بين تخزين "أم تامر" للعشرات من أرغفة الخبز في البراد تخوفاً مما قد تتعرض له واردات القمح القادمة لمصر من روسيا من نقصان أو ذبذبة، واستغراق أحمد وحازم ومينا ومصطفى وهشام في تبادل النكات حول الاستعداد لاستقبال ملايين الأوكرانيات، في تحول من التحليل وتغير في الاختصاص من هل ضرب الزوجة حلال أم حرام؟ وهل التساؤل عن كيفية إتمام الإسراء ونجاح المعراج كفر؟ إلى فكر أرض واحدة مشتركة تتمثل في تأثير "الحرب الروسية الأوكرانية"، بحسب موقع الجالسين في مدرجات المتابعة.
تخزين الخبز
"أم تامر" العاملة باليومية عرفت من خلال أحاديث الموظفين في الشركة ونقاشات الناس في الميكروباص أن الدول التي تصدر القمح لمصر "وقعت مع بعضها"، وهي تعرف أن هناك دولة اسمها روسيا، أما الدولة الأخرى (أوكرانيا) فلا تعرفها، لكنها عرفت أن كليهما تصدران القمح إلى مصر الذي يصنع منه رغيف الخبز، عماد البيت وعموده الغذائي.
ولأن "كله إلا رغيف الخبز"، فإن "أم تامر" تخصص نصف ساعة يومياً منذ اشتعال أتون الحرب للتجول على الأفران القريبة من البيت لشراء أكبر عدد ممكن من الأرغفة وتخزينها في البراد، وذلك إلى أن تتضح نيات "نيوتن" (تقصد بوتين) في هذه المسألة.
لكن مسألة الحرب في أوكرانيا بالنسبة إلى القاعدة الشعبية في مصر ليست خوفاً على قمح فقط، أو قلق من مصير الذهب وجنونه أو فزع لأداء البورصة وتوقعاتها المستحيلة لكنها أيضاً تستدعي روح دعابة يصفها بعضهم بالكريهة، ويعتبرها الآخر مزرية. إنها دعابة قطاع من الذكور من المنتمين إلى فقه الأولويات الذي لا يرى سوى الجنس في كل كبيرة وصغيرة. الأطروحات مضحكة في ظاهرها مقززة في باطنها عن الأبواب المفتوحة والأحضان المنفرجة للترحيب بنساء وشابات أوكرانيا المتوقع هربهن من الاقتتال وارتمائهن في أحضان الرجال، لا سيما رجال المنطقة العربية ومنها مصر.
تلميحات عن النساء
ولحسن الحظ أن هذه المرة لم تسلم الجرة، فبعد تلميحات مشابهة إبان الحرب في سوريا، وأخرى متطابقة أثناء الصراع في البوسنة والهرسك، انتفض بعض رافضي الدعابة المفتقدة للحس الإنساني والغارقة في الحس الشهواني، إما مطالبين أصحاب هذه الدعابات بالتوقف فوراً أو عمل "ريبورت" على منصات التواصل الاجتماعي على اعتبار أنها تدوينات أو تغريدات غير لائقة، وتناقض القواعد المنصوص عليها وتحوي كلمات أو دعوات تحض على الازدراء.
هزار وضيع
المحامية والمدافعة عن حقوق المرأة نهاد أبو القمصان بادرت إلى نشر مطالبة عنوانها "الحرب دمار وليست مادة للهزار"، قالت فيه إن "الهزار حول الحرب والبنات الأوكرانيات هزار وضيع". الحرب تعني موتاً ودماراً ولو كانت تجور في آخر الدنيا فستطول كل الناس وستشعل الأسعار في كل مكان. بمعنى آخر، لو لم تتعاطف مع بشر في أزمة فعليك على الأقل أن تقلق لأنك قد لا تجد ما يكفي لتطعم به نفسك وليس لتتزوج به أوكرانية".
الحرب الحالية كشفت الستار عن كم مذهل من صفحات عنكبوتية ومواقع إلكترونية مخصصة للزواج أو البحث عن تعارف بفتيات أوكرانيات. هذا المحتوى العنكبوتي ظل مغلقاً لسنوات على المهتمين بهذه الأمور والباحثين عن فرصة سفر لأوكرانيا عبر الزواج أو الباحثين عن متع أخرى بلا زواج. وسواء كانت هذه المنصات نصباً واحتيالاً أو شكلاً من أشكال "البيزنس" غير القانوني، فقد كشفت مجريات الأزمة عما يدور في دهاليز البحث وأروقة التنقيب في الأيام العادية.
أروقة الصحافة
أروقة من نوع آخر هي أروقة الصحافة وقعت في المحظور وارتكبت الممنوع. موضوعان صحافيان نشرتهما صحيفة مصرية يومية على موقعها عنوانهما "لا تتسرع في الزواج... ستكون هناك نازحات ولاجئات أوكرانيات قريباً"، و"بيتنا مفتوح لكم .. خفة دم المصريين تتحدى الحرب بانتظار الفتيات الأوكرانيات" أثارا غضباً واستياء من الفريق نفسه الرافض للدعابة السخيفة. وعلى الرغم من أن إدارة الصحيفة حذفت الموضوعين، فإن المعنى يبقى متداولاً في بعض المقاهي.
مقاه عدة في مصر عادت بأجوائها لمواسم المتابعات الإخبارية الطارئة المكثفة. الأجواء الملبدة بأصوات متداخلة لمذيعين ومذيعات يتلون "النبأ العاجل" الذي ورد للتو بأصوات تعكس حجم المصيبة ومقدار الكارثة لا تخطئها أذن. كما لا تخطئ العيون هذا الشريط الخبري الأحمر العاجل الراكض أسفل الشاشات. وكعادة حروب القرن الـ 21 المذاعة على الهواء مباشرة، فإن التغطية الخبرية تتلون بلون انتماءات الفريق الذي يبثها. كما أن انتقاء الفريق وبالتالي القناة الخبرية متلون بلون المتلقي وهواه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هوى الإعلام وأهواء الدول
من سائر وسائل الإعلام الدولية والناطقة بلغات عدة بينها العربية والقنوات المصرية الخاصة والرسمية، تزخر المقاهي بما لا يلذ ولا يطب إنسانياً من أخبار الحرب وما يسيل له اللعاب ويدغدغ قرون الاستشعار خبرياً.
أخبار الهجمات والتحركات الروسية بينما تحدث، وردود فعل العالم الغربي المتخبط بينما تتقرر، والمناطق الرمادية بدرجاتها المختلفة لدول تقف على المحك بينما تحتك بها الأحداث اضطراراً تجذب قطاعاً عريضاً من رواد المقاهي وغيرهم من متابعي الأتون من على آرائكهم البيتية الدافئة.
"ألتراس" شعبي
القاعدة العريضة من المتابعين تتبع هواها السياسي أو الأيديولوجي ربما من دون أن تعلم. ليس خفياً على أحد أن هناك "ألتراس" شعبي معجب بالقوة غير الزاعقة والثقة المفرطة التي تبدع الـ "سوشيال ميديا" في صناعتها عبر تدوينات وصور لبوتين يمتطي دباً أو يستحم في بحيرة ثلج أو يروض حصاناً هائجاً وبينما صدره عارياً للرئيس الروسي.
جزء من الإعجاب مرده عادات ذكورية وتقاليد شرقية تذوب إعجاباً بنموذج الذكر القوي، وآخر يعود إلى أحداث عام 2013 الشعبية التي أطاحت حكم جماعة الإخوان المسلمين وشهدت رفعاً لصور قادة ورؤساء اعتبرهم البعض داعمين أو ملهمين بينهم بوتين. والجزء الثالث والأخير نتاج عمليات حسابية لأهواء سياسية وتحليلات شعبية قائمة على مبدأ النكاية. هذا الفريق يؤيد كل ما/ من شأنه أن يقف على جبهة المواجهة لأميركا وسياساتها.
لكن المواقف الحسابية الشعبية والنماذج الأيقونية الذكورية والذكريات الثورية المصرية في كفة وطوفان التحليل الاستراتيجي والتكتيك العسكري الطاغي في أخرى، فبين غزوة روسية وضحاها تحولت قطاعات عريضة من المصريين من التحليل الكروي وتحريم ضرب الزوجات باستثناء الضرب بفرشاة الأسنان وتعليل رحلة الإسراء والمعراج إلى "الحرب العالمية الثالثة".
ذيوع هاشتاغ "الحرب العالمية الثالثة" يستوعب كل تحليل وأي تعليل، إضافة إلى جموع السفراء السابقين وفرق الخبراء العصاميين الذين علموا أنفسهم قواعد التكتيك الاستراتيجي وأصول التكنيك العسكري وكتائب الصحافيين المتخصصين في الشؤون الدولية والمبتعثين السابقين في كل روسيا وأوكرانيا المتحولين جميعاً خبراء حاليين في شؤون الحرب الأوكرانية، يمكن القول إن في داخل كل بيت مصري متصل بالشبكة العنكبوتية خبير واحد على الأقل في شأن الحرب الروسية في أوكرانيا.
وفي حال لم يكن هناك خبير، فهناك بدل الناقل عن طريق الـ "لايك" والـ "شير" و"بوست منقول" 10 أو 20.
الهبد المنفرد
عشرات التدوينات التي تندرج تحت بند التحليلات العسكرية والشروح الاقتصادية والسرد التاريخي المفعم بحب الجغرافيا وعشق حل الألغاز وفك الـ "لوغاريتمات" تدور رحاها شعبياً منذ اندلاع خطوات الغزو الروسي الأولى لأوكرانيا. وبين هبد منفرد يتجلى في تحليلات استراتيجية لـ "الحرب العالمية الثالثة" ورزع جماعي بلا هوادة عبر التناقل والتشارك، حاملاً استشرافات مستقبلية للأحداث وتكهنات شعبية لما ستسفر عنه الساعات أو الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة، يمضي مصريون وقت الراحة والقيلولة.
طلاب الخارج
ولا يخلو التحليل الشعبي للحرب من لمحات وومضات تعكس قلقاً على مصير الأهل والأبناء في مكان الصراع الأحدث، ولأن أوكرانيا تأتي على رأس وجهات الدراسة الجامعية للطلاب المصريين الباحثين عن شهادة أجنبية بظروف مادية ميسرة، فقد سارعت جهات رسمية مصرية إلى التواصل والاتصال والإعلان عن الوضع. وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج نبيلة مكرم تواصلت في جلسة حوارية افتراضية مع عدد من الطلاب والطالبات المصريين في أوكرانيا وأكدت عدم وجود إصابات أو مفقودين بينهم. وعلى الرغم من الخطوة الطيبة من جهة الدولة، فإنها كشفت عن عدم وجود إحصاءات أو أرقام دقيقة أو حتى غير دقيقة لعدد المصريين الدارسين في أوكرانيا.
من جهة أخرى، بادر وزير التربية والتعليم الفني طارق شوقي إلى التصريح بـ "أن عدد طلاب المدارس المصريين في روسيا أقل من 50 طالباً وفي أوكرانيا أقل من 10، وأن الدولة ستتيح لهم إمكان تأجيل الامتحانات أو إلحاقهم بمدارس مصرية في حال قرروا العودة لمصر".
المبتعثون والاتحاد السوفياتي
من عادوا إلى مصر على مدى الـ 60 عاماً الماضية بعد دراسة في الاتحاد السوفياتي السابق أو أي من الدول التي نجمت عن تفتته لاحقاً، تحولوا هذه الآونة إلى مصادر لفهم العقلية الروسية واستيعاب المعضلة الأوكرانية وذلك في دوائر الأهل والأصدقاء والجيران. الاتحاد السوفياتي الذي كان قبلة المبتعثين المصريين الدارسين للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في ستينيات القرن الماضي لم يعد موجوداً. اليوم التالي لاستقالة آخر زعيم سوفياتي ميخائيل غورباتشوف في 25 ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، اعترف "مجلس السوفيات الأعلى" (البرلمان) رسمياً باستقلال 15 دولة جديدة منهياً الاتحاد السوفياتي إحدى القوتين العظميين في العالم.
لكن العالم الذي يحاول من بقي على قيد الحياة من هؤلاء المبتعثين أن يحللوا ما يجري فيه مختلف تماماً. منهم من يطلق العنان لصب الغضب على "بريسترويكا" وإعادة هيكلة الاتحاد السوفياتي السابق التي ألقت بظلال وخيمة على العالم أجمع. ومنهم من يرى في الـ "غلاسنوست" أي غلاسنوست حيث انفتاح وحرية تعبير، نذير خراب للدول وانهيار للأمم، ومنهم من يبكي على أطلال المطرقة وبقايا المنجل اللذين ولى زمنهما.
الماركسية ودرجاتها
لكن المبتعثين والدارسين الأصغر سناً تتراوح آراؤهم بين تعضيد الخطوة الروسية من منطلق الدفع بأي قوة عظمى جديدة لإنهاء عصر القطب الأميركي الأوحد واعتبار تعدد الأقطاب ضماناً لمصلحة الكوكب العام، أو على سبيل "اجتثاث النازية" من أوكرانيا وهو ما يتواءم والخطاب الروسي الرسمي. لكن هناك أيضاً من يشرح الموقف من وجهة نظر رافضة للحرب ومدافعة عن أوكرانيا، وربما من باب رفض وقوع فئات من المثقفين بمصر في عقود سابقة تحت طائلة "الماركسية" أو أطيافها المختلفة من لينينية أو اشتراكية سواء كانت مركزة أو مخففة بنكهات ناصرية أو عربية أو حتى إسلامية.
وعلى ذكر الإسلامية، فقد ساد منصات التواصل الاجتماعي هرج رافض وآخر مؤيد حين بدأ الدعاء للمسلمين في أوكرانيا بالنجاة والسلامة، وهو ما أثار حفيظة بعضهم، ورد المؤيدون بأن غير المسلمين لهم من يدعو لهم، والغريب أن بعض وسائل الإعلام عامت على عوم الدعاء الموجه لفئة من دون غيرها، وبدأت في كتابة التقارير ونشر المواضيع عن "عدد المسلمين في أوكرانيا" و"مصير المسلمين في حال احتلت روسيا أوكرانيا" و"قصة دخول الإسلام أوكرانيا وأزمة الحجاب" وغيرها من أنواع الغناء حيث كل يغني على ليلاه.
ليلى أخرى تشغل بال قطاع من المصريين ألا وهي مشروع الضبعة النووي المصري، الذي تنفذه كل من "هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء" المصرية وهي المالك والمشغل و"روساتوم" وهي المؤسسة الروسية الحكومية للطاقة النووية، فالموقف الملتبس للغرب تجاه روسيا والتأرجح بين فرض عقوبات صارمة أو نصف صارمة عليها وأثر ذلك في تنفيذ المشروع القومي يشعل حوارات شعبية على هامش الحرب، وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة المصرية حرصت على التصريح بأن الأمور على ما يرام، وأن العمل في إنشاء المحطة يمضي قدماً من دون تأثير من قبل الحرب، لكن الأيام والأسابيع المقبلة كفيلة بتبيان الأثر.
السياحة والمتحاربون
وزارة مصرية أخرى دخلت على خط الحرب الدائرة، إذ أصدرت وزارة السياحة التي نجحت في توحيد صفوف المتحاربين منشوراً "مهماً وعاجلاً"، وجهته إلى غرفة المنشآت الفندقية "للتشديد على فنادق مصر بحسن التعامل مع السياح الأوكرانيين والروس واستمرار إقامتهم في الفنادق لحين انتهاء الأزمة، وتقديم كافة التسهيلات لهم وعدم الامتناع من تقديم أي خدمة لهم لحين إيجاد الحلول المناسبة لعودتهم إلى بلادهم في القريب العاجل في ضوء إغلاق المجال الجوي لدولة أوكرانيا "بسبب الأحداث السياسية الجارية بين الدولتين".
وتستمر رحى "العملية العسكرية الروسية لحماية دونباس" أي "الغزو الروسي لأوكرانيا" بينما سكان العالم يتابعون وبينهم المصريون بين تنظير وتحليل وشد وجذب حول روسيا وبوتين والقمح والنساء وأوكرانيا ومن درسوا في الاتحاد السوفياتي في الستينيات والمتوقع في شأن الذهب والوقود وأسعار الغذاء ومصائر البلاد وأقدار العباد، وذلك حتى تضع الحرب أوزارها أو تقرر روسيا إنها حققت أغراضها أو يجد الغرب وحلف الـ "ناتو" ما يعتقد أنه الحل الأمثل لإنهاء الحرب الدائرة.