مشكلة سياسات التغير المناخي أنها تضحي بأمن الطاقة، ظناً من راسميها أنهم يحمون البيئة، ويبطئون التغير المناخي. والواضح أنه لا يمكن تحقيق سياسات التغير المناخي والحياد الكربوني إلا على المدى الطويل، وهذا يتطلب توزان أمن الطاقة مع الأمن البيئي. عدم تحقيق هذا التوازن هو سبب أزمة الطاقة الحالية في أوروبا، وفي بعض الولايات الأميركية. ضحوا بأمن الطاقة، فرجعوا إلى الفحم والنفط في توليد الكهرباء، فضربوا الأمن البيئي أيضاً.
نتجت من التخبط في سياسات الحياد الكربوني والعداء للوقود الأحفوري مشكلات كبيرة. مثلاً، نتج من رفع الضرائب في الهند على المنتجات النفطية بشكل كبير، بعد أن تم تخفيض الإعانات عن بعض المواد النفطية التي تستخدم في الطهي في البداية، قيام الفقراء بالدخول إلى مناجم الفحم القديمة المغلقة لاستخراج الفحم منها، ونتج من هذا انهيار بعض المناجم ومقتل بعض الأفراد، كما نتج منه أيضاً حرق الفحم ذي النوعية الرديئة، فزادت الانبعاثات. وكان الهدف الأساس من تخفيض الدعم الحكومي وزيادة الضرائب على المنتجات النفطية هو خفض الانبعاثات!
وعندما تم تصنيف الزيوت النباتية على أنها وقود أخضر، وتوسعت بعض الدول في زراعتها، حتى لم يبق هناك أراض للزارعة، تم حرق الغابات للتخلص من الأشجار والاستفادة من الأرض في الزراعة. كل هذا بحجة حماية البيئة. وفي أماكن أخرى تمت إزالة الأشجار لزرع المحاصيل التي تنتج الوقود الحيوي، أو لوضع ألواح طاقة شمسية مكانها.
المشكلة الأساسية هنا أنه يتم التخلص من المصادر كثيفة الطاقة لصالح مصادر منخفضة الكثافة في الطاقة، وهذا أحد أسباب أزمة الطاقة في أوروبا اليوم. المشكلة الأخرى أن طريقة حسابات الطاقة المتجددة مضللة. فهم يركزون على الأسعار لكل كيلو واط/ساعة، ويقومون بالمقارنة مع مصادر الطاقة الأخرى. ولكن لو تم استخدام طرق أخرى في الحساب، مثل التركيز على المخاطرة، وأمن الطاقة، فإن الأمور تنعكس رأساً على عقب. وتشير البيانات إلى أن استثمار دولار واحد في الطاقة الأحفورية يعطي طاقة على مدى 30 سنة، تفوق الطاقة المنتجة من دولار واحد من الطاقة المتجددة، ومن ثم فإن العائد الاقتصادي أكبر.
ويرد البعض على الكلام السابق بأنه علينا أن نحسب الأثر البيئي، ولهذا سعر... هذا كلام صحيح، ويؤيد فكرة المقال: يجب التوازن بين أمن الطاقة والأمن البيئي.
أساسيات أمن الطاقة
هناك أساسيات تضمنتها كل سياسات الطاقة التي اتبعتها الولايات المتحدة والدول الغربية، إلا أنها تجاهلت قضية مهمة برزت للسطح في الأشهر الأخيرة، ومن ثم فإنه يجب كتابتها بوضوح عندما يتم تجديد وتحديث هذه السياسات. هذه القضية هي ضرورة التعامل مع واردات الطاقة كأنها محفظة استثمارية يتم فيها تخفيض التكاليف والمخاطر في الوقت نفسه، أو بعبارة أخرى، تحقيق أعلى عائد بأقل مخاطر ممكنة. إذا تم التركيز على تعظيم العوائد وتجاهل المخاطرة، فإن المحفظة قد تفلس. وإذا تم التركيز على تخفيض المخاطر فإن العائد سيكون منخفضاً. سياسات الحياد الكربوني لا تختلف عن المحفظة الاستثمارية: تحقيق توازن بين أمن الطاقة والأمن البيئي، وإلا لا يتحقق أي شيء، ويخسر البلد كليهما. نتيجة هذه الفكرة ما يلي: إن أحد أهم أسباب أزمة الطاقة الأوروبية والآسيوية إلى حد ما، هو التخلي عن العقود طويلة الأجل منخفضة المخاطرة، والتحول إلى الشراء من الأسواق الفورية عالية المخاطرة. هذا التحول رفع أسعار الطاقة، خصوصاً الغاز المسال، إلى مستويات تاريخية كانت في السابق حلماً. ومع ارتفاع أسعار الغاز المسال، قرر المنتجون الوفاء بأقل قدر من العقود طويلة المدى، وتحويل الكميات الفائضة إلى الأسواق الفورية لتحقيق عوائد أعلى. والآن يمكن تصور ما سيحدث على المدى الطويل: العقود طويلة المدى مهمة للاستثمار في هذه المشاريع، إلا أن تحول المستهلكين إلى الأسواق الفورية يرفع من مستويات المخاطرة في الاستثمار في هذه المشاريع، ومن ثم ينخفض الاستثمار في مصادر الطاقة، ويتعرض أمن الطاقة للخطر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا يقودنا إلى هدف آخر من أهداف سياسات أمن الطاقة، وهو تخفيض ذبذبة أسعار النفط. لا يمكن للحكومات أن تخطط أو تطبق خططها الخمسية وأسعار النفط تتقلب بين 10 دولارات و120 دولاراً للبرميل. ولا يمكن للشركات والمصانع أن تخطط للإنتاج وتوقع عقوداً مع شركات أخرى وأسعار النفط تتذبذب بهذا الشكل. والأهم من ذلك كله، أن شركات النفط لا تستطيع الاستثمار في الصناعة لمقابلة الطلب العالمي مستقبلاً والأسعار تتقلب بهذا الشكل. لهذا فإن هدف تخفيض ذبذبة أسعار النفط جزء لا يتجزأ من سياسات أمن الطاقة. وكما رأينا سابقاً، فإن تخلص المستهلكين من العقود طويلة الأجل أسهم في زيادة ذبذبة الأسعار، وهذه الذبذبة لها عواقبها.
ولعل أكبر خطأ قامت به الدول الأوروبية هو تجاوز خط أحمر في سياسات أمن الطاقة: تنويع مصادر الطاقة. تطبيق فكرة المحفظة الاستثمارية التي ذكرت أعلاه، والتي تتطلب الحصول على أعلى عائد ممكن في ظل أقل مخاطر، يتطلب تنويع مصادر الطاقة، على الرغم من أن بعض مصادر الطاقة ملوثة بيئياً أكثر من غيرها. تنويع مصادر الطاقة يسهم في تعزيز أمن الطاقة، ويمنع الاعتماد الكبير على مصادر طاقة متقطعة، التي يؤدي تقطعها إلى اللجوء إلى أكثر مصادر الطاقة تلويثاً في بعض الأحيان، معرضاً الأمن البيئي للخطر.
وقد يقول قائل إن تركيز مصادر الطاقة في الطاقة الشمسية والهوائية هدفه التخلص من واردات الوقود الأحفوري، وبهذا تصبح مصادر الطاقة محلية وأكثر أمناً، وبهذا تتخلص هذه الدول من آثار التقلبات السياسية في الدول المنتجة. هذه حجة فيها بعض الصحة، ولكنها في الواقع غير مقبولة لأن كل ما حصل هو الانتقال من تقلبات السياسة إلى تقلبات الطقس، ويعرف القارئ الكريم أيهما أكثر تقلباً وأكثر صعوبة في التنبؤ!
والمثير في الأمر أن هذه الدول تحاول التخلص من واردات الوقود الأحفوري التي يمكن أن تستوردها من عشرات البلدان، لتستورد ما تحتاجه الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية من عدد قليل من الدول، مع تركيز شديد في الصين. وهذا يقودنا إلى أحد أهم الأسس في سياسات أمن الطاقة: تنويع مصادر الواردات. كلما زاد عدد الدول التي يتم استيراد الطاقة منها كلما تعزز أمن الطاقة، ومن ثم الأمن الاقتصادي والأمن القومي. الخطأ الكبير الذي ارتكبته الدول الأوروبية هو اعتمادها الكبير على الغاز الروسي.
خلاصة القول، إنه لا يمكن تحقيق الأمن البيئي، وحتى الأمن الاقتصادي والأمن القومي، من دون تحقيق أمن الطاقة. العالم بحاجة إلى كل مصادر الطاقة، سواء كانت متجددة، أو أحفورية، أو نووية، أو حرارية، ويحتاج إلى كل أنواع التقنية في المواصلات.