ملخص
استعرض دونالد ترمب القوة العسكرية الأميركية المتزايدة في الشرق الأوسط، سواء عبر الضربات الجوية والبحرية المستمرة ضد الحوثيين، أو من خلال تعزيز القوة الاستراتيجية الضاربة بإرسال ست من القاذفات الشبحية المتطورة "بي 2" إلى قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي.
مع وجود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن واستمرار دونالد ترمب في الضغط على طهران من أجل عقد مفاوضات مباشرة بالتوازي مع مضاعفة الحشد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، يدفع الرئيس الأميركي القادة الإيرانيين إلى النقطة التي يمكن أن يدركوا فيها أن البرنامج النووي لا يفشل فحسب في تحقيق أهدافه بل يعرض الأمن القومي للبلاد للخطر.
والسؤال الآن، هل تنجح التكتيكات التي يستخدمها ترمب ويصل إلى صفقة تنتهي باتفاق جديد مع إيران أم أن جهوده وضغوطه المتواصلة لن تجدي نفعاً ولن يكون أمامه سوى خيار واحد فقط وهو الحرب؟
ضغوط عسكرية
على مدى الأيام الأخيرة استعرض دونالد ترمب القوة العسكرية الأميركية المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط، سواء عبر الضربات الجوية والبحرية المستمرة ضد الحوثيين في اليمن التي تحمل رسالة واضحة لإيران، أو من خلال تعزيز القوة الاستراتيجية الضاربة بإرسال ست من القاذفات الشبحية المتطورة "بي 2" إلى قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي (أميركا تمتلك 20 طائرة فقط من هذا النوع).
كذلك عززت الولايات المتحدة دفاعاتها الجوية بإرسال بطاريتين من طراز "باتريوت" وأخرى من نوع "ثاد" تحسباً لضربات انتقامية إيرانية حال اندلاع الحرب، تزامناً مع إرسال البنتاغون حاملة الطائرات "كارل فينسون" لتنضم إلى حاملة الطائرات "هاري ترومان" التي تستخدم حالياً كقاعدة انطلاق رئيسة في ضرب الحوثيين، مما يشير إلى أن واشنطن تضع الخيار العسكري في المقدمة للضغط على إيران كي تتراجع عن موقفها برفض المفاوضات المباشرة مع الأميركيين تحت تهديد القوة العسكرية.
ووسط هذا الحشد العسكري يلتقي ترمب مع بنيامين نتنياهو لبحث أفضل سبل التعامل مع إيران، التي يبذل فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي جهوداً مضاعفة لحث ترمب على عدم تضييع الوقت في التفاوض مع الإيرانيين وتسريع جهود توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية.
خلاف استراتيجي
منذ تنصيب ترمب في يناير (كانون الثاني) الماضي تزايدت الخلافات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول التعامل مع إيران، إذ أعرب الرئيس عن نفوره من العمل العسكري في بداية خطاب تنصيبه، قائلاً إنه يريد قياس النجاح بالحروب التي لا تخوضها أميركا أبداً وهو ما يفسر تفضيل ترمب الآن الحل الدبلوماسي لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية، الذي انعكس في رسالته الأخيرة التي عرض فيها المفاوضات على المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
في المقابل يفضل النهج الإسرائيلي العمل العسكري الوقائي، إذ ذكرت تقارير أن نتنياهو أصدر تعليمات للجيش بالاستعداد لضرب إيران بحلول منتصف عام 2025، وأظهرت أفعال إسرائيل السابقة دعمها الضربات الجوية الاستباقية (العراق 1981، سوريا 2007، وإيران 2024)، فضلاً عن قيادة إسرائيل حملات التخريب السرية ضد إيران خلال يوليو (تموز) 2020، وأبريل (نيسان) 2021، ومايو (أيار) 2022.
وتثير هذه الاختلافات الواضحة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تساؤلات جوهرية لصانعي السياسات الأميركيين حول ما إذا كانت هذه الإشارات المتباينة ستعوق التوافق الاستراتيجي والثقة، بل وحتى التنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل في شأن إيران.
خيارات إسرائيل المفضلة
تنظر إسرائيل إلى البرنامج النووي الإيراني كتهديد وجودي، مما أدى إلى استراتيجية متعددة الجوانب لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية، بما في ذلك العمل العسكري والعمليات السرية. وعلى سبيل المثال يؤكد ما يسمى "مبدأ مناحيم بيغن" الذي أُرسي بعد ضرب المفاعل النووي العراقي أوزيراك عام 1981، التزام إسرائيل تحييد التهديدات النووية المحتملة في الشرق الأوسط بشكل استباقي.
ومع تطوير إيران قدراتها النووية في الأشهر الأخيرة، استغل نتنياهو تغير الأجواء في إسرائيل بعد هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ليكثف الإجراءات الوقائية، ويشن في الـ26 من أكتوبر 2024 غارة جوية ألحقت أضراراً بالغة بالدفاعات الجوية الإيرانية، ودمرت أحدث الدفاعات الروسية لديها من بطاريات "أس 300"، وبعد الهجوم أظهرت إسرائيل استعدادها لاستخدام القوة مجدداً عند الضرورة.
تاريخياً ظلت إسرائيل متشككة في الحلول الدبلوماسية مثل خطة العمل الشاملة المشتركة التي توصل إليها عام 2025 وعرفت باسم الاتفاق النووي الإيراني، فقد كانت تعتقد أن بند انقضاء موعد المعاهدة سيسمح بانتهاء قيود رئيسة ستقيد وصول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى المنشآت النووية الإيرانية، وأن السماح بتخصيب اليورانيوم سيشكل سابقة خطرة في شأنها تشجيع الانتشار النووي في المنطقة، ولهذا اعتبر نتنياهو الاتفاق النووي والنهج الدبلوماسي "خطأ تاريخياً"، مما أدى إلى خلاف مرير مع إدارة الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما توترت معه العلاقات الأميركية - الإسرائيلية.
ولم تتغير آراء نتنياهو في شأن الدبلوماسية مع إيران كثيراً منذ ذلك الحين، بل أكد نفوره من الترتيبات التي لا تفكك البنية التحتية النووية الإيرانية ولا توقف برنامجها النووي، وهو ما يفسر رغبة إسرائيل في دفع إدارة ترمب إلى إجراءات أكثر حزماً، بما في ذلك الخيارات العسكرية، بخاصة أن توجيه ضربة عسكرية للمواقع النووية الإيرانية المحصنة تحت الجبال والمتفرقة عبر الأراضي الإيرانية الواسعة يتطلب هجمات مستمرة، وهو أمر يمكن لإسرائيل تنفيذه منفردة، إذ يتطلب تدخلاً أميركياً ليكون فعالاً، لا سيما في ظل الحاجة إلى مواجهة أي رد انتقامي إيراني.
احتمالات المواجهة
لا يبدو أن مبيعات الأسلحة الأميركية الأخيرة لإسرائيل تتوافق دائماً مع تفضيل الرئيس ترمب الدبلوماسية مع إيران، فقد سمح في أحد أوامره التنفيذية الأولى بشحنات قنابل (أم كيه 84) الخارقة للتحصينات لإسرائيل التي تزن 20 ألف رطل، بعدما حجبتها إدارة الرئيس السابق جو بايدن بسبب مخاوف من استخدامها المحتمل في رفح بقطاع غزة.
وفي حين تفتقر هذه القنابل إلى القدرة على اختراق مواقع مدفونة أو محصنة على عمق كبير، مثل منشأتي فوردو أو نطنز، يمكن استخدامها في حملة جوية مشتركة لاستهداف منشآت فوق الأرض أو محصنة بصورة أقل مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني (مثل أجهزة الطرد المركزي، أو إنتاج مكونات الصواريخ الباليستية، أو مواقع الأبحاث).
ومع نشر الولايات المتحدة ست قاذفات استراتيجية في الأقل من طراز "بي 2" الشبحية في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي، ثارت تساؤلات حول احتمالات مواجهة الولايات المتحدة لإيران، إذ إن تزويد هذه الطائرات بقنابل اختراق الذخائر الضخمة من طراز (جي بي يو 57) يجعلها قادرة على تدمير مواقع نووية محصنة بشدة في ضربات متتالية متعددة.
وإذا ما أُخذت هذه العمليات لنقل الأسلحة ونشر القاذفات والضربات الأخيرة في الاعتبار، فإنها تمثل جزئياً موقفاً استراتيجياً يهدف إلى الضغط على إيران للدخول في مفاوضات نووية قبل انقضاء مهلة الشهرين التي حددها الرئيس ترمب في السابع من مارس (آذار) الماضي.
الغموض الاستراتيجي
بتعزيز صدقية استعداد الولايات المتحدة لاستخدام القوة، وفي الوقت نفسه إظهار درجة من التسامح مع ضربة إسرائيلية دقيقة على البرنامج النووي الإيراني، يبدو أن الإدارة الأميركية تستغل خطر التصعيد كورقة مساومة كما تقول كبيرة الباحثين في مشروع القضايا النووية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، دورين هورشيغ.
ونظراً إلى أن أسلوب ترمب التفاوضي غالباً ما يركز على الغموض الاستراتيجي، وعدم القدرة على التنبؤ، والمطالب المبالغ فيها، فمن المرجح أنه ينظر إلى الموقف العسكري الأكثر حزماً على أنه مصدر ضغط لا تناقض، ويتجلى هذا المنظور بوضوح في تهديداته الأخيرة التي قال فيها "إذا لم يتوصلوا إلى اتفاق فسيكون هناك قصف لم يروا مثله من قبل".
ومع ذلك لا يزال ترمب راغباً في استنفاد جميع السبل الدبلوماسية قبل اللجوء للخيار العسكري، إذ يبدو أنه يميل إلى دفع الإيرانيين إلى نقطة يدرك فيها النظام أنه لا يفشل في تحقيق أهدافه فحسب، بل يعرض الأمن القومي الإيراني للخطر، ولهذا منح ترمب الإيرانيين مهلة شهرين لمنح ضغوطه صدقية أكثر، وإجبار طهران على التعامل مع تهديداته على محمل الجد.
هل ينجح نتنياهو؟
يحاول بنيامين نتنياهو تبرير الإجراءات الوقائية الهجومية، بما في ذلك الضربات العسكرية والعمليات السرية ضد إيران عبر إقناع ترمب بأن إيران حاولت قتله مثلما سعت إلى قتل الإسرائيليين، وربط وكلاء طهران مباشرة بالهجمات على كلا البلدين، والتزام إسرائيل صد دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة وضمان عدم تطويرها سلاحاً نووياً في أي وقت، ومع ذلك لم يأخذ الرئيس الأميركي منذ بدء ولايته الثانية بنصيحة نتنياهو في شأن كيفية التعامل مع إيران كما فعل في الماضي.
عام 2018 أعرب كلاهما عن اعتراضه على خطة العمل الشاملة المشتركة بعدما تلقى ترمب معلومات استخباراتية إسرائيلية حصل عليها "الموساد" من خلال مداهمة ملفات نووية إيرانية سرية، ولهذا وثق الرئيس برأي نتنياهو بأن الانسحاب من الاتفاق هو الخيار الأفضل، بينما سعى في الوقت نفسه إلى التراجع شخصياً عنه باعتباره إنجازاً بارزاً في السياسة الخارجية لأوباما.
ومنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، كثفت إيران من تطوير عملياتها النووية، فرفعت سقف مخزونها من اليورانيوم، ووسعت قدراتها على التخصيب، واستأنفت الأنشطة في منشآتها النووية، مما دفع ترمب إلى إعادة النظر في الدبلوماسية كوسيلة ممكنة خلال ولايته الثانية، وهو ما يشير إلى تحول في الموقف المتوافق سابقاً بين أميركا وإسرائيل القائل بأن المفاوضات غير فعالة.
وبينما لم يعلق نتنياهو مباشرة على عرض ترمب إشراك إيران في محادثات دبلوماسية، فإن فريقه يضغط بنشاط على الولايات المتحدة لفرض حد زمني لحملة الضغط القصوى قبل النظر في تدابير بديلة، بما في ذلك العمل العسكري، وهو ما يشير إليه زيارة وفد بقيادة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر إلى واشنطن في أواخر مارس الماضي لمناقشة المخاوف الإسرائيلية، بالتوازي مع زيارة لإسرائيل قام بها الجنرال مايكل كوريلا قائد القيادة المركزية الأميركية لبحث الأمن الإقليمي مع رئيس الأركان الإسرائيلي.
وفي وقت يدير فيه ترمب مبادرات دبلوماسية تجاه إيران، من المرجح أن يثير ذلك تشكك إسرائيل في المفاوضات كما تشير الباحثة في مشروع القضايا النووية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، بايلي تشيف، لا سيما إذا سعت الإدارة إلى اتفاق لا يلبي المطالب الأمنية الإسرائيلية، ومع انقضاء مهلة الشهرين أمام الدبلوماسية، سيكون مدى قدرة الجانبين على تسوية خلافاتهم حاسماً في تحديد ما إذا كان النهج الأميركي سيميل في النهاية نحو الانتظام الدبلوماسي أم التصعيد العسكري.
نهج ترمب
اتسمت سياسة ترمب تجاه إيران بالغموض، ويعزى ذلك على الأرجح إلى الانقسامات داخل حكومته وبين قاعدته الجمهورية، ورغباته المتضاربة في استعراض القوة العسكرية وفي الوقت نفسه رغبته في بناء إرث كصانع سلام، إذ ينقسم مستشارو ترمب حول كيفية التعامل مع إيران سواء من خلال توجيه ضربات عسكرية للمواقع النووية أو إبرام الصفقات، وكذلك حيال نطاق الاتفاق المحتمل.
على سبيل المثال، أظهر وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز تأييدهما الدبلوماسية المدعومة بالتهديد باستخدام القوة، وأكدا أن جميع الإجراءات مطروحة دائماً، بينما عارض نائب الرئيس جي دي فانس التدخل العسكري الأميركي لمنع إيران من تجاوز العتبة النووية.
أيضاً، دعا والتز إلى تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل، في حين أوضح مبعوث ترمب الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف أن هناك رغبة للتحقق والحصول على تهدئة المخاوف في شأن التسلح النووي، كذلك أبلغ الرئيس ترمب مساعديه أنه يريد أن يتضمن أي اتفاق مستقبلي قيوداً على دعم إيران الجماعات المسلحة الإقليمية.
وعلى رغم أن حملة الضغط القصوى الحالية قد تطمئن الجمهوريين التقليديين بأن العمل العسكري لا يزال خياراً مطروحاً، وتعالج المخاوف الإسرائيلية في شأن تأثير تخفيف العقوبات على وكلاء إيران، فإن هذا التوازن، سواءً كان متعمداً أو نتيجة لانقسام الحكومة، من غير المرجح أن يصمد، فمع انقضاء مهلة الشهرين ستكون الإدارة مجبرة على الاختيار بين التصعيد أو التفاوض أو التراجع.