في مقال نشرته "واشنطن بوست"، كتب الدكتور هنري كيسينجر أن الأساس في امتحان الحروب والحكم عليها هو "كيف تنتهي، لا كيف تبدأ". لكن معظم النقاش والجدل حول الغزو الروسي لأوكرانيا يتركز على الأسباب والمبررات والعوامل المعلنة التي قادت الرئيس فلاديمير بوتين إلى بدء الحرب. وهي وردت في مذكرة خطية من موسكو إلى واشنطن وحلف "ناتو" والرد عليها الذي رآه الروس استخفافاً بهواجسهم الأمنية والمخاطر ذات الطابع الاستراتيجي.
وأقل ما طلبته روسيا بعد بدء الحرب كشرط لوقف العملية العسكرية هو الشروط التي سمعها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الاتصال الهاتفي مع بوتين وأعلنها الكرملين، "أخذ مصالح روسيا المشروعة في مجال الأمن في الاعتبار. الاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم. نزع سلاح الجيش الأوكراني وإنهاء هيمنة القوميين المتشددين النازيين على الدولة الأوكرانية. وضمان الوضع المحايد لأوكرانيا". وهذه شروط الاستسلام الكامل الذي ليس نهاية الحرب بل استمرارها بوسائل أخرى، بحسب نظرية كلاوزفيتز. شروط رفضها الرئيس فولوديمير زيلينسكي والجيش والشعب في أوكرانيا، وكانت مواجهة الغزو بالمقاومة التعبير الصارخ عن الرفض. وكانت المفاجأة أن الاتحاد الأوروبي اعتبر أن الحرب صارت "حرب أوروبا" لا حرب أوكرانيا وحدها، وبدأ تقديم المال والسلاح والمساعدات، وسط إكمال دائرة العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا، إلى حد أن سويسرا المحايدة بدأت تطبيق العقوبات الأوروبية. حتى تركيا الحائرة بين روسيا و"ناتو"، اضطرت إلى إغلاق مضائق البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية تطبيقاً لاتفاقية "مونترو".
غير أن الهواجس الأمنية الروسية ليست وحدها سبب الغزو. والسؤال في كل مكان، بصرف النظر عن مسارعة أطراف إلى الحماسة وتصنيف نفسها ضمن مواكب المنتصرين على الغرب، وغرق أطراف أخرى في الخوف، هو: ماذا يريد بوتين في النهاية على المستوى الجيوسياسي والاستراتيجي؟ هل هو الذي ينهي الحرب كما يتصور أم أن النهاية مركّبة ومعقدة وفي أيادٍ عدة؟ سيرغي كاراغانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية، يستعيد تعبير جوزف شومبيتر قبل عقود حول "التدمير الخلاق"، ويرى أن روسيا دخلت مرحلة "التدمير البنّاء" لنموذج العلاقات مع الغرب. والنتيجة، في رأيه، هي "الغرب سيخسر ويتنحى عن مركز القيادة العالمي ليصبح شريكاً" لروسيا. لكن ما جرى حتى الآن هو العكس: أوروبا توحدت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما فلاديمير إيفسييف من معهد بلدان رابطة الدول المستقلة، فيتحدث عن حد أدنى وحد أقصى لما يعمل من أجله بوتين في الحرب وخارج الحرب.
الحد الأدنى هو تقسيم أوكرانيا وإقامة "نوفو روسيا" أي "روسيا الجديدة" في القسم الصناعي منها والمواطنين الناطقين بالروسية، ليس فقط في دونباس حيث لوغانسك ودونيتسك، بل أيضاً في كييف وخاركوف وخرسون ونيكولاييف وأوديسا وماريوبول. والحد الأقصى هو السيطرة على كل أوكرانيا ثم تكامل "روسيا الجديدة" مع الاتحاد الروسي وتنصيب رئيس لموسكو في الباقي من غرب أوكرانيا.
لا أحد يجهل أن بوتين لم يدخل أوكرانيا كي يخرج منها، أقله بالمفهوم الجيوسياسي. وهو قادر على أخذ البلد على الرغم من المقاومة الشديدة والمساعدات الأميركية والأوروبية وحتى انخراط متطوعين في "الفيلق الأجنبي" الذي جرى إنشاؤه أخيراً. لكن عليه أن يدمر أوكرانيا بكاملها. وهو، حتى الآن، يمارس استراتيجية حصار المدن في نوع من انقلاب الأدوار. ففي الحرب العالمية الثانية، كان هتلر هو الذي حاصر المدن الروسية، وستالين هو الذي نظم المقاومة ونجح في فك الحصار وتدمير القوات النازية، لا سيما في حصار ستالينغراد ولينينغراد. وبوتين اليوم في دور هتلر، في حين يقوم زيلينسكي بدور ستالين.
لا أحد يعرف إلى أي حد يستطيع الشعب الروسي أن يتحمل الخسائر والعقوبات ويبقى صامتاً باستثناء أقلية بدأت ترفع الصوت ضد غزو شعب شقيق، وضد ما سمّاه الجنرال ياروزلسكي، آخر مسؤول شيوعي في بولندا، قبل انتصار "تضامن" بقيادة ليش فاليسا، "خطورة استخدام التاريخ كسلاح سياسي". لكن المكاسب والانتصارات تبدو مثل الخسائر والهزائم، حين تصبح روسيا "منبوذة" ومكروهة في معظم دول العالم. وطموح بوتين لإقامة نظام أمني جديد في أوروبا، كما يقول خبراء في موسكو، ضمن مشروع "أوراسيا الكبرى" هو حلم ليلة شتاء، يشبه الكوابيس ويصطدم بالواقع. وليس أخطر من الاستخفاف بروسيا سوى الاستخفاف بأميركا وأوروبا.