أضحت الصين الشريك التجاري الأول لأفريقيا بعدما حافظت على هذه المرتبة على امتداد الـ12 سنة الأخيرة، ولم تتأثر بالأزمات الاقتصادية التي شهدتها القارة السمراء وبخاصة آخرها انتشار وباء كورونا، بل استثمرت الصين في هذه الأزمة وتحولت إلى أول دائن لأفريقيا، كما أحكمت قبضتها على البلدان التي تعاني من انعكاسات تحويل الموارد المالية إلى حملات التلقيح والخدمات الصحية. إضافة إلى تنامي التجارة الثنائية وحجم الاستثمارات، مما دفع بالاتحاد الأوروبي إلى تحفيز مؤسساته للعودة إلى القارة السمراء التي غزاها العملاق الآسيوي.
في الوقت ذاته، أعلن الاتحاد الأوروبي تسخير رؤوس أموال للاستثمار في أفريقيا على مدى السنوات السبع المقبلة، وذلك خلال قمة الاتحاد الأوروبي - الاتحاد الأفريقي التي انعقدت الأسبوع الماضي.
وكانت هذه القمة مغايرة للقمم الأخرى، إذ برمجت على وتيرة عالم الاستثمار والمال، كما تم التطرق إلى الملفات الثقافية وتلك المتعلقة بشؤون الطاقة. وذكر خبراء خلال تحليلهم لـ"اندبندنت عربية" أن سياسة أوروبا تركت مساحات في السابق لصالح السلع والاستثمارات الصينية. وقد اختلفت أساليب التمركز كلياً بين الجار الشريك التقليدي (أوروبا) والمارد الاقتصادي البعيد الثقيل الوزن (الصين)، مما دفع إلى الهيمنة الصينية، حيث اعتمدت بكين على وزنها الاقتصادي فحسب من دون التدخل المباشر في أفريقيا.
استثمارات ضخمة
وبلغت قيمة التجارة الثنائية بين الصين وأفريقيا، 187 مليار دولار في عام 2020، ثم سجلت نمواً قوياً، حيث ارتفع حجم التجارة بنسبة 40.5 في المئة ليصل إلى 139.1 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، وهو رقم قياسي، على أساس سنوي. وازداد توسع الاستثمار الصيني في أفريقيا على الرغم من التراجع في الاقتصاد والتجارة العالميين، الناتج عن انتشار جائحة "كوفيد-19". وبلغ الاستثمار الصيني في أفريقيا 2.96 مليار دولار في عام 2020، بزيادة 9.5 في المئة على أساس سنوي. وبلغ الاستثمار المباشر غير المالي 2.66 مليار دولار.
كما ارتفع الاستثمار في الخدمات ضمن القطاعات الفرعية مثل البحث العلمي وخدمات التكنولوجيا والنقل والتخزين وخدمات البريد، بأكثر من الضعفين.
وفي الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، بلغ الاستثمار الصيني المباشر في أفريقيا 2.07 مليار دولار. وتم إنشاء 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 دولة أفريقية، وجذبت هذه المناطق 623 شركة باستثمارات إجمالية قدرها 7.35 مليار دولار، خلقت أكثر من 46 ألف فرصة عمل للدول الأفريقية. ووصلت القيمة التعاقدية لمشاريع البنية التحتية الصينية إلى 67.9 مليار دولار.
الدائن الأول
واضطرت البلدان الأفريقية الفقيرة التي اجتاحها الوباء للاختيار بين الاستمرار في تسديد الديون أو توجيه الموارد لإنقاذ الأرواح أو سبل العيش. وفي حال اختيار تنمية الخدمات الصحية، فإن الصين كانت غالباً الجهة التي يتعين عليهم أن يتعاملوا معها، وهي أكبر مقرض لأفريقيا.
وكان تعليق سداد أقساط الديون أمراً أساسياً لتمكين إثيوبيا من الاستجابة لجائحة كورونا وقد وفر لأديس أبابا 1.7 مليار دولار خلال الفترة من أبريل (نيسان) 2020 ونهاية ذلك العام، ونحو 3.5 مليار دولار إذا جرى تمديده إلى نهاية 2022.
وأنقذ تعليق سداد الديون أنغولا، وتشاد، وجمهورية الكونغو، وموريتانيا، والسودان. وخضعت أنغولا لضغوط مالية شديدة، بسبب انهيار أسعار السلع الأساسية، وأبرمت اتفاقية مع ثلاثة من دائنيها الرئيسيين، ومن بينهم "بنك التنمية الصيني" الذي تدين له بنحو 14.5 مليار دولار و"بنك التصدير والاستيراد الصيني" الذي تدين له بنحو 5 مليارات دولار، تقضي بتخفيف ديونها على مدار السنوات الثلاث التالية.
كما تخلفت زامبيا عن سداد قسط فائدة بقيمة 42.5 مليون دولار مستحق على سندات مقومة بالدولار، وكانت على وشك التخلف عن سداد ديونها الخارجية. لكن ذات الدائنين الصينيين بادروا إلى التخفيف إذ أجل "بنك التنمية الصيني" سداد أقساط الفائدة وأصل الدين لستة أشهر، حتى أبريل (نيسان) 2021، وعـلق "بنك التصدير والاستيراد الصيني" كل أقساط الدين على حافظته من القروض السيادية التي تبلغ قيمتها 110 ملايين دولار.
وفي إطار مبادرة تعليق سداد أقساط الديون التي أطلقتها مجموعة العشرين، والتي بموجبها تستطيع 73 دولة من أفقر بلدان العالم أن تطلب مهلة مؤقتة لسداد الديون الثنائية، جرى اتفاق مع "بنك التصدير والاستيراد الصيني"، حيث تقدمت 31 دولة في أفريقيا بطلبات لتعليق سداد أقساط الديون.
ويرجع نحو 70 في المئة من أقساط الديون التي تشملها المبادرة وقيمتها نحو 8 مليارات دولار، إلى الصين، التي تملك 62 في المئة من الديون الثنائية الرسمية المستحقة على أفريقيا.
طريق الحرير
وأبدى الصينيون استعداداً لتقديم القروض إلى البلدان الأفريقية الفقيرة من دون وضع شروط أو تقديم طلبات تتعلق بالحوكمة والإصلاح وتدابير مقاومة الفساد. وساعد هذا التسهيل على التغلغل الصيني في أفريقيا والظفر بالأسواق فيها، وفق الباحث الاقتصادي السوداني محمد الناير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودفع ذلك البلدان الأفريقية إلى التعامل مع الصين هو عدم تدخلها في الشؤون السياسية الداخلية للمنطقة. وبحكم عدم اهتمامها المباشر بالتعقيدات السياسية الداخلية، حققت الصين حضوراً اقتصادياً ضخماً بنحو نصف مساحة القارة أي 20 دولة. وتعتبر الصين أنه بإمكانها جني أرباح تصل إلى 440 مليار دولار إلى حدود عام 2025 بفضل التمركز في القارة السمراء.
ودفعت الصين إلى تحفيز حضورها في القارة الأفريقية التي تعتبرها جزءاً مهماً من "طريق الحرير" الذي تعمل على إحيائه. وتستهدف الاستثمارات الصينية في أفريقيا، مجالات محددة منها النفط والغاز والمعادن. وتحاول إنشاء مصانع داخل أفريقيا لتسويق السلع والاقتراب من السوق المحلية. ومن أبرز البلدان التي تتمركز فيها مؤسسات صينية، إثيوبيا وبلدان القرن الأفريقي وجنوب أفريقيا والسودان.
ومثل السودان بوابة لأفريقيا منذ نحو عقدين عند خضوعه للحصار الاقتصادي ومنعه من الاقتراض من المانحين بقروض ميسرة فكانت وجهته للاقتراض هي الصين. ويرجح تطور الاستثمار الصيني في السودان في المستقبل بحكم موارده الضخمة وموقعه الذي يربط بين أفريقيا والبلدان العربية واحتوائه على ساحل يمتد على طول البحر الأحمر وهو خط ملاحي غير مستغل، ومؤثر في حجم التجارة العالمية. ولا تحرص الصين بعد، على الحضور بثقلها في شمال أفريقيا، بل تعمل على التمركز في وسط وجنوب القارة السمراء. وتخطط حالياً لتأمين أمنها الغذائي، وهي التي تعد 1.5 مليار نسمة، خصوصاً مع الإشكاليات التي يواجهها العالم لتأمين الغذاء، مثل غلاء أسعار السلع ومعضلة المناخ والنقص المرجح في المواد الغذائية. هذه كلها عوامل توجه الصين إلى شرق أفريقيا وجنوبها بالنظر إلى مواردها الطبيعية الضخمة.
وتصل ديون أفريقيا الخارجية إلى 400 مليار دولار، نحو ثلثها مستحقة للصين أي 150 مليار دولار، تمت جميعها في العقدين الأخيرين، عندما واجهت دول أفريقية عدة مثل السودان، تعقيدات في المشهد السياسي في فترات معينة واتجهت إلى الصين للاقتراض. وينتظر أن تستخدم الصين هذه الديون في نطاق فرض مصالحها مستقبلاً.
كيان مهدد لأوروبا
من جهته، رأى الباحث السوداني أبو القاسم إبراهيم آدم، أن "أوروبا تعمل على استعادة موقعها بالقارة الأفريقية، بعد الهيمنة الصينية في العقدين الماضيين، حيث تمركزت الصين في أفريقيا بالتوازي مع تراجع الحضور الأوروبي التقليدي. ومرد ذلك عوامل عدة، أهمها أن أوروبا لم تؤسس لعلاقات شراكة حقيقية تعمل على تبادل تجاري مطرد ولم تقم باستثمارات لتنمية البنية التحتية في أفريقيا، بعكس ما اعتمدته الصين. واختلفت الاستراتيجية المعتمدة من قبل الصين عن السياسة الاقتصادية الأوروبية، مما رجح الكفة لمصلحتها. فقد بلغ حجم استثمارات العملاق الآسيوي في البنية التحتية للبلدان الفقيرة مئات مليارات الدولارات علاوة على مشاريع تنموية واقعية في القارة، تم تركيزها من خلال منتدى التعاون الصيني- الأفريقي والقمم الأفريقية التي نظمتها بكين، مما فتح شهية الدول الأفريقية التي شرعت الأبواب للاستثمارات الصينية المثمرة والمشاريع الاقتصادية التي غيرت وجه هذه البلدان، على الرغم من أن الصين تهدف من خلالها للسيطرة على مفاصل القارة بلف حبل الديون حول رقبة بلدانها".
واعتمدت الصين البوابة الاقتصادية والمالية فحسب للتموقع في القارة السمراء عكس البلدان الأوروبية التي تدخلت في "محاربة التطرف" أو "دعم الفئات المضطهدة" وتولت صراعات وأججت حروباً. وجنت من ذلك مسؤولية تنامي الفقر. كما قدمت الصين تمويلات طويلة الأجل ونفذت مشاريع بكفاءة عالية. ويلاحظ التفوق الواضح بإغراق السوق بسلع متنوعة وبتكلفة أقل بعكس السلع الأوروبية. ونما التبادل التجاري ليبلغ 7 أو 8 أضعافه مع أوروبا. ويتحتم على الدول الأوروبية مراجعة استراتيجيتها المعتمدة في أفريقيا والابتعاد عن التجاذبات السياسية، بعدما أصبحت الصين كياناً مهدداً للمصالح الاقتصادية الأوروبية بالقارة الأفريقية. وإذا استمر مستوى ضخ الاستثمار بهذا الحجم، ستضع الصين يدها على القارة، وهي تستمد وجودها من المصداقية التي اكتسبتها، إذ نفذت كل الوعود المقدمة إلى القادة الأفارقة في القمم الأفريقية التي عقدتها، بينما الثقة تبدو مزعزعة في أوروبا على الرغم من القرب الجغرافي الذي لن ينفع القارة العجوز في حال عدم تدارك الوضع لاستعادة مساحاتها في القارة السمراء.