بينما توجه الولايات المتحدة تركيزها من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيطين الهادئ والهندي، مما يمهد لعودة صراع القوى العظمى إلى الواجهة، تبدو السعودية في المقابل أكثر إصراراً على تعزيز علاقاتها المتنوعة بالفعل حتى قبل الانكفاء الأميركي عن المنطقة.
على سبيل المثال، تكشفت في السنوات الماضية مساع سعودية جادة للارتقاء بالعلاقة مع الصين، حتى تشمل ما هو أبعد من التعاون الاقتصادي، فبدأت جامعات ومدارس سعودية إدخال تعليم اللغة الصينية، وشرعت الرياض في تشييد منشأة نووية سلمية لاستخراج اليورانيوم بمساعدة الصين، وأخيراً تناقلت وسائل إعلام أميركية تقارير حول عكوف السعودية على تطوير برنامجها الخاص للصواريخ الباليستية بمساعدة صينية أيضاً، دون أن تعترف الدولتان بذلك.
وقبل أيام أعلنت السفارة الصينية في السعودية، عن عزم ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، حضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين 2022، في تغريدة حظيت بتفاعل كبير، إلا أنها أيضاً لفتت الأنظار إلى معاملة استثنائية من قبل السعودية، كون الكشف عن الزيارات الخارجية لولي عهدها ليس شائعاً إلا عبر وكالة الأنباء الرسمية في البلاد "واس"، أو من خلال التسريبات غير الرسمية.
وكتبت السفارة عبر حسابها الرسمي على "تويتر"، "نرحب ترحيباً حاراً بصاحب السمو الملكي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بن عبد العزيز في الصين لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين 2022". وأضافت في تغريدتها "من المؤمل أن تُعزز زيارة ولي العهد السعودي تنمية المجال الأولمبي العالمي وتطور العلاقات الاستراتجية الشاملة الصينية السعودية".
وإضافة إلى إعلان السفارة الصينية الاستباقي بشأن الزيارة الذي يدل على رغبة الرياض في دعم استضافة بكين للأولمبياد أمام دعوات المقاطعة، اعتبر مراقبون ترؤس ولي عهد سعودي لوفد بلاده في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية لفتة نادرة.
وقال بول سوليفان، الباحث المتخصص بدراسات الشرق الأوسط، إن وجود تمثيل سعودي على هذا المستوى سيساعد في تعزيز العلاقات السعودية الصينية، مشيراً إلى أن الصين "أكبر مستورد للنفط السعودي، ومصدر للتكنولوجيا وبعض أجهزة الطاقة الجديدة".
لكن سوليفان شدد في حديثه إلى "اندبندنت عربية" على ضرورة بقاء العلاقات السعودية مع الولايات المتحدة "قوية"، مسترجعاً اللقاء التاريخي الذي جمع مؤسس الدولة السعودية الحديثة الملك عبد العزيز بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، على متن البارجة الأميركية "كوينسي" في البحر الأحمر، عام 1945.
وأضاف، "لا يمكن إهمال عمق العلاقات السعودية الأميركية أو نسيانها، كما يجب الأخذ بعين الاعتبار دعم الصين لإيران منذ فترة طويلة، والانتهاكات التي تتعرض لها أقلية الإيغور المسلمة في الصين".
زوال الأحادية القطبية
وبصرف النظر عن تأويلات الزيارة المرتقبة والقراءات المختلفة لها، فإن تعزيز العلاقة بين السعودية والصين تبدو مسألة حتمية في ظل انكفاء واشنطن عن المنطقة، نظراً إلى الفراغات التي قد تتركها، وتاريخ بكين في استغلال مثل هذه الفراغات بخفة، ناهيك عن الفرص التي تريد الرياض انتهازها من خلال شريك مرن كالصين، ولعل من أبرزها نقل التكنولوجيا العسكرية.
وعلى الرغم من أن المسؤولين السعوديين لا يتحدثون عن انفتاحهم على الصين من زاوية انتهاء هيمنة القطب الواحد، إلا أنه يصعب أن يمر أي تقارب معها من دون لفت الانتباه إلى المتغيرات التي يشهدها العالم، بخاصة أن الرياض كانت تتوقع التغيير منذ عقود، ويدل على ذلك تصريح الأمير تركي الفيصل، سفير السعودية لدى واشنطن آنذاك، الذي توقع قبل 18 عاماً بأن يكون مستقبل العالم متعدد الأقطاب.
اليوم يرى الفيصل أن الولايات المتحدة لازالت هي الأقوى، لكنه يقول إن "سياسات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حتى الآن تقر بأنه سيكون هناك أقطاب عدة، وتريد أن تكون هي مبادِرة في كيفية مواجهة هذه الأقطاب في علاقتهم مع الصين".
ويضيف بأن الانفتاح على الصين يأتي أيضاً من الولايات المتحدة ومن أوروبا وروسيا وغيرها من الأمم، مشيراً إلى أن "الكل يعترف بأن الأحادية القطبية انتهت، وأنه لا بد من الأخذ في الاعتبار أن تكون هناك أقطاب عدة".
هذا ما فاجأ واشنطن
لكن الشراكة الصينية على الصعيد الأمني مع السعودية ستظل محدودة، وفق كارين يونغ، الباحثة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، التي تستبعد أن ترغب السعودية في أن تحل الصين محل الولايات المتحدة كشريك أمني، لافتةً إلى أن بكين لا يمكنها لعب هذا الدور، لكنها مستعدة لـ "العمل في الهوامش"، عبر "تمرير عقود للسعودية وبيعها مواد دفاعية".
ورداً على أسئلة "اندبندنت عربية" حول تقارير تصنيع الرياض صواريخ باليستية بمساعدة الصين، قالت يونغ، "للسعودية تاريخ في التواصل مع أطراف أخرى لسد احتياجاتها الأمنية، وخصوصاً العاجلة، سواء كانت صواريخ أو أسلحة خفيفة، إلا أن الموقع الكبير قيد الإنشاء يبدو أنه فاجأ الولايات المتحدة وصناعاتها الدفاعية".
وعن الروابط الاقتصادية مع واشنطن، قالت الباحثة، إن السعودية وبقية دول الخليج "مستثمرون نشطون في الشركات الأميركية، ومن المحتمل أنهم يعودون بالنفع اقتصادياً على الولايات المتحدة أكثر مما تقدمه الولايات المتحدة لهم". وتابعت، "اتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة لم تكن مفيدة جداً لدول مجلس التعاون الخليجي، مثل البحرين وعمان.
وأضافت، بالنسبة إلى السعودية، تركز الاهتمام الاقتصادي الأميركي والنقاش حول اليمن في الغالب على دور مبيعات الدفاع، وهذا "مؤسف" على حد وصفها، كون واشنطن والرياض "أكثر ارتباطاً من خلال أنواع أخرى من الروابط المالية، لا سيما من خلال أسواق الطاقة".
مميزات شريك مرن
أبرز ما يميز بكين المرونة في تمرير الصفقات الحساسة، بخلاف واشنطن، حيث تمر مبيعات السلاح مثلاً على الخارجية والكونغرس قبل الموافقة النهائية. وفيما لا تخلو نقاشات الجودة والتفوق النوعي عند المقارنة بين الصناعات العسكرية الأميركية والصينية من جدل، فإن الرياض على الأقل تملك خيارات لسد احتياجاتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خطوات الرياض لتعزيز برنامجها النووي ذي الأغراض السلمية، مثال على التحديات التي تواجهها في واشنطن والمرونة التي توفرها بكين، فبعدما لاحت بوادر التعاون النووي بين السعودية والولايات المتحدة في عام 2017، وبدأت حينها المفاوضات بين البلدين حول اتفاق 123، رفضت السعودية، وفق "رويترز"، أن تكون طرفاً في أي اتفاق من شأنه أن يحرمها من إمكانية أن تتولى بنفسها تخصيب اليورانيوم، وهي خطوة تعكس المخاوف الإقليمية من حيازة إيران للقنبلة النووية.
ينص الفصل 123 من قانون الطاقة الأميركي، على أن توقع الدولة التي تريد عقد اتفاق للتعاون النووي اتفاقية تعاون سلمي تمنعها من صنع الوقود النووي الذي يمكن أن يستخدم في تصنيع قنابل.
لكن يبدو أن الرياض وجدت لاحقاً في الصين شريكاً موثوقاً وأكثر مرونة في آن، حتى تستأنف مساعي تعزيز برنامجها النووي ذي الأغراض السلمية، إذ شرعت السعودية، وفق مصادر غربية تحدثت لـ صحيفة "وول ستريت جورنال"، في تشييد منشأة لاستخراج اليورانيوم في مدينة العلا شمال غربي البلاد بمساعدة صينية.
وأوضحت الصحيفة الأميركية في تقرير عام 2020 أن المنشأة الجديدة بُنيت بمساعدة كيانين صينيين لم يمكن التعرف على هويتهما، ولا توجد معلومات إضافية متعلقة بالمنشأة، وما إذا كانت قد بدأت عملياتها. في حين قال خبراء الحد من انتشار الأسلحة النووية، إن "الموقع لا ينتهك الاتفاقات الدولية التي تُعد السعودية طرفاً فيها".
ولكن وزارة الطاقة السعودية نفت بشكل قاطع المعلومات الخاصة بالموقع الجغرافي، وقالت في بيان، إن "المملكة تعاقدت مع الصينيين لاستكشاف اليورانيوم في مناطق معينة"، من دون الكشف عن تفاصيل إضافية. وتابعت، "البرنامج النووي السعودي يتوافق تماماً مع جميع الأُطر والقوانين الدولية المتعلقة بالطاقة النووية واستخدامها السلمي".
وعن التعاون النووي مع الصين، يقول سوليفان "يمكن التنسيق لإنشاء أي محطات نووية في السعودية بموجب اتفاق 123 على غرار الإمارات"، مشيراً إلى أن "السعودية لا تستحق أقل من ذلك".
وتؤكد السعودية أنها تريد الطاقة النووية لتنويع مزيج إمداداتها للطاقة، وهو ما يمكًنها من تصدير مزيد من الخام، بدلاً من حرقه لتوليد الكهرباء.
أحاديث الباليستي وزيارة نادرة
الشراكة العسكرية بين السعودية والصين هي الأخرى تسير نحو مزيد من التعاون والتنسيق، فبعد أسابيع من تقارير استخباراتية أميركية حول تصنيع السعودية صواريخ باليستية بمساعدة بكين، التقى نائب وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، وزير الدفاع الصيني وي فونغ خه، واستعرضا "العلاقات الثنائية بين البلدين، وتحديداً المجال الدفاعي والعسكري".
وسبق ذلك اللقاء، زيارة جماعية نادرة إلى الصين أجراها وزراء خارجية أربع دول خليجية، في مقدمهم وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، إضافة إلى أمين مجلس التعاون الخليجي.
وأكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الصينية الرسمية "شينخوا" استعداد بكين للعمل مع السعودية "من أجل التنفيذ المشترك للتوافق المهم الذي توصل إليه زعيما البلدين لتعزيز تنمية العلاقات الثنائية"، إلا أنه لم يتطرق إلى ملامح هذا التوافق.
من جانبه أكد وزير الخارجية السعودي بأن بلاده تتطلع مع الصين إلى توطيد الشراكة والتنسيق الثنائي في مختلف مجالات التعاون". ونقلت وكالة الأنباء الصينية عن الوزير قوله، "السعودية تعارض دائماً التدخل في الشؤون الداخلية للصين، وتدافع بحزم عن مبدأ صين واحدة، وتؤيد بشدة الموقف الشرعي للصين في شأن المسائل المتعلقة بتايوان وشينغيانغ، فضلاً عن حقوق الإنسان".