ثمة خصوصية لصعيد مصر على امتداده تمنحه طابعاً خاصاً يميزه عن أي مكان آخر، فهو منبع للحضارة والفنون والتاريخ، ويحمل أهل الجنوب إرثاً ثقافياً كبيراً على مدار الأعوام بعادات وأزياء وتراث شعبي أصيل توارثته الأجيال منذ عصور طويلة.
ودفع الصعيد بطابعه الخاص فنانين مصريين إلى تبنّي مشروع لتوثيق شكل الحياة اليومية للناس وعاداتهم وملابسهم التقليدية وألعابهم الشعبية، في مشروع امتد لسنوات تنقلوا فيه بين محافظات الصعيد المختلفة لكسر الصورة النمطية المتداولة عن الجنوب وإلقاء الضوء على كثير من نواحي الحياة اليومية للناس، لينتهي بمعرض تحت عنوان "جذور" يضم 200 صورة فوتوغرافية ونُظّم بالتعاون ما بين منصة humans of upper Egypt والأقصر آرت غاليري في منطقة أثرية مفتوحة بمحافظة الأقصر، ليكون ملتقى للسياح وأهل البلاد على السواء.
وعن المشروع، يقول المصور محمود هواري "على مدار نحو 10 أعوام، صوّرنا الحياة والناس والأسواق والعادات المختلفة في مناطق متنوعة على طول الصعيد، ما بين محافظات قنا وسوهاج والأقصر وأسوان، وفي البداية كانت بشكل غير منظم لنقوم بعد ذلك بإطلاق مشروع humans of upper Egypt على غرار المشروع الشهير humans of New York ولكن بالطبع مع اختلاف طبيعة المجتمع وظروفه، وبالفعل صوّرنا في كل أنحاء الصعيد ونفذنا فيلمين وكان هدفنا الأساسي، تسجيل شكل الحياة في مجتمع الصعيد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف "نهدف إلى توثيق شكل الزي الصعيدي المتمثل في الجلباب وأشكال العمامة المختلفة التي تمثل طابعاً أساسياً للجنوب والأزياء النسائية المختلفة، ويمكن أن تكون هذه الصور مرجعاً لهذه الفترة بعد أعوام، بخاصة أن الأجيال الجديدة للأسف باتت تتجه إلى الأزياء العصرية بفعل انفتاح المجتمع، كما نهدف أيضاً إلى توثيق شكل الطابع الشعبي للاحتفالات والعادات وشكل حياة الناس التي على الرغم من حفاظ مناطق كثيرة من الصعيد على أصالتها وطابعها التقليدي، إلا أنها بدأت تتغير في مناطق أخرى وتأخذ طابعاً حديثاً".
تحديات وصعوبات
صعيد مصر بشكل عام هو مجتمع محافظ ذو طابع خاص، وقد يشكل هذا تحدياً للقائمين على مثل هذه المشاريع في ما يتعلق بتفاعل الناس معها.
ويوضح هواري "في بداية المشروع، واجهنا صعوبات عدة متمثلة في عدم استيعاب بعض الناس للفكرة والهدف منها وكنا نشرح لهم الأهداف، فيقتنع كثرٌ منهم ويرغبون بالتصوير والمشاركة، حتى إنه مع الوقت بات البعض يدعونا إلى التصوير في مناسبات أو احتفاليات مثل الزواج وحفلات الحنة أو الحفلات الشعبية عموماً وكان ذلك يثري المشروع بكثير من الصور المميزة باعتبارها من قلب أحداث حقيقية".
ويتابع "وما أضاف كثيراً إلى المشروع، انضمام المصورة فاتن أبو بكر، فوجود فتاة مصورة ساعد كثيراً على اقتحام المجتمع النسائي في الصعيد الذي كان صعباً على مصور رجل، وكنا نعاني من قلة أو انعدام صور نساء الصعيد في بداية المشروع على الرغم من أهميتها، فاستطاعت فاتن المشاركة في أحداث يومية نسائية والتقاط صور من جلسات الخبيز وتجهيزات الزواج والأفراح بعدما استطاعت إقناع السيدات بالفكرة وأهدافها".
عرض عام
جزء من صور مشروع "جذور" عُرضت في منطقة مفتوحة بجوار تمثالي ميمنون في الأقصر وهي منطقة سياحية يتوافد عليها السياح خلال طريقهم لزيارة معبد حتشبسوت، مما أتاح للوافدين إضافة إلى أهل الأقصر مشاهدة الصور وأضفى بعداً آخر يختلف عن العرض في القاعات المغلقة.
ويقول هواري "الغرض من المعرض المفتوح، خلق التواصل بين الناس وصُورِها، فبعضهم جاء ورأى صورته في المعرض واقتنع بأهمية ما نفعله وبات داعماً كبيراً له، واخترنا الأقصر تحديداً لإقامة المعرض باعتبار أنها من أكثر محافظات الصعيد انفتاحاً وهي محافظة سياحية في المقام الأول، إضافة إلى الاهتمام الكبير بها في الفترة الأخيرة بعد الاحتفالية الكبرى التي نُظمت فيها، ففضلنا أن تكون هي انطلاقة المعرض، وعرضنا حوالى 200 صورة واعتمدنا الأبيض والأسود في كل الصور للتركيز على التفاصيل والوجوه والعيون، حتى لا تشتت الألوان انتباه المشاهد للصورة عن التفاصيل الحقيقية باعتبارها شديدة الثراء".
ويضيف "من أهدافنا، إيجاد حالة من التقبل للآخر، فدائماً ما يظهر الصعيد بصورة نمطية غير حقيقية غالباً لا تعكس واقع الإنسان العادي في الصعيد، ونهدف إلى تغيير وجهة النظر التي غالباً ما تضع الصعيد في إطار ضيق من الفكر المنغلق أو تركز على أمور وقضايا مثل الثأر أو وضع المرأة الذي هو بالمناسبة غير حقيقي، فمنذ أقدم العصور والأم الصعيدية هي أساس البيت ورأيها يؤخذ به وكلمتها نافذة حتى على أبنائها الرجال".
دور مجتمعي
للفن أدوار متعددة في أي مجتمع، بخاصة في مجتمع ذي خصوصية مثل صعيد مصر يحمل عدداً من الموروثات الفنية والثقافية ويحتضن حضارة عظيمة على امتداده يأتي الناس من كل الدنيا لمشاهدتها باعتبارها من أرقى الفنون الموجودة في العالم.
ويشرح هواري "رؤيتنا أن الفن وفي حالة مشروعنا، الصورة الفوتوغرافية بإمكانها أن تغيّر مجتمعاً من خلال إلقائها الضوء عليه وعلى الطبيعة التي تميزه. ففي عام 2016، شاركنا في مسابقة كبرى نظمتها يونيسكو بعنوان ’متحدون مع التراث‘، عرضت 240 ألف صورة من كل دول العالم وفازت صورتنا التي كانت تظهر لعبة المرماح الصعيدي بالمركز السابع ضمن 20 مركزاً فائزاً، ليتم بعدها بأعوام إدراج اللعبة الشعبية على قائمة يونيسكو العالمية للتراث غير المادي، فإلقاء الضوء على عاداتنا وتراثنا في المحافل العالمية ينعكس بشكل كبير على تقديره والاهتمام به عالمياً".
ويضيف "الفن بشكل عام، يجب أن يكون من الناس وينعكس على حياتهم. من هنا، وجدنا أنه لا بد من أن يكون لنا دور مجتمعي، فقررنا توجيه جزء من عائد المعرض لدعم التعليم ودفع مصاريف بعض الطلاب غير القادرين، فيجب دعم التعليم بالوسائل كافة ومن بينها الفن".