"أحاول -مذ كنت طفلاً- قراءة أي كتاب يتحدث عن أنبياء العرب وعن حكماء العرب... وعن شعراء العرب...
فلم أرَ إلا قصائد تلحس رِجل الخليفة من أجل حفنة رز... وخمسين درهماً.
فيا للعجب!
ولم أرَ إلا قبائل ليست تفرق ما بين لحم النساء... وبين الرطب...
فيا للعجب!
ولم أرَ إلا جرائد تخلع أثوابها الداخلية...
لأي رئيس من الغيب يأتي على جثة الشعب يمشي وأي مرابٍ يكدس في راحتيه الذهب...
فيا للعجب!" (نزار قباني)
هذا مقطع من قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، حين نُشرت عام 1994، أثارت زوبعة من ردود الأفعال، كقصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، التي نُشرت مباشرة عقب هزيمة يونيو 1967. وقد كان قباني شاعراً قومياً حد التطرف، لكنه شاعر هجاء لأمته، في جلّ ما كتب من شعر ونثر، ومن خلال هذه الهجائية، نال شهرته التي لم تضاهَ، بل إنه الشاعر النموذج، من نسج الشعراء من قماشته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان قباني نجماً لرؤية شعرية مهيمنة، منذ عصر النهضة العربية، هذه الرؤية/ الحالة السيكولوجية، التي تنبري لهجاء حال الأمة، لا مثيل لها، وذات رسالة خالدة!. ومن هذه الرؤية/الهجاء، نسج شعراء العرب قصائدهم، التي تحولت إلى مناشير تتناقلها الأيدي، وفي مرحلة متقدمة، تم تناقلها عبر الأشرطة (الكاسيت)، كما ممنوعات، مثل أشرطة الشاعرين مظفر النواب وأحمد مطر، وما على شاكلتهما من كتابة شعرية في باب الهجاء والنواح والبكاء على الحال.
والحقيقة أن الشعراء كانوا مثلما الكتيبة المتقدمة، النظرة الأساس في الثقافة العربية، التي أسسها ومركز مقاربتها الفكرية، هجاء الأمة في تاريخها وحاضرها وحتى مستقبلها.
وإن جلّ ما أُنتج من فكر، وما استخدم من مناهج فكرية، هو لهجاء العرب وتاريخهم الدموي، وللإسلام كدين جهادي، في الفترة الماضية القريبة. وفي ما قبل كان الهجاء ينصبّ على الحاضر، وهذه الحال تضمر البكاء على الأطلال، ونوع من تجريح وجلد الذات، أو هكذا مارس الهجّاؤون الحديثون نقدهم للهجّائين الأقدم. ويمكن رصد هذا في جلّ المباحث، التي اتجهت بل انغمست في التراث والمسألة الدينية، والذهاب من هذا، إلى مرحلة ما قبل التاريخ.
وعليه فقد تحوّلت غالبية كبرى من منتجي الفكر والإبداع، إلى معالجة تراثية تاريخية دينية، فكان هذا النتاج الرائج وذو الجماهيرية الواسعة. وبالضرورة أن التكرار الوصمة، في إنتاج كهذا، حيث النسج على المنوال الوسمة. ولقد صار كثير من كتّاب المرحلة ومفكريها، رهينة الرائج، يدورون مع رحى الساقية، سواء كان المنتج، كبحوث فكرية أو كتابة سردية أو شعرية. وإن القارئ، يتلقّى في أنواع مختلفة، البضاعة ذاتها التي يريد، وبالصيغة التي تلقى رضاه، مما ينزع الإبداع من جل ما ينتج، ما هو عبارة عن تكرار ومطّ، لهجاء مسبوغ بالشعر قبل الفكر والتفكر، بحيث يكون زكي نجيب محمود ينتج في مجاله، قصيدة نزارية هجائية ليس إلا، يذهب بها خزعل الماجدي إلى الأنثربولوجيا التاريخية، ويبحث فيها سيد القمني في التاريخ الإسلامي.
يبدو ما ينتج من فكر وإبداع، كما فواجع شكسبيرية، وهجاء الخطيئة، فإذا ما طالعها القارئ على مهل وروية، فسيخلص إلى أنها نصوص، غالباً، ما تنم عن جنون عظمة، ولكنه ذو خاصية مفارقة. فالهجاء الذي يطالع، لسان حاله، أننا كأمة ليس ثمة مثيل لها، حتى في النكبة وسميتُها النكسة. أمة متفردة ليست من البشر، فتاريخها ليس من التاريخ، كما حاضرها ليس حاضراً، ومن هذا فمستقبلها معطى لا تاريخي. يمر عليّ هذا، وأنا أشاهد أو أسمع أو أقرأ، مراثي لمفكرين وكتاب وشعراء، بأنهم العظماء، ونصوصهم محمولة بفكرة، أنهم من بلدان لم تنتج شيئاً، غير القمع والعنف والعفن البشري، وأستغرب كيف تسنى لبلدان كهذه: مفكرون وكتاب وشعراء عظماء.
أتمنى على القارئ أن يأخذ المقالة ومحمولها، في إطار توصيف حالة، من دون تحميلها مهمة التشخيص والتحليل. فهي مقالة تستعيد ما كان يُطلق عليه الخواطر، تكتب كما يتفكر فيها، بما يخطر على البال. وقد وضّحت أن ما جاء يسعى، جاءني في مقام المراثي، فزدته من عندي مقام الهجاء، فبينهما توأمة ولو كانت بالفعل وليست بالقوى. ففي ظني أن الهجاء المفجوع، فيه رثاء مسكوت عنه. وهذا ما خطر على بالي، ومراثٍ تُكتب في رحيل الكاتب سيد القمني.