تساءل كثر من الأصدقاء العرب الذين يحاولون فهم الأحداث اللبنانية التي أطلق عليها أسماء كثيرة، من "الانهيار" إلى "الجحيم" إلى "فناء لبنان"، عن السبب الذي أدى إلى هذا الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل اللبنانيين على عبارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي "بدنا نتحمل بعض في هذه المرحلة الصعبة"، التي أطلقها بعد جلسة مجلس الوزراء التي مرر خلالها مشروع الموازنة.
ويعتقد هؤلاء المتعجبون أن عبارة ميقاتي طبيعية ومرتجلة، فهو ومن موقعه كرئيس لمجلس الوزراء يشجع اللبنانيين على تمرير هذه الأزمة بالصبر والتحمل والتعاون وتقليل الخسائر إلى حين تصطلح الأمور في لبنان. لكن ما لا يعرفه المتفاجئون أن جملة رئيس الوزراء انتزعت من سياقها في النقاش العام لهذا التصريح. فهي جاءت بعد تمرير موازنة لم يقرأها الرئيس أمام الإعلاميين المنتظرين خروجه من الجلسة الوزارية، بل ترك لمن يريد أن يعرف ما بنود الموازنة من اللبنانيين أن يطلع عليها عبر وسائل الإعلام، وذلك منعاً للغضب العام المباشر.
من يتحمل من؟
والموازنة التي أقرت سريعاً، وكان من المفترض أنها تلبي متطلبات صندوق النقد الدولي والدول المانحة والداعمة للبنان في سياق عملية إصلاح، تنص على رفع نسبة الضرائب على كل ما يستخدمه اللبنانيون في حياتهم اليومية، من الاتصالات إلى الكهرباء إلى المواد الغذائية والمحروقات وغير ذلك. وهذا ما سيزيد أوضاعهم الاقتصادية سوءاً، إذ إنهم وقبل إعلان الموازنة كانوا قد دخلوا في تضخم جعل رواتبهم لا تساوي إلا بضعة دولارات، في وقت وصف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية المالية اللبنانية بأنها الأسوأ في العالم منذ أواخر القرن الماضي.
وقد جاءت عبارة ميقاتي بعد مقدمة عاطفية أبوية ألقاها على اللبنانيين، حين قال لهم إنه لم يعد بإمكاننا أن نعطيكم الكهرباء والاتصالات والماء "ببلاش"، أي مجاناً. وهذا ما زاد طين الغضب اللبناني بلة، إذ إن اللبنانيين لا يحصلون على الكهرباء الحكومية إلا لساعات قليلة يومياً، بينما يدفعون فاتورة عالية للمولدات الخاصة التي تؤمن لهم الطاقة الكهربائية مقابل أسعار خيالية لو حصلتها وزارة الطاقة لتمكنت من إعادة تأسيس نفسها. لكن ما حدث بعد وعود السياسيين، ومنهم الرئيس ميقاتي، للبنانيين قبيل كل انتخابات بعودة الكهرباء 24 ساعة هو انهيار قطاع الطاقة والكهرباء في لبنان، وتسببه بديون وصلت إلى 45 مليار دولار على مدى السنوات الماضية. واللبنانيون باتوا يعرفون أين ذهبت هذه المليارات من الدولارات هدراً ومحاصصة وتصفية حسابات وتلاعباً بين السياسيين، فيما كان يمكن لـ45 مليار دولار أن تضيء لبنان.
نبرة أبوية مأساوية
ولا يعترف أي من الفرقاء السياسيين الذين مروا على وزارة الطاقة بما تسبب بهذا العجز الكبير والدائم في الميزانية وانقطاع الكهرباء وعدم إصلاح القطاع أو إعادة بناء محطات توليد طاقة لا يكلف بناؤها ما يزيد على واحد من هذه المليارات المهدورة.
أما في ما يتعلق بالاتصالات، فحدث ولا حرج. فاللبنانيون كانوا يدفعون قبل الأزمة المالية وخلالها الفاتورة الأعلى في العالم، مع العلم أن أكثرهم اشترى خطوطاً خليوية عند وصولها إلى لبنان في منتصف التسعينيات من القرن الماضي بمبلغ 500 دولار لكل خط، بينما تباع الأرقام والخطوط في العالم بأسعار زهيدة وربما مجاناً لجذب أكبر عدد من المستهلكين. وكذلك، تسهم المنافسة بين شركات الاتصالات في خفض أسعار الوحدات الهاتفية والإكثار من العروض والتقديمات الأخرى. علماً أن رئيس الوزراء نفسه الذي يدعو اللبنانيين إلى الصبر هو أحد مالكي الشركة الأولى صاحبة الخطوط الخيالية الثمن. وفي الوقت عينه، تم تثبيت شركتين تديران قطاع الاتصالات في لبنان، ولم يسمح بمنافستهما. فلم يحصل اللبنانيون على أي نوع من العروض والتقديمات التي كان ينعم بها جيرانهم في الدول المجاورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما سبب الغضب الرئيس الذي ظهر في تعليقات اللبنانيين المنخرطين في العمل السياسي والاجتماعي والتغييري أو من المواطنين العاديين، فهو اعتبارهم أن طلب التحمل يجب أن يكون قائماً على تناسب وندية بين الفريق الطالب والآخر المطلوب منه، أي أن يكون مالكاً للسلطة نفسها والكمية نفسها من المال ومن التسهيلات الحياتية اليومية، وليس من المواطنين العزل الذين خطفت أموالهم ورواتب تقاعدهم وما ادخروه للسنوات المتبقية بعد حياة شاقة، أو مع لبنانيين لم يهنأوا منذ عام 2005 حتى اليوم بيوم واحد من الأمن والهدوء والطمأنينة والسلام والرخاء. بل على العكس، تدهورت حياتهم ونمط عيشهم بشكل متسارع وكبير، مقارنة مع رئيس وزراء لطالما كان عضواً مهماً في فريق المحاصصة المالية في لبنان، سواء في دوره زعيماً سياسياً في شمال لبنان وتحديداً في مدينة طرابلس حيث نسبة الفقر الأعلى في لبنان، أو بدوره رئيساً لكتلة نيابية حيناً ووزيراً حيناً آخر، ورئيساً للوزراء. فلا يمكن لمثل هذه المعادلة بين فريقين غير متوازيي القوة أن "يتحمل" كل منهما الآخر، بل أعلنت غالبية المواطنين عن عدم قدرتها على تحمل هذه الطبقة السياسية لمزيد من الوقت، بعدما اعتبر اللبنانيون أن هذا النوع من الكلام الذي يبدو عاطفياً بسبب نبرة صوت الرئيس وهو يطلقه بحزن أمام المشاهدين وكأنه يطلب الشفقة والرحمة والتحمل والصبر لأجل لبنان، لا يمكنه أن يعني إلا أمراً واحداً، وهو أن هذه الطبقة السياسية التي أقرت الموازنة تلبية لمطالب صندوق النقد الدولي، قد قررت تدفيع اللبنانيين من جيوبهم الخاوية وحساباتهم الموقوفة في المصارف الديون التي راكمتها السياسات المالية والاقتصادية على مدى العقود الخمسة الماضية. وهذه الديون التي نتجت عن قروض استدانها لبنان من أجل القيام به كدولة مؤسسات وازدهار اقتصادي، تم سلبها ووضع اليد عليها وتقاسمها من قبل الطبقة السياسية عبر المحاصصة الميليشياوية بين أمراء الحرب ورجال الأعمال الجدد والمصرفيين بحماية توازن إقليمي يمثله "حزب الله" الذي يسيطر على القرار السياسي اللبناني. فجمع كبار السياسيين وصغارهم ثروات طائلة تم تهريبها من لبنان إلى المصارف الخارجية وجزر الجنات الضريبية قبيل اندلاع ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وهي مبالغ يقال على سبيل السخرية إنه كان يمكنها أن تبني لبناناً جديداً بكل تفاصيله وتبني فوقه سقفاً ليعمر عليه لبنان آخر مكتمل الأوصاف.
كان يمكن بناء لبنان جديد
وبالأرقام الجدية التقريبية فإن ما دخل من الأموال والقروض والهبات والودائع إضافة إلى أموال المغتربين اللبنانيين التي جذبها القطاع المصرفي بالفوائد العالية، كلها مجتمعة تقدر بما يزيد على 400 مليار دولار دخلت إلى الخزائن اللبنانية منذ انطلاق مرحلة السلم اللبناني بعد توقيع اتفاق الطائف. وبهذا المبلغ يمكن شراء دولة منجزة البناء، على ما سخر اللبنانيون كعادتهم من تصريحات المسؤولين ووعودهم عبر وسائل التواصل.
وهذا غيض من فيض ما تسبب بغضب اللبنانيين العارم من هذا التصريح، خصوصاً أنه لم يتحدث ألبتة عن الأموال "المنهوبة" التي يعترف بها السياسيون أنفسهم، بل يطالب بعضهم بإجراء ما يسمى "التدقيق الجنائي" الذي ظل كلاماً في الهواء بعدما كان من المفترض أنه سيكشف عن أسماء الفاسدين وسالبي المال العام على مدى العقود الماضية. لكن التدقيق الجنائي يبقى كما الكهرباء في لبنان، من الأسرار العظيمة التي لا يمكن كشفها. وهذا كله دفع اللبنانيين إلى اعتبار جملة رئيس وزرائهم الشهيرة محل استفزاز واضح لهم. وكأن ممثل سياسييهم كان يخبرهم بأن الفترة المقبلة ستكون صعبة على أساس أنهم يعيشون في النعيم لا الجحيم، بينما يتمنى عليهم رئيس مجلس الوزراء أن يقدموا القليل من "التحمل".