بين حين وآخر، تصطدم العلاقات المصرية الأميركية بتشابكات ملف المعونة السنوية التي تقدمها واشنطن إلى القاهرة، وتربط أجزاء منها بإصلاحات سياسية وحقوقية، ما يعده البعض أحد أوجه تطور أو توتر علاقات البلدين "الحليفين" بحسب التوصيف الرسمي من قبل مسؤولي الجانبين.
وعاد الحديث مجدداً، عن مؤشرات التقارب والتباعد بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وحكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مع إقرار وزارة الخارجية الأميركية، حرمان مصر من مساعدات عسكرية بقيمة 130 مليون دولار بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، كانت قد ربطت تعليقها، في سبتمبر (أيلول) الماضي، بضرورة اتخاذ القاهرة خطوات جادة وتعالج "ظروفاً محددة" في ملفها الحقوقي.
وفيما تتمسك القاهرة دائماً برفض الانتقادات الموجهة لملفها الحقوقي والسياسي، وتؤكد احترامها للقانون والدستور، أمام سيل الانتقادات الغربية المستمر في هذا الشأن، يثير تعليق جزء من المعونة الأميركية لمصر المقدرة سنويا بـ 1.3 مليار دولار أميركي، الجدل حول حجم الضرر الذي قد يصيب علاقات البلدين "الاستراتيجية"، وما إذا كانت الخطوة قد تحدث تأثيراً في هذا الملف "المثير للجدل" بين البلدين.
"مخاوف حقوقية"
ووفق ما نقلت تقارير أميركية، ووكالة "رويترز"، فقد أعلن مسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية أن إدارة الرئيس جو بايدن تعتزم حرمان مصر من مساعدات عسكرية بقيمة 130 مليون دولار بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، في عقاب نادر لحليف رئيس.
وذكرت وكالة "رويترز"، نقلاً عن مسؤول أميركي قوله، إنه "في حين أن الوزير (بلينكن) لم يتخذ قراراً نهائياً، وفي حالة عدم حدوث تطورات كبيرة خلال اليومين المقبلين، فإنه سيعيد توجيه مبلغ 130 مليون دولار إلى أولويات الأمن القومي الأخرى".
من جهتها، نقلت شبكة "سي إن إن" الأميركية، عن مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية الأميركية، قوله إن "المكان الأخير الذي يحتاج إلى 130 مليون دولار هو مصر"، مضيفاً "أنه تم إبلاغ الكونغرس، وهناك إجماع كامل داخل وزارة الخارجية على توصية بأن وزير الخارجية أنتوني بلينكن لن يسمح للقاهرة بتسلم الأموال التي سيتم تخصيصها الآن لدول أخرى"، وتابع المسؤول أنه "تم إبلاغهم بأنهم لن يتلقوا الأموال، والمصريون ليسوا سعداء".
والخميس الماضي، هاتف الوزير بلينكن، نظيره المصري سامح شكري، وقالت الخارجية الأميركية "إن الوزيرين تحدثا حول مجموعة من القضايا، بينها حقوق الإنسان، من دون الإشارة إلى أموال المساعدات". في المقابل قالت الخارجية المصرية، "إن الوزيرين بحثا الجوانب المتعددة للعلاقات الثنائية بين البلدين وسبل دفع عدد من ملفات التعاون على ضوء عمق ومتانة العلاقات الاستراتيجية، بهدف تحقيق ما يتطلع إليه الجانبان من تعزيز تلك العلاقات وتدعيمها والدفع بها نحو آفاق أرحب".
وتأتي الخطوة النادرة ضد حليف مقرب قبل أيام فقط من الموعد النهائي في 30 يناير (كانون الثاني) لإعلان وزارة الخارجية خطط المعونات، وهي الجزء المتبقي من شريحة مثيرة للجدل بقيمة 300 مليون دولار من المساعدات تم تقسيمها في سبتمبر مع إعطاء ما يزيد قليلاً على النصف إلى مصر في ذلك الوقت، والمبلغ المتبقي محتجز حتى الآن بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان.
وحينها أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنه سيتم حجب المساعدة إذا لم تعالج مصر "ظروفاً محددة" أشارت إليها واشنطن تتعلق بحقوق الإنسان، الأمر الذي أوضحته لاحقاً، صحيفتا "واشنطن بوست" و"بوليتيكو" الأميركيتان، إذ أشارتا إلى أن "أبرز الشروط التي وضعتها إدارة بايدن للإفراج عن باقي المعونة، يتعلق بإنهاء القضية 173 الخاصة بمحاكمة نشطاء منظمات المجتمع المدني وإسقاط الاتهامات عنهم، وإخلاء سبيل 16 شخصاً حددتهم الولايات المتحدة في اجتماعات مع الحكومة المصرية في يونيو (حزيران) الماضي"، وفق ما نقلت عن مسؤولين أميركيين من دون تقديم مزيد من التفاصيل.
وتمثل المساعدة المحجوبة 10 في المئة من مبلغ 1.3 مليار دولار تم تخصيصها لمصر في السنة المالية 2020، ويمكن لوزارة الخارجية استخدام إعفاء بمبرر الأمن القومي، الذي كثيراً ما ينتقد، لتجاوز شروط حقوق الإنسان المرتبطة بالمساعدات.
والشهر الحالي، وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الانتقادات المتعلقة بحقوق الإنسان بأنها هجوم على مصر وقال "إنها لا تعكس الواقع على الأرض"، وأضاف خلال حضوره منتدى شباب العالم في شرم الشيخ، "أن الحكومة تحاول تحسين الوضع الاقتصادي بعد الاضطرابات التي أعقبت ثورة 2011". مشيراً إلى "أن الأولوية القصوى للاستقرار والأمن، والسلطات تعمل على تعزيز الحقوق من خلال محاولة تلبية الاحتياجات الأساسية مثل الوظائف والسكن"، مستشهداً في الوقت ذاته "بالجهود التي قامت بها الدولة لتحسين ملفها الحقوقي، من بينها إطلاق (استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان) سبتمبر الماضي".
هل تؤثر في علاقات البلدين؟
وفي الوقت الذي يعد منع جزء من أموال المعونة عن مصر هو الأول من نوعه لإدارة بايدن، التي تعهدت منذ وصولها للسلطة أوائل العام الماضي، ببذل مزيد من الجهود للدفاع عن حقوق الإنسان، تتباين آراء المراقبين بشأن ما إذا كان المبلغ المعلق من المعونة، قد يؤثر في العلاقات بين البلدين، المتداخلة في عديد من الملفات وفق بعضهم.
ويقول بشير عبد الفتاح، الباحث المتخصص في الديمقراطية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن الخطوة الأميركية "لن تؤثر في علاقات البلدين بأي حال من الأحوال، لا سيما أنها تتزامن مع صفقة تسليح أميركية نوعية للقاهرة قبل أيام تبلغ قيمتها 2.5 مليار دولار، ما يعني أن تطور مسار العلاقات الاستراتيجية بين البلدين على الصعيد الأمني والعسكري إلى مستويات غير مسبوقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقبل أيام قليلة، وافقت واشنطن، على صفقة عسكرية إلى مصر تشمل أجهزة رادار للدفاع الجوي وطائرات من طراز "سي-130"، وثلاثة أنظمة رادار، بقيمة إجمالية تزيد على 2.5 مليار دولار، الأمر الذي اعتبره مسؤول أميركي، لـ"سي إن إن"، "يخدم المصلحة الأمنية الأميركية، ويتم دفع ثمنه جزئياً من أموال المساعدات العسكرية الأميركية التي تلقتها مصر بالفعل"، موضحاً، "نسمح لهم بشراء الأشياء التي هي في مصلحتنا"، ويتابع عبد الفتاح ، "تعدد المؤسسات وتباين التوجهات داخل المجتمع الأميركي، يطال علاقتها مع دول العالم الخارجي، وينعكس في صورة مد وجزر في الملفات المطروحة والمصالح المشتركة بين واشنطن والخارج، وهو أمر معتاد بالنسبة إلى كل الدول التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، إذ تشهد قوة ومتانة في ملفات محددة، واختلاف في ملفات أخرى"، مضيفاً، "وعليه تحاول واشنطن موازنة علاقاتها الاستراتيجية لتحقيق مصالحها، مع الأخذ في الحسبان وزن وحجم تيارات الضغط داخل مؤسسات الإدارة الأميركية".
ملفات قوية ومتينة
وقال أيضاً، "هناك ملفات قوية ومتينة وتعد أساس استراتيجية العلاقات بين البلدين، وشهدت تطوراً ملحوظاً في الفترة الأخيرة، بينها مستويات التنسيق الأمني والعسكري والتبادل الاستخباراتي، فضلاً عن دعم معلن لدور وجهود مصر في عدد من الملفات الإقليمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وغاز شرق المتوسط، ما يعني أن المصالح والتعاون موجود في أكثر من مجال".
من جانبه، رأى السفير جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية المصري السابق، أن مسألة "تأثر علاقات البلدين بسبب بعض التباينات في ملفات بعينها مستبعد، نظراً لاستراتيجية وأهمية العلاقة بينهما، وهو ما يدركه صانعو القرار في العاصمتين واشنطن والقاهرة"، موضحاً، "بالنظر إلى المبلغ الذي تم منعه، ومقارنته مع حجم تشابك المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية، على مر تاريخ تطور علاقات البلدين حتى في أسوأ مراحلها، لم تتدهور مستويات الحوار والتواصل بين البلدين، وحافظت على قوتها في مجالات متعددة"، وتابع، "لا يمكن القول كذلك إن مصر من الدول التي يمكن التأثير فيها بتعليق 100 أو 200 مليون دولار".
من جانبها، قالت سارة هولوينسكي، مديرة مكتب منظمة "هيومن رايتس ووتش" (معنية بحقوق الإنسان) في واشنطن، إن القرار الأميركي بحجب 130 مليون دولار من المعونة "صائب"، وتابعت، "لكننا رأينا أيضاً أنه تم الإعلان هذا الأسبوع عن مبيعات أسلحة أميركية لمصر بقيمة 2.5 مليار دولار. ما يعني أن قرار الحجب ليس سوى عقوبة بسيطة بالنظر إلى تلك المنح".
وتمثل المعونات الأميركية لمصر 57 في المئة من إجمالي ما تحصل عليه من معونات ومنح دولية، من الاتحاد الأوروبي واليابان وغيرهما من الدول، كما أن مبلغ المعونة لا يتجاوز اثنين في المئة من إجمالي الدخل القومي المصري.
وتحصل مصر على تلك المعونة منذ عام 1978 في أعقاب توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، إذ أعلن الرئيس الأميركي حينذاك جيمي كارتر، تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من مصر وإسرائيل، تحولت منذ عام 1982 إلى منح لا ترد بواقع ثلاثة مليارات دولار لإسرائيل، و2.1 مليار دولار لمصر (815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية).
وكان آخر حجب لجزء من تلك المعونة في عام 2017، خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، حينما قررت إدارته حجب ما يقرب من 300 مليون دولار من المساعدات المتعلقة بحقوق الإنسان، وبينما تم الإفراج عن 195 مليون دولار في نهاية المطاف، تم منع ما يقرب من 100 مليون دولار.