لسنوات عدة ظلت تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة محيرة حول مدى أمانها وحمايتها للبيئة، فعلى الرغم من الآمال العريضة المتوقعة منها إلا أن السيارات المؤتمتة بالكامل لم تظهر حتى الآن في صالات العرض، لكن التكنولوجيا أصبحت مهيأة لتحقيق قفزة للأمام هذا العام مع توقع تقديم شركات كبرى أميركية وألمانية ويابانية المستوى الثالث من السيارات ذاتية القيادة، والتي ستسمح للسائقين برفع أيديهم عن عجلة القيادة وعدم الانتباه إلى الطريق، غير أنه مع فوائدها الكثيرة، وعلى عكس ما يظن بعضهم، بدأت تظهر علامات القلق من التأثيرات البيئية المحتملة لهذه المركبات، فما هذه التأثيرات؟ وهل من وسائل للحد منها؟
تسابق محموم
تسابق شركات صناعة السيارات الكبرى الزمن للوصول إلى المستوى الخامس والأخير من مستويات تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة، لكن أياً منها لم يحقق ذلك الحلم بعد، ومع ذلك كانت شركة "هوندا" اليابانية هي الأولى التي حصلت على موافقة رسمية لتشغيل سيارات المستوى الثالث بشكل محدود داخل اليابان فقط خلال العام الماضي، في حين أعلنت "مرسيدس بنز" أنها الشركة الأولى التي يسمح لها قانوناً بتصنيع وبيع سيارة ذاتية القيادة من المستوى الثالث في السوق الألمانية، وبسرعة لا تتجاوز 60 كيلومتراً في الساعة، بينما توقع إيلون ماسك رئيس شركة "تيسلا" أن تصل شركته إلى المستوى الرابع قبل نهاية هذا العام، وهو مستوى أفضل من السائق البشري في تجنب الحوادث.
ولكن بينما تعمل شركات تصنيع السيارات الكبرى على الوصول إلى مستويات أعلى في القيادة الذاتية (الأتمتة)، يجب أولاً توضيح الفوارق بين المستويات الخمس وما الذي يفصل كلاً منها عن الآخر.
مستويات القيادة الذاتية
يقدم المستوى الأول في القيادة الآلية أدنى درجات مساعدة السائق، إذ تحتوي السيارة على نظام دعم واحد على الأقل، فيوفر للسائق المساعدة في توجيه السيارة أو كبح سرعتها أو توقفها أو المساعدة في التسارع، بينما يظل السائق مسؤولاً عن قيادة السيارة ومستعداً لتولي زمام الأمور بقيادة السيارة في أي وقت ولأي سبب. أما في المستوى الثاني، وهو القيادة الذاتية الجزئية، فتنطبق على السيارات المزودة بأنظمة مساعدة القيادة المتقدمة التي يمكنها التحكم في مهمات القيادة الأساس من توجيه وتسارع وكبح، ولكن في إطار سيناريوهات محددة يظل خلالها السائق متيقظاً للإشراف الفعال على التكنولوجيا في كل الأوقات.
لكن المستوى الثالث الذي بدأت الشركات في تنفيذه على أرض الواقع الآن يستخدم أنظمة مساعدة مختلفة للسائق، بما فيها الذكاء الاصطناعي الذي يتخذ القرارات بناء على مواقف القيادة المتغيرة حول السيارة.
وفي المستوى الثالث لا يحتاج السائق داخل السيارة إلى الإشراف على التكنولوجيا التي تتحكم في القيادة، مما يعني أنه يمكنه الاستفادة من الوقت والمشاركة في أنشطة أخرى مثل استخدام الكومبيوتر الشخصي أو الهاتف أو القراءة، ومع ذلك يجب أن يكون السائق البشري حاضراً وقادراً على التحكم في السيارة في أي وقت، بخاصة في حال الطوارئ بسبب عطل في النظام، ومن ثم لا يستطيع السائق البشري أن يغفو أو يستمتع بقيلولة خلال الرحلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المستوى الرابع من نظم القيادة الذاتية فيشار إليه على أنه نظام الأتمتة عالية القيادة، إذ لا تتطلب القيادة أي تفاعل بشري في تشغيل السيارة لأنه مبرمج لإيقاف نفسه في حال فشل النظام، ونظراً إلى عدم الحاجة إلى سائق بشري مطلقاً، فلن تحتوي سيارة المستوى الرابع على عجلة قيادة ودواسات، ويمكن لجميع الركاب أو الراكب الوحيد الاستمتاع بالنوم أثناء رحلة السيارة، ومع ذلك لا يستطيع المستوى الرابع القيادة في كل الظروف المناخية وكل الأماكن، فهذا هو ما سيحققه المستوى الخامس والأخير وهو مستوى القيادة الذاتية الكاملة كأعلى تصنيف، إذ يمكن للمركبة أن تقود نفسها في كل مكان وفي مختلف الظروف من دون أي تفاعل بشري، كما أنها لا ترتبط بنطاق جغرافي ولا تتأثر بالطقس وتنقل البشر بشكل مريح وفعال وآمن، ومن دون الحاجة إلى وجود سائق أو حتى أي راكب داخلها إذا طلب منها ذلك.
تأثيرات سلبية
وعلى الرغم من أن الإنسان ظل يحلم بهذه المستويات من الرفاهية وبدرجة أكثر أماناً وكفاءة من السائقين البشر، بما يفتح فرصاً جديدة لكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة وغيرهم ممن لا يستطيعون القيادة بأنفسهم، إلا أن هذا الاهتمام المنصب بشكل أساس على مفهوم السلامة والرفاهية، يحمل في طياته بعض التأثيرات البيئية السلبية للمركبات ذاتية القيادة.
عبر دراستين حديثتين شارك فيهما سكوت هاردمان، من مركز أبحاث السيارات الكهربية والهجينة في جامعة كاليفورنيا، ومدير برنامج ثورات المستقبل في صناعة السيارات بجامعة كاليفورنيا - ديفيس، جيوفاني سيركيلا، وجدت فرق البحث أن السيارات ذاتية القيادة والمركبات الآلية يمكن أن تجعل الناس يقطعون مسافات أكثر بالسيارة مما يفعلون حالياً، مما يؤدي إلى مزيد من الازدحام وقدر أكبر من استهلاك الطاقة وبالتالي مزيد من التلوث.
رحلات أطول وتلوث أكثر
وتشير هذه الدراسات إلى أن ركوب السيارة ذاتية القيادة أقل إرهاقاً بكثير من الانشغال بالقيادة ومتطلبات الانتباه والتوتر الذي يصاحبها أحياناً، لذلك يكون الناس على استعداد للجلوس في رحلات أطول من دون الاهتمام بمزيد من حركة المرور إذا كان بإمكانهم الاسترخاء والقيام بأشياء أخرى أثناء الرحلة، كما أن الوعد بالسفر المريح والانتقال الهادئ إلى العمل والاستفادة بالوقت خلال الرحلة يمكن أن يجعل بعض الناس يبتعدون من أماكن عملهم، وقد يُسرع ذلك اتجاهات التوسع والسكن في الضواحي أو خارج حزام المدن الكبرى، وهو ما تفعله السيارات ذاتية القيادة من المستوى الثاني حالياً، وهو ما يؤكد أن المركبات المؤتمتة الأكثر تطوراً من المستوى الثالث التي ستطرح في الأسواق قبل نهاية العام الحالي، ستشجع على مزيد من القيادة في المستقبل، الأمر الذي يعني مزيداً من تلوث الهواء والازدحام.
حلول وأفكار
ومع افتراض أن السيارات والمركبات ذاتية القيادة ستستخدم في المستقبل تقنية عديمة الانبعاثات، كما تفعل ولاية كاليفورنيا حالياً، مما يقدم مساعدة كبيرة لحل مشكلة التلوث، إلا أن خطط الولايات المتحدة المستقبلية لجعل كل السيارات كهربائية خالية من الكربون بنسبة 100 في المئة، لن يمنع السيارات الكهربائية من إطلاق بعض الانبعاثات الأولية من خلال توليد الطاقة، فضلاً عن أن كل رحلات الانتقال والسفر بالسيارات تتسبب في آثار ضارة أخرى، مثل تلوث المياه والهواء من تآكل المكابح (الفرامل) وإطارات السيارات، إضافة إلى التصادم مع الحياة البرية والازدحام المروري.
ولمنع حدوث انفجار في القيادة والأضرار المرتبطة به، يقترح الباحثون ونشطاء البيئة على الحكومات والهيئات التنظيمية والمجتمعات إرسال إشارات إلى أن قيادة السيارات لن تكون مجانية، بخاصة في الرحلات الخالية من الإشغال حيث لا يكون هناك ركاب داخل السيارة.
سياسات ترشيد
وفي حين أن السياسات المشابهة المؤثرة اليوم تتعلق بفرض ضرائب على الوقود بهدف الحد من حركة السيارات الخاصة وخفض استهلاك الوقود وتوفير تمويل لصيانة الطرق، إلا أن تأثير ضرائب الوقود على سلوك السائقين سينخفض مع اعتماد وانتشار السيارات الكهربائية، وهذا يعني أن قطاع النقل سيحتاج إلى تطوير آليات تمويل جديدة، مثل فرض رسوم على عدد الأميال التي تقطعها السيارة، وهذا من شأنه أن يشجع المسافرين بالمركبات الخاصة على التفكير في طرق أرخص وأكثر كفاءة، مثل النقل العام والمشي وركوب الدراجات.
وعلاوة على ذلك يمكن فرض رسوم إضافية على القيادة في مراكز المدن المزدحمة، أو فرض نظام رسوم يستند إلى عوامل أخرى مثل توقيت القيادة بحسب مستويات الازدحام المروري وعدد الركاب داخل السيارة ونوعها، وذلك عبر استخدام تقنيات الاتصال الحديثة التي تتيح تتبع مكان وزمان تحرك السيارات على الطرق، مثل النظام الذي تستخدمه سنغافورة حالياً من خلال برنامج أسعار الطرق الإلكترونية لتقليل الازدحام وتنظيم تدفق حركة المرور.
وهناك خيارات أخرى تتمثل في الترويج لاستخدام أساطيل مشتركة من المركبات والسيارات ذاتية القيادة المملوكة لشركات تجارية على غرار "أوبر" و"ليفت" وغيرهما من مقدمي خدمات مشاركة الركوب، لتكون بديلاً عن السيارات المملوكة ملكية خاصة، الأمر الذي قد يسهم في جعل التخلي عن ملكية السيارة ممكناً في المستقبل القريب، بخاصة إذا تم تبني سياسات أكثر فاعلية الآن، حتى قبل انتشار المركبات ذاتية القيادة.