بين الغيرة والكراهية خندق كبير، بين الغيرة والحسد مسافة كبيرة.
الغيرة في أوساط الكتّاب والأدباء والشعراء معيش يومي، سلوك مقبول ومسموح به، لأنها حالة سيكولوجية تصدر عن ذات مبدعة شفافة رهيفة، لكن بمجرد أن تتحوّل هذه الغيرة الأدبية المشروعة إلى حالة من الكراهية الشخصية، تصبح مصدر أمراض اجتماعية وسياسية معقدة، مفسدة للإبداع وللحياة الاجتماعية أيضاً.
إن الكراهية كما الحسد في الفضاء الثقافي أو الأدبي هي غرغرينا تنخر الذات كما تنخر العلاقات الإنسانية بين جموع منتجي الفكر والنصوص الإبداعية والبلاغة، وهي في نهاية المطاف معطّل للإبداع، إنها الطاقة السلبية التي تسكن ذات المبدع، فتبعده قدر الإمكان عن الخير وتجرّه نحو الشر.
لا يمكننا تصور إنسان يُفترض أن يكون منتجاً لقيم الخير والجمال في شكل كيس مليء بالكراهية والحسد؟
من دون شك، فتاريخ العلاقة بين الأدباء والمثقفين بشكل عام، في كل بلدان العالم وعبر العصور، تميزت وتتميز دائماً بنوع من النفور ورفض بعضهم البعض، والحرب الباردة بينهم لا تتوقف، حتى وكأن علاقة الصداقة بين الأدباء هي حالة مستعصية، بل مستحيلة، والاستثناء يؤكد القاعدة.
وأعتقد أن المجتمع الثقافي والأدبي في الجزائر، كما هو في البلدان العربية والمغاربية إن بشكل أو آخر، إن وُجد هناك مجتمع أدبي بالأساس، يعاني أعضاؤه من مرض الكراهية المتبادلة بينهم والتي وصلت إلى أعلى درجات سلّم الأمراض النفسية الأدبية المعقدة والمزمنة.
هناك مرض نفسي خاص يعاني منه المثقف أو الأديب الشاعر والروائي وهو مرض يتميز بالعنف والقسوة اللفظية اللذين لا حدّ لهما، وهو ما يجعلنا نصنّف مثل هذا المرض في خانة الأمراض النفسية المستعصية والدائمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جعل فرويد عقدة أوديب في مركز تفكيراته النظرية وبحوثه التطبيقية في علم النفس، معتبراً أن عقدة أوديب التي تقوم على رغبة قتل الابن للأب رغبة بامتلاك الأم، أما المثقف الأديب الشاعر أو الروائي في الجزائر فيعاني من عقدة أخرى هي مركز سلوكه ولغته وحركاته وعلاقاته، تُسمّى هذه العقدة بعقدة "قابيل".
ومعروف في الكتب السماوية، التوراة والإنجيل والقرآن، قصة قابيل وهابيل وهي أول عملية قتل في التاريخ كما ترويها الديانات السماوية، والقتل قائم فيها على الغيرة.
ما هي عقدة "قابيل" في الوسط الثقافي والأدبي؟
إن عقدة "قابيل" هي الرغبة المستمرة بقتل "الأخ"، الأخ الرمزي، الأخ صاحب مهنتك أي الكتابة، فإذا كان فرويد اعتبر عقدة أوديب هي الطريق إلى حل جملة من العقد والأمراض النفسية التي يعاني منها الأفراد، فعقدة "قابيل" هي المؤشر القوي لفهم وتحليل الخلل والعطب الذي يعاني منه المجتمع الثقافي والأدبي في الجزائر.
إن الأدباء، من الشعراء والروائيين والنقاد الجزائريين، لا يعانون من عقدة أوديب، على الرغم من أن الأدب الجزائري بشكل عام هو أدب يخاف من الحديث عن صورة المرأة الزوجة والعشيقة والصديقة، مكتفياً في غالب النصوص بتمجيد صورة الأم، فالأدباء لا يبحثون عن "قتل الأب"، قتل الأدباء الممثلين لجيل العمداء أو الذين رحلوا، لكنهم مصابون بعقدة "قابيل"، إنهم مرضى بالسلطة الوهمية أو بوهم السلطة، وهي الحال التي تجعلهم يفكرون في "قتل الأخ" الرمزي الأدبي كي يتفردوا بوهم السلطة، إنهم يشبهون في ذلك مصاصي الدم الأدبي.
إن عالم وتخيلات العقل الباطن لكثيرين من الأدباء والمثقفين الجزائريين تجاه بعضهم البعض مليء بالكراهية والعنف الناتجين من انبهار بغيته امتلاك السلطة الاجتماعية أو الثقافية أو المؤسساتية، وهو ما يدفع إلى "القتل" الرمزي للأخ الأدبي.
يرغب المثقف بشكل عام أو الأديب الروائي أو الشاعر أن يكون هو "اللمبة" (المصباح) الوحيد الذي يضيء على الجميع، ولو في صحراء أدبية، مسكوناً بثقافة الفروسية القروسطية، يرى نفسه في معركة مستمرة مع طواحين الهواء! في كل مثقف جزائري "دنكيشوط" جديد يتحرك ويحلم ويهذي!
موظفاً كل الوسائط الرذيلة، النميمة والكذب والقوادة الثقافية من أجل "قتل الأخ" الأدبي، مستثمراً في وسائل التواصل الاجتماعي، متخفياً في أسماء و"بروفيلات" مشبوهة ومزورة ومستعارة من أجل "قتل الأخ" الأدبي والثقافي، مستعملاً حججاً بائدة باسم الشعبوية الدينية التي تحرك الغوغاء، تحت غطاء النفاق الأخلاقي الذي هو عملة سيّارة في المجتمعات المتخلفة، باسم الدفاع الكاذب عن العروبة، باسم الدفاع عن مؤسساتية منتهية الصلاحية، في كل ذلك لا يبحث الكاتب أو المثقف سوى عن "قتل الأخ"، معتقداً أنه الطريق الوحيد الذي يملّكه مقاليد السلطة الكاذبة والوهمية، الانبهار بالسلطة الكاذبة الذي يجعله يمشي مبتهجاً على جسد الأخ ويمصمص عظامه بشهية كانيبالية أدبية، كانيبالية سياسية، كانيبالية دينية، كانيبالية لغوية وكانيبالية جهوية.
باسم الدين السياسي، يأكل كاتب لحم كاتب آخر حيّاً، باسم العروبة الشعبوية يفترس كاتب كاتباً آخر، باسم الانتهازية السياسية أو المؤسساتية، يتلذذ كاتب بكبد كاتب آخر، باسم الجهوية المريضة يشكل كتّاب رهطاً من الكلاب الضالة التي تعترض طريق كاتب كي تنهش لحمه وقطع الطريق عليه.
ولكي يرضي بعض الكتاب أسيادهم من القائمين على السلطة الشعبوية السياسية أو الدينية أو اللغوية، يتحولون إلى مصاصي دماء، دماء الأخ الأدبي وبشهية أسطورية عجيبة.
مسكوناً بعقدة "قابيل"، يفضل، بل يجهد ويجتهد، الكاتب الجزائري كي يظل وحيداً ولو في صحراء قاحلة، يريد أن يتشبّه بديك الخم الوحيد، أو ديك المزبلة العمومية الفريد، يرغب بأن يكون في صورة "حانوتي" الحي أو القرية "Croque-mort!".
حين يحقق كاتب جزائري نجاحاً ما ويصعد سلّم المجد درجة، فإن أول ما يفكر فيه هو أن يسحب معه "السلّم" حتى لا يستعمله "الأخ" في الصعود من بعده، يريد أن يظل وحيداً من دون منافس، لا يرغب بأن يلتحق أحد به.
إن الكراهية التي تسكن الكاتب، مهما كانت مكانته، هي دليل وصورة لحقارته، ودجله الثقافي والإبداعي الذي لن يطول لتنكشف حقيقته.
في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، حدث أن فقد الطاهر وطار أعصابه وتوازنه السيكولوجي، وهو أكبر كاتب جزائري باللغة العربية في تلك المرحلة، حدث ذلك، حين سمع أن الروائي رشيد بوجدرة نشر أول رواية له باللغة العربية وهي رواية "التفكك" 1982، وهو الكاتب المعروف عالمياً في الكتابة باللغة الفرنسية، حدث له ذلك، خوفاً من أن يدخل اسم الطاهر وطار منطقة الظل أمام حضور اسم أدبي لامع ومضيء هو رشيد بوجدرة. كان الطاهر وطار لا يتوقف عن التذمر من اقتحام بوجدرة الكتابة بالعربية ولا يخفي ذلك أمام الصحافيين والجامعيين والمثقفين، مكرّراً عبارته الشهيرة: "ليبقَ في مكانه (يقصد رشيد بوجدرة)، في الرواية باللغة الفرنسية، ليتركنا وشأننا في الرواية بالعربية". وعلى إثر ذلك، اندلعت حرب بين الروائيين وظلت العلاقة مقطوعة بينهما حتى وفاة الطاهر وطار، رحمه الله، عام 2010.
إن المستفيد الأول والأخير من كل مجزرة أدبية أو ثقافية تخلّفها عقدة "قابيل" في أوساط المثقفين هو النظام السياسي والديني على حد سواء. ومن أجل تفكيك جبهة المثقفين والأدباء، يسعى النظام السياسي الشعبوي إلى تثمير وتشجيع انتشار هذه العقدة باختلاق أمور هامشية تكون حطبها.