذاكرة يا آغا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكتب الفنان عباس النوري صاحب شخصية "أبو عصام" الشهيرة في مسلسل "باب الحارة" يقول: "كان شريكاً حارّاً لكل من حوله. يقرأ ويتمعن في ما قرأ، وينتظر رأي الجميع قبل رأيه. يعترف بقدرة الغير من دون خجل، ويستفيد منها بلا تحفظ. تاركاً للشهود أن يكتشفوا قوة قيادته لتجميع أوتكوين الرؤيا النهائية. لدوداً كان في حياته، ويريد مزيداً من الحياة لإنجاز المزيد. بسام الملا يكفيكَ أنكَ كنتَ شرارة مستحقة لكل الأعمال الشامية التي أتت بعد تجربتك الأولى في مسلسل "أيام شامية". كل الرحمة والعزاء للجميع. سنفتقدكَ مع تفتح كل شجيرة ياسمين في دمشق". الفنان مصطفى الخاني بطل مسلسله "باب الحارة" كتب مرثية طويلة في رثاء الملا نذكر منها: "خمسة عشرا عاماً من عمري عرفتكَ فيها بشكلٍ شبه يومي، كنا بيوت أسرار بعضنا، حتى عندما كنا نتجافى لم يكن أحد يعرف بذلك، وكنا عندما نلتقي نضحك معاً من دون أي عتب ".