فجرت فصول ملاحقة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من قبل القاضية الموالية للرئاسة اللبنانية، غادة عون، وطلبها التحقيق مع المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، على خلفية حماية وحدات من قوى الأمن سلامة بعد أمر قضائي بجلبه للتحقيق بالقوة، حملات متبادلة بين الرئيس ميشال عون وبين تيار "المستقبل" في 15 و16 فبراير (شباط)، فصدرت عن الجانبين بيانات تضمنت اتهامات للرئاسة بالتدخل بالقضاء وإجراءاته مقابل اتهامات رئاسة الجمهورية بالتحريض. وانعكس ذلك انقساماً واضحاً بين أهل الحكم، ولا سيما بين الرئيس عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي انحاز إلى موقف "المستقبل"، في وقت يتوقع أن تستمر الحملات القضائية على بعض كبار الموظفين بهدف استبدالهم.
وتحولت قضية ملاحقة سلامة واللواء عثمان إلى معركة سياسية عنيفة بين رئاسة الجمهورية و"المستقبل" موضوعها قضائي لكنها تجاوزت المسرح القضائي.
استبدال سلامة والنصيحة الأميركية
وإذ كشفت مصادر سياسية عن أن التوجه الرئاسي نحو إثارة ملفات قضائية بوجه سلامة، والمتواصل منذ أكثر من سنة، هو موضوع متابعة من قبل عدد من العواصم الكبرى المعنية بوضع لبنان الاقتصادي والمالي، أشارت إلى أن السفارة الأميركية في بيروت نصحت كبار المسؤولين بالإبقاء على المسؤول المالي الأول في الإدارة اللبنانية في ظل المفاوضات التي يخوضها لبنان مع صندوق النقد الدولي، كونه عضواً رئيسياً في الوفد المفاوض مع الصندوق. وتردد أن هذا الموقف الأميركي هو بمثابة حماية لسلامة، في وقت أشارت مصادر متعددة إلى أن موقف فرنسا المعنية بدورها بالوضع المالي اللبناني، لا تمانع في استبدال سلامة لأهداف تختلف عن نوايا فريق الرئيس عون، بل لأسباب تتعلق بمآخذها على أدائه في السنوات الماضية، في وقت عون يرغب بتعيين بديل ولاؤه له، لأن سلامة مقرب من زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري.
ميقاتي متفق مع سلامة وعون يتهمه
ويطالب "التيار الوطني الحر" برئاسة النائب جبران باسيل، منذ اندلاع الأزمة المالية في لبنان، ويسانده "حزب الله" في ذلك، بإقالة سلامة في بياناته منذ أكثر من سنتين، بينما عارض ذلك الحريري ورئيس البرلمان نبيه بري وميقاتي، الذي أبلغه أنه يوافق على ذلك إذا أثبت القضاء أن الأخير مرتكب. لكن أوساط رئيس الجمهورية سرّبت بأن ميقاتي وعده وأخلف بوعده، وأنه عاد وطلب منه تأجيل إقالته إلى السنة الجديدة، لكن عون أخذ يتهم رئيس الحكومة بالمماطلة مراعاة لسعد الحريري ولرؤساء الحكومات السابقين، لكن الحجة العلنية لميقاتي كما هو معروف أنه لا يجوز تغيير سلامة فيما المفاوضات قائمة مع صندوق النقد.
إلا أن رئيس الحكومة يحمي سلامة نظراً إلى اتفاق بينهما قبل أكثر منذ خمسة أسابيع على إجراءات قضت بخفض سعر صرف الدولار من 33 ألف ليرة إلى ما يقارب 21 ألفاً والحفاظ على استقرار السعر في انتظار إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد، أو إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو (أيار) المقبل.
وفي وقت يستند الرئيس عون إلى دعاوى أقيمت ضد سلامة في الخارج، قامت القاضية الموالية لرئيس الجمهورية غادة عون باستدعائه من أجل استجوابه في شأن أملاكه وأمواله، التي حجزت عليها في لبنان. والاستدعاء الأخير لسلامة هو الأخير في سلسلة استدعاءات لاستجوابه، قامت بها القاضية عون، والمعروف أن رئيس الجمهورية ينسق معها في هذا الصدد منذ أكثر من سنة، مع أنه نفى ذلك، فهي القاضية التي جمّد من أجلها توقيع التشكيلات القضائية التي أعدها مجلس القضاء الأعلى قبل أكثر من سنة اعتراضاً على نقلها من منصبها كنائب عام استئنافي في محافظة جبل لبنان، وكان سلامة طلب عبر محاميه كف يدها عن ملاحقته لانحيازها لكنها رفضت تبلغ طلب كف اليد الذي تقضي الأصول بأن تقبله وتجمد ملاحقتها لسلامة في انتظار أن تبت محكمة التمييز بالطلب.
خطة تعيين حارس قضائي
وتشير مصادر مطلعة على مسار ملاحقة سلامة إلى أن نية تغييره من الفريق الرئاسي تشمل خطة تقضي باستدعائه ثم إصدار مذكرة توقيف بحقه، لكنه احتاط حيال نية توقيفه بالامتناع عن الحضور وطلب كف يد القاضية. ولذلك أصدرت الأخيرة مذكرة إحضار بالقوة وحين حاول جهاز أمن الدولة (الموالي لعون) جلبه في 15 فبراير، لم يستجب لهم عناصر الحراسة التابعين لقوى الأمن الداخلي بقيادة اللواء عثمان، فادعت على الأخير. واللواء عثمان هو من الأسماء التي كان رئيس الجمهورية و"التيار الحر" طالبا بإقالتها من منصبها وهو شرط طرحه عون على الحريري حين كلف بتشكيل الحكومة وكرره مع ميقاتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن المتابعين للملف يشيرون إلى أن خطة الرئاسة والقاضية عون تقضي بعد استدعاء سلامة وتمنعه عن الحضور بالادعاء عليه بتهمة إساءة الوظيفة والاغتناء غير المشروع، فيتحول بذلك إلى ملاحق قضائياً وممنوع من السفر، ويبرر ذلك طرح إقالته على مجلس الوزراء، فإذا تعذر نظراً إلى الحاجة لأكثرية الثلثين في الحكومة، تصدر القاضية عون قراراً بتعيين حارس قضائي على مصرف لبنان، تجنباً لتولي النائب الأول للحاكم، الشيعي المذهب، مسؤولية الحاكمية. فالفريق الرئاسي يريد تعيين حارس قضائي من الطائفة المارونية التي يعود إليها هذا المنصب في التوزيع الطائفي لوظائف الفئة العليا في الدولة. وهيأ الفريق الرئاسي مجموعة أسماء لهذا الغرض تردد أن بينهم رجل الأعمال اللبناني الملاحق في اليابان كارلوس غصن (الرئيس السابق لشركة نيسان - رينو)، أو الوزير السابق العضو في "التيار الحر" منصور بطيش، أو موظف كبير في المصرف المركزي موال لعون. وعلق مصدر سياسي محايد على ذلك بالقول، "هل يعقل أن يتولى حارس قضائي التفاوض مع صندوق النقد"؟ وصرح باسيل بأن "لا الرئيس عون ولا التيار يسعيان للمجيء بحاكم لمصرف لبنان يتبع لهما لأن لا مصلحة سياسية بذلك، وموقفنا أن أداء الحاكم الحالي والدعاوى عليه في الداخل والخارج لا تعطيه المصداقية ولا ثقتنا وثقة الجمهور لإدارة النقد الوطني".
استدعاء اللواء عثمان يفجر الموقف
وفي وقت كان ميقاتي يبحث عن مخارج بسحب ملف سلامة من يد القاضية عون ومنها أن يتولى المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات ملاحقة سلامة بالادعاء عليه من دون توقيفه، والاكتفاء بالاستماع إلى إفادته، جاء ادعاء القاضية عون على اللواء عثمان (موقعه تتولاه الطائفة السنية) بتهمة "عرقلة قوى الأمن الداخلي عملية التفتيش عن سلامة على أنها غير قانونية وإجرامية"، كما صرحت بذلك، أدى إلى توتر متعدد الاتجاهات. وإذ تم تبليغ اللواء عثمان بموعد التحقيق معه من قبل قاض آخر له صلة بالتيار العوني، أصدر تيار "المستقبل" بياناً عنيفاً ضد عون الرئيس وعون القاضية، بعد بيانه الهجومي على الرئاسة بسبب إرسال جهاز أمن الدولة لجلب سلامة بالقوة. ووصف البيان عون بأنه "التحق بالجنرال ميشال عون في الرابية (مقر إقامة باسيل، وإقامته قبل الرئاسة) للمشاركة في معارك التيار الوطني الحر لضرب مؤسسات الدولة الشرعية"، ورأى أن القاضية عون بعد أن فشلت في تنظيم اشتباك بين قوى الأمن الداخلي وأمن الدولة، تتحرك بأمر مباشر من رئاسة الجمهورية لغايات لم تعد خافية"، واعتبر "المستقبل" أن استهداف قيادة قوى الأمن الداخلي بعد حاكمية مصرف لبنان بهذا الشكل الفج والمريب، مرفوض بكل المقاييس لا سيما وانه يأتي بعد الإعلان عن إنجازات كبيرة لقيادة قوى الأمن في اكتشاف شبكات التخريب والإرهاب وعصابات الخطف والسلب والتهريب".
ميقاتي يلاقي حملة "المستقبل" وعون يرد
لكن البيان الأعنف صدر عن رئيسة كتلة "المستقبل" النيابية النائبة بهية الحريري التي اتصلت بميقاتي منبهة بأن الكتلة "لن تسكت عن هذه التجاوزات التي تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه"، واتصلت الحريري بميقاتي ونقلت عن الأخير تأكيده "موقفه الرافض لتصرفات القاضية عون وأن اللواء عثمان قام بكامل واجباته وكان على تنسيق كامل معه ومع وزير الداخلية"، وأشاد الرئيس ميقاتي بمناقبية وحسن أداء عثمان، واعتبر أن هذا الادعاء هو محض افتراء ولا يمت للحقيقة بصلة. وأوضح بيان الحريري أن ميقاتي أكد لها أنه سيتابع شخصياً الموضوع مع وزير العدل ومدعي عام التمييز لوقف هذا التمادي بالاعتداء على مؤسسات الدولة وهيبتها وكرامات القيمين عليها".
إلا أن المكتب الإعلامي للرئاسة وصف بيان "المستقبل" بأنه بث للأكاذيب والأضاليل عن دور مزعوم للرئيس عون في التدخل في عمل القضاء في ما يتعلق بوضع حاكم مصرف لبنان"، وأكد أن رئيس الجمهورية غير معني بأي إجراء قضائي أو أمني، معتبراً ادعاءات "تيار المستقبل" لها خلفيات ثأرية تهدف الى إضفاء طابع تحريضي على مقام رئاسة الجمهورية وشخص الرئيس، وأكد أنه "مهما استمرت الحملات التحريضية والادعاءات الباطلة فإنها لن تثني رئاسة الجمهورية عن الاستمرار في المطالبة بمعرفة مصير 69 مليار دولار فُقدت من أصل 86 مليار دولار أودعتها المصارف اللبنانية في مصرف لبنان من مجموع أموال المودعين، مع العلم أن ما استدانته الدولة بالعملات الاجنبية من المصرف المركزي لم يتجاوز خمسة مليارات دولار"، واتهم "المستقبل بـ "عرقلة عمل القضاء لتغطية جرائم مالية بحق الشعب اللبناني الذي من حقه معرفة المسؤولين عن تبديد أمواله وسرقتها، ولا تراجع عن هذا الهدف مهما اشتدت الضغوط وتعددت البيانات الكاذبة والادعاءات السافرة".
دور الانتخابات الرئاسية في الأزمة
وأخذ الأمر بعداً طائفياً فتحرك "اتحاد العائلات البيروتية في بيروت" ذات الأكثرية السنية والتقى ميقاتي وأصدر بياناً عنيفاً دان فيه "المخالفات القانونية التي ترتكبها القاضية عون" ودافع عن عثمان، وطالب الاتحاد بوضع حد "للمخالفات الصارخة المرتكبة، التي تشكل تهويلاً متعمداً على كل من يقف في وجه زوبعة الملاحقات الكيدية لأجندات سياسية مستقبلية"، ولفت إلى "عدم جواز التسويق لأي مرشح لرئاسة الجمهورية على حساب المؤسسات".
وخلفية الملاحظة الأخيرة في البيان تكاثر الحديث عن نية الفريق الرئاسي المقرب من عون القيام بحملة تعيينات جديدة تبعد أسماء بارزة قد تكون مرشحة لرئاسة الجمهورية في وقت يعمل الرئيس عون لفتح الطريق من أجل دعم ترشيح صهره باسيل في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
فمنذ أشهر يكثر الحديث عن نية إبعاد ثلاث شخصيات تتبوأ المراكز المارونية الأهم في الدولة، هم إضافة إلى سلامة، رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود المعروف عنه استقامته، وقائد الجيش العماد جوزيف عون الذي يتمتع باحترام القيادات السياسية والعواصم الغربية التي تتعامل مع الجيش، كما أن لدى "حزب الله" تحفظات على هؤلاء، ومن هنا حملة أمينه العام حسن نصر الله، في حديث تلفزيوني في السابع من فبراير عن التأثير الأميركي على قيادة الجيش.
أما بالنسبة إلى استهداف اللواء عثمان فإن الإصرار على إقالته يعود إلى عدم أخذه بمطالب للنائب باسيل في تعيينات داخل مؤسسة قوى الأمن من جهة، وإلى أن الإتيان بقائد مطواع لها له أبعاد أخرى تتعلق بدور قوى الأمن في مراقبة وحراسة العملية الانتخابية النيابية في مايو المقبل. وهو ما دفع النائب في "الحزب التقدمي الاشتراكي" بلال عبدالله إلى المطالبة "بإبعاد القوى الأمنية عن التجاذبات مع اقتراب الاستحقاقات الدستورية، فهل المطلوب تطيير الانتخابات"؟