أمام إحدى مدارس تعليم اللغات في تل أبيب، يوصي دايفيد كوهين (45 سنة) ابنه في الصف التاسع الإعدادي بالتركيز في امتحان اللغة العربية، ويخبره أن التفوق في "لغة العدو" سيفتح أمامه مستقبلاً باهراً سيكون بانتظاره بعد سنوات عدة. ابن الـ15 الذي يبرع في البرمجة وعلم الحاسوب وفك الشيفرات المعقدة، لم يتردد في تلبية رغبة عائلته بدراسة اللغة العربية وقواعدها. فطموح الفتى وأبيه لا يقتصر على الخدمة الإلزامية في الجيش كما كل إسرائيلي ما بين 16-18 سنة فحسب، بل ليكون ضمن أولئك المحظوظين الملتحقين مباشرة مع الوحدة "8200" التي تعتبر فيلقاً رفيعاً في وحدة الاستخبارات الإسرائيلية، المسؤولة عن التجسس الإلكتروني وعن قيادة الحرب الإلكترونية في الجيش الإسرائيلي.
حاجة أمنية
عام 2014 تم إلغاء الإلزام بتدريس اللغة العربية في الصفوف الإعدادية داخل المدارس الإسرائيلية، وفي أعقاب ذلك طرأ انخفاض حاد بمقدار الثلثين على عدد طلاب اللغة العربية من اليهود في الصفوف الثانوية. وكان رئيس لجنة موضوع اللغة العربية في وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية أبراهام شلوسبرغ، قد وصف قرار وزير التربية والتعليم السابق، شاي بيرون، بعدم إلزام تعليم العربية في صفوف الإعدادي بأنه قرار "يمس بأمن الدولة".
ووفقاً لصحيفة "إسرائيل اليوم"، فإن المعلومات التي تتحدث عن تلاشي اللغة العربية من الجهاز التعليمي غير صحيحة، والبيانات تشير إلى ارتفاع عدد الطلاب الإسرائيليين الذين يدرسون اللغة العربية كمادة أساسية، من 2000 طالب عام 2011 إلى أكثر من 3000 طالب خلال السنوات الأخيرة. وأضافت الصحيفة أنه في عام 2018 تم فتح 260 تخصصاً لتعليم اللغة العربية في الجهاز التعليمي، لا تقتصر على تدريس اللغة فقط، بل أيضاً تدريس مجال العالمين العربي والإسلامي، ما يوفر للطلاب اليهود لمحة عن الشرق الأوسط.
الباحث والمحاضر الإسرائيلي في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن ﭼوريون في النقب، يوني مندل، أكد في بحث أكاديمي أن الهدف المركزي من تعليم اللغة العربية في المدارس اليهودية في إسرائيل هو "إعداد كادر يتم تجنيده لاحقاً في شعبة الاستخبارات العسكرية، وأن جنوداً من هذه الشعبة يشاركون بشكل دائم في تدريس العربية في المرحلتين الإعدادية والثانوية".
ويقول مندل "هناك تاريخ حافل من التعاون بين جهاز التعليم والجيش الإسرائيلي، خصوصاً شعبة الاستخبارات، وضرورة تدريس العربية من أجل إعداد كادر للعمل في الجهاز الاستخباراتي، فقد تم إرساء شبكة علاقات قائمة على أهداف مشتركة، وعلى دعم اقتصادي من قبل الجهاز الأمني لبرنامج تعليم اللغة العربية في المدارس. وبذلك تحظى وزارة التعليم بدعم مالي من قبل الجيش الإسرائيلي لإعداد برنامج تعليم العربية مقابل إقناع الطلاب الذين يتعلمونها بالالتحاق بسلاح الاستخبارات.
وحسب مندل تعمل دائرة "تنمية دراسة الاستشراق" في الاستخبارات العسكرية على إعداد منهاج دراسي في اللغة العربية، يبدأ من المرحلة الإعدادية ويركز على رفع الحس الأمني للطلاب. وحسب الدائرة، إذا ما نجح التلاميذ في ترجمة جملة بالعربية، بالإمكان القول إنه بسبب معرفتهم باللغة، أنقذوا الكثير من تلاميذ مدرستهم، وأن اللغة العربية ضرورية من أجل وجود تعايش في دولة إسرائيل. أما في المرحلة الثانوية، فيتعلم التلاميذ "تصاعد التطرف العنيف في أوروبا".
عميد كلية الأدب في جامعة حيفا، رؤبان شنير، كشف في وقت سابق عن أن شعبة الاستخبارات الإسرائيلية دأبت على مر السنين على تطوير وتأهيل وتهيئة شبان وشابات للخدمة في جهاز الاستخبارات العسكرية. وأن وحدة الاستخبارات النخبوية "8200" هي التي تتولى هذه المهمة، وتوفر المرشدين من الجنود لتمرير هذه الفعاليات في المدارس.
مكانة خاصة
كانت اللغة العربية في إسرائيل لغة رسمية حتى سنة 2017، عندما مررت الحكومة الإسرائيلية السابقة "قانون القومية" الذي خفض مكانتها إلى لغة ثانية بمكانة خاصة، لكن عدداً متزايداً من الإسرائيليين اليهود يبادرون حسب ما يقول مراقبون لتعلم اللغة العربية من تلقاء أنفسهم، سواء في مدارس تعليم اللغات أو من خلال الدورات أو عبر الإنترنت. فيما تم تجهيز أقسام خاصة في الجامعات الإسرائيلية الرائدة في إسرائيل (جامعات حيفا وتل أبيب وبار إيلان وبن غوريون في بئر السبع والعبرية في القدس) لتدريس اللغة والأدب العربيين، تستقطب الطلبة العرب واليهود على السواء.
وهاجم عضو الكنيست آفي ديختر المنتقدين قانون القومية الذي قلل حسب تعبيرهم من مكانة اللغة العربية من المستوى الرسمي إلى الخاص، بقوله "العبرية هي لغة الدولة، ولكن يجب أن تكون للعربية مكانة خاصة فوق لغات أخرى. وهذا بالضبط ما كتبناه. من يجوز الادعاء أن مشروع القانون يخفض من مكانة اللغة العربية".
وفي أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي أسقط نواب القائمة العربية الموحدة في إسرائيل قانوناً يلزم بتعليم اللغة العربية في المدارس الإسرائيلية، قدمه عضو الكنيست عن حزب "الليكود" ياريف ليفين.
لكن القائمة، قالت في بيان توضيحي، إن طرح حزب الليكود (بزعامة نتنياهو) قانوناً كان يعارضه "ليس حرصاً على اللغة العربية، بقدر ما هو محاولة لتفكيك الائتلاف الحكومي وتأليب الناخبين العرب ضد نوابهم". وبررت القائمة عدم تصويتها لصالح القانون بالقول إنها "ملتزمة بالقرارات الائتلافية القاضية بإسقاط اقتراحات قوانين المعارضة"، وأعلنت أن مشروع القانون يشبه اقتراحاً اتفقت بشأنه مع الائتلاف الحكومي حول إقرار قانونين، أحدهما ينص على إلزام تعليم اللغة العربية في المدارس الثانوية اليهودية.
عضو الكنيست عن "حزب العمل" ابتسام مراعنة تقول "تسلم الليكود الحكم طيلة 12 عاماً لم يفكر خلالها بتمكين اللغة العربية في المدارس، بل على العكس خفَّض مكانتها، لكن المفارقة العجيبة هذه المرة أن مهندسي قانون القومية العنصري هم أنفسهم من اقترحوا قانوناً لتعليم اللغة العربية في المدارس، وبرأيي هذه سياسة فرق تسد ونوع من الدراما والإثارة."
وتضيف "الإسرائيليون يقبلون على تعلم اللغة العربية لأنها ميزة إضافية لمن يرغب بالتجنيد في الاستخبارات والشاباك والموساد، لكن عدداً كبيراً منهم يقبلون على تعلم العربية كنوع من التعايش وتقبل الآخر ولأنها لغة التواصل مع الشرق الأوسط".
لغة تواصل
وحسب بيانات معهد الدراسات المتقدمة في الآداب والمجتمع "فان لير" الإسرائيلي، فإن أقل من واحد في المئة من اليهود في إسرائيل يستطيعون قراءة كتاب باللغة العربية، و1.4 في المئة يستطيعون كتابة رسالة بالبريد الإلكتروني بهذه اللغة، علماً أن العربية هي اللغة الرابعة على مستوى العالم واللغة السائدة في المنطقة، إضافة إلى أنها لغة 20 في المئة من سكان إسرائيل العرب.
وأقامت مبادرات إبراهيم التي تسعى للتعايش بين العرب واليهود سلسلة مشاريع خلال العقد الأخير بهدف إحداث تغيير في طريقة تدريس العربية في المدارس الإسرائيلية، منها مشروع "يا سلام" ومشروع "تعالوا نحكي" التابع لمعهد مجالات "مرحابيم" الإسرائيلي، ولكن ذلك لم يؤثر في فحوى التعليم وفي طرق الدراسة لا سيما في الصفوف السابع حتى الثاني عشر.
بحث مشترك بين معهد "فان لير" والجمعية أظهر أخيراً الإخفاقات في تدريس اللغة العربية في جهاز التربية الإسرائيلي، وشمل محادثات مع طلاب المدارس فوق الابتدائية في كل المناطق في إسرائيل حول مكانة اللغة العربية. وأظهرت نتائج البحث أن الطلاب يعتقدون أن اكتساب مهارات استخدام اللغة العربية مهم جداً من أجل التعرف على شبان وشابات المجتمع العربي بشكل أفضل، سواء من الاعتبارات العملية المتعلقة بالبيئة التي يعيشون بها فضلاً عن الاعتبارات الأيديولوجية. مع ذلك، من وجهة نظرهم، فهم لا ينالون هذه الاحتياجات في المناهج الدراسية. وأشار معظم الطلاب الذين يأخذون دروساً في اللغة العربية إلى أنهم اختاروا هذا المجال على الأغلب ليتم قبولهم في وحدة الاستخبارات في الجيش، وادعوا بأن هذا العامل هو الأكثر تحفيزاً لهم من دون أن تعرض عليهم عوامل إضافية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثابت أبو راس المدير المشارك في مبادرات إبراهيم يقول "بالمبدأ اللغة هي للتواصل بين الناس والثقافات، نوصي بتعليم العربية المحكية إلى جانب الأدبية. فتعليم العربية من الصف الأول وحتى الثاني عشر، وفقاً لمنهاج تعدد اللغات الذي تبنته وزارة التربية، ينشئ تواصلاً بين الصفوف الدنيا والعليا. كما أن تعليم العربية كموضوع إلزامي لامتحانات البجروت (الثانوية العامة) يجب أن يكون كشرط للحصول على شهادة كاملة. كما أن تأسيس تدريس العربية في إسرائيل يجب أن يكون على يد معلمين ومعلمات عرب، إذ إننا ننظر إلى تدريس هذه المادة من منظار اجتماعي وثقافي وسياسي وتاريخي، وأن يكون درس العربية إطاراً لتطوير الحياة المشتركة بين العرب واليهود".
ويؤكد المدير التربوي لإحدى مدارس تعليم اللغات في تل أبيب آريل أولمرت لوسائل إعلام إسرائيلية، أن "الاهتمام بلغة الضاد جاء كردة فعل معاكسة للسياسة الرسمية القومية، وكلما ازداد النزاع السياسي قوة وعنفاً بين الجانبين، يسعى الإسرائيليون المؤيدون للسلام في المقابل جاهدين لتعلم اللغة العربية والتحدث بها".
اندماج ثقافي
وأشار الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإسرائيلية إلى أن هناك مجموعات لغة مشتركة في القدس تجمع العربية بالعبرية، إذ يقوم طلاب جامعيون عرب بتعليم العربية لليهود. كما أن منظمة "مينيرفا" لحقوق الإنسان (جسم أكاديمي غير حكومي) تدرس اللهجة الفلسطينية.
الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى محمد عبد العزيز يقول "لعل العنف المتصاعد هذه الأيام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يحتم على الجانبين معاً البحث عن أرضية مشتركة تسهم في إرساء مبدأ التعايش السلمي، وقبول الآخر، وليست هناك طريقة أفضل من فهم لغة وثقافة الآخر لتحقيق هذه الغاية. بل ليس من المنطق إهمال لغة مليون ونصف المليون نسمة ممن يتحدثون العربية من سكان إسرائيل. مما لا شك فيه أن اللغة هي المفتاح لجميع الأعمال البشرية، وهي الوسيلة الوحيدة لفهم الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية للشعوب، ومن ثم فإن دراسة لغة الآخر قد تكون مدخلاً رئيساً لفهم الطريقة التي يفكر بها".
ويضيف "إذا كان دافع إسرائيل من تدريس اللغة العربية في الماضي نابعاً بالأساس من اعتبارات أمنية تهدف إلى التعرف على العدو، فإن الحاضر والمستقبل يحتمان توسيع هذه الأهداف لتشمل جانب التلاقي الثقافي الفكري، الذي لن ينعكس إيجاباً على العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية فحسب، بل سيشمل المنطقة بأكملها بما فيها الدول العربية المحيطة، وبخاصة تلك التي تجمعها بها علاقات دبلوماسية واقتصادية."
المفتش السابق لتعليم العربية في المدارس الإسرائيلية، شلومو ألون، نوه في وقت سابق، بأن "اعتبار البعض أن دراسة العربية في إسرائيل تنحصر في خدمة الاحتياجات الأمنية يمثل رؤية خاطئة من الأساس"، كما أكد بحث جديد لجمعية "سيكوي لدعم المساواة في إسرائيل" أن لتدريس اللغة العربية في المدارس العبرية أهمية قصوى في إزالة الجدران ما بين المجتمعين العربي واليهودي ومن أجل بناء مجتمع مشترك.
وظائف رفيعة
استطلاع للرأي أجراه أحد المعاهد لصحيفة "ذي ماركر" الإسرائيلية أظهر أن نسبة عالية جداً من الأهالي يريدون انخراط أبنائهم في الوحدات التكنولوجية والتقنيات العالية، من أجل ضمان مستقبل عمل لهم، وليس من أجل خدمة "أمن إسرائيل". وشمل الاستطلاع شريحة نموذجية لمواطنين تتراوح أعمار أبنائهم بين 15 و18 عاماً. وبين الاستطلاع أن الجيش يتخذ تدابير ومعايير عالية لتصنيف الشبان في الخدمة العسكرية الإلزامية، في وحدات التقنية العالية، وبالذات في وحدة النخبة الاستخباراتية "8200". وهذه الوحدة تجذب إليها ذوي القدرات في عالم التقنيات العالية "الهايتك"، ويتجه كثيرون ممن ينهون خدمتهم في هذه الوحدة فوراً إلى عالم الاقتصاد، ويحصلون على وظائف رفيعة.
الخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية واصف عريقات يقول "هذه الوحدة النخبوية الاستخباراتية أصبحت جاذبة لقطاع الشباب في إسرائيل، بخاصة من يحترفون ويمتلكون مواهب تقنية وتكنولوجية متقدمة، إذ يقوم مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بجمع المعلومات عن التلاميذ الإسرائيليين في مرحلة الثانوية المتميزين في مجالات التقنية، ويشمل التدقيق لاختيار المرشحين للانضمام للوحدة اختبارات سنوية ونصف سنوية، في اللغات (العربية من ضمنها) وسرعة البديهة والعلوم والتفكير الإبداعي والبرمجة".
ويردف "هناك تصريحات دائمة تشير إلى ارتفاع انخراط الشبان الإسرائيليين في وحدات الجيش التكنولوجية والتقنية الاستخباراتية المتفوقة أكثر من غيرها من الوحدات، وهذا يعود إلى أن الطفرة في صناعة الأمن السيبراني في إسرائيل تنسب لشباب قضوا خدمتهم في وحدات النخبة الإسرائيلية 8200. فالجيش يمنحهم الحرية المطلقة تقنياً وتكنولوجياً في سبيل حماية الأمن السيبراني الإسرائيلي. وبعد تسريحهم من الخدمة العسكرية يوظفون خبراتهم التقنية في القطاع الخاص وسوق الهايتك، التي تعتبر رائدة جداً في إسرائيل. وأدى هذا التطور إلى علاقة وثيقة بين الجيش وشركات القطاع الخاص".
صحيفة "كالكاليست" التابعة لصحيفة "يديعوت أحرونوت" كانت قد أكدت أن قيادة الجيش وضعت مع وزارة التعليم برنامجاً تعليمياً، يسعى إلى تحفيز طلاب متميزين في المرحلة الثانوية، ليلتحقوا ضمن الخدمة الإلزامية، ولاحقاً بوحدة الاستخبارات العسكرية المعروفة بـ"8200".
ومن أبرز المغريات للطلاب أنهم سيتعلمون، لغرض عملهم في الوحدة، المواضيع ذات الصلة بالتقنيات العالية، مقابل عملهم لسنوات في الوحدة، ومن ثم تكون فرصهم هي الأكبر للانخراط في سوق العمل في مجالات التقنيات العالية. وتقول الصحيفة "إن الجيش تحول إلى قناة تأهيل مركزية لقطاع التقنية العالية". ويعرف أهالي الجنود أن الجندي الذي وصل وهو في سن الـ18 سنة إلى وحدة تكنولوجية عالية تفتح أمامه أبواب كثيرة في عالم الهايتك.