منذ اشتعال الحرب في أوكرانيا، تزايدت التصريحات والتقارير الصحافية الغربية التي تشكك في الصحة العقلية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أحدث تلك التقارير نشرتها صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، الإثنين الماضي، نقلاً عن مصادر استخباراتية، لم تسمها، تزعم أن بوتين يعاني من اضطراب دماغي ناجم عن الخرف أو مرض باركنسون أو نوبات الغضب الناتجة عن عقارات الستيرويد المستخدمة في علاج السرطان.
ونسبت الصحيفة البريطانية تقريرها حول الحالة العقلية للرئيس الروسي لمصادر مقربة من الكرملين وشخصيات رفيعة في تحالف "العيون الخمس"، وهو تحالف استخباراتي يضم "الولايات المتحدة، وكندا، والمملكة المتحدة، وأستراليا، ونيوزيلندا"، وترى هذه الدول أن هناك تفسيراً فسيولوجياً لقرار بوتين المرفوض عالمياً بغزو أوكرانيا.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، توالت تصريحات المسؤولين الأميركيين التي تشكك في الصحة العقلية لبوتين، فقالت جين بساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، إن "عزلة الرئيس الروسي أثناء جائحة فيروس كورونا، ربما أثرت على اتخاذ قراراته".
وفي تغريدة حملت تلميحات إلى التشكيك في حالته العقلية، كتب السيناتور الجمهوري، ماركو روبيو، "أتمنى لو أشارك بالمزيد، لكن في الوقت الحالي يمكنني القول، إنه من الواضح جداً لكثيرين أن شيئاً ما قد حدث مع بوتين". وأضاف، "لقد كان دائماً قاتلاً، لكن مشكلته الآن مختلفة ومهمة. سيكون من الخطأ افتراض أن بوتين يتصرف بنفس الطريقة التي كان سيتصرف بها قبل 5 سنوات".
وقال جيمس كلابر، المدير السابق للاستخبارات الوطنية الأميركية، في مقابلة مع شبكة "سي أن أن"، "أعتقد أنه (بوتين) مختل، أشعر بالقلق بشأن حدته وتوازنه". وقال السفير الأميركي لدى إسرائيل توم نيدس، قبل أسبوع، إن بوتين "شخص مجنون"، فيما وصفه السيناتور الأميركي ليندسي غراهام بأنه "خطر على البشرية".
وتصدرت الصحافة الغربية عناوين تتساءل عن مدى إدراك الرئيس الروسي لقراراته بشأن الحرب في أوكرانيا، فتساءلت صحيفة الـ"غارديان" البريطانية عما إذا كان بوتين "مجنوناً أم سيئاً" ونشرت صحيفة الـ"تايمز" تقريراً بعنوان "هل فقد بوتين عقله؟"، مشيرة إلى أن "تصميم الرئيس الروسي على تحدي الكل، وشن حرب على أوكرانيا يثير الشكوك حول صحته العقلية".
شيطنة العدو
الحديث المتزايد عن الصحة العقلية لزعيم معاد للغرب ليس بجديد، فالمسؤولون الغربيون ووسائل الإعلام الغربية استخدموا عبارات مكررة تشكك في الصحة العقلية للعقيد الليبي معمر القذافي خلال عام 2011، إبان الانتفاضة ضد حكمه وتدخل قوات الناتو بقصف ليبيا والقوات الموالية للسلطة. وهو الأمر نفسه الذي استخدم مع الرئيس العراقي صدام حسين عندما غزت الولايات المتحدة العراق في عام 2003، فكلاهما أُشير إليهما باعتبارهما "خطراً" وتصرفاتهما خارجة عن السيطرة.
وتشير دراسات إعلامية إلى أن "شيطنة الخصم" تمثل أداة قوية في الحشد الإعلامي، وهو ما برز في التركيز على شخصية القذافي وتوظيفها في الدعوة إلى تدخل دولي في ليبيا، على سبيل المثال. فوفقاً لدراسة ماجستير في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، حملت عنوان "أطر تقديم الرؤساء العرب في الصحافة الغربية" صدرت عام 2018، فإن الإعلام الغربي داوم على استخدام عبارات مثل "مجنون، معتوه، غريب التصرفات، قاتل، يعاني الرهاب الشديد" في التقارير المتعلقة بالقذافي. وفي دراسة نشرتها المجلة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة في عام 2009، للباحثين الإسبانيين ماريا أنطونيو وجوزيه ألبيرتو غارسيا، بعنوان "شيطنة الطاغية" والتي تتناول صورة صدام حسين خلال حرب الخليج الثانية، كما قدمها الإعلام الإسباني، أشارت إلى استخدام توصيفات مثل، إنه يمثل "تهديداً خطيراً ولا يمكن توقع تصرفاته"، و"ديكتاتور خطير".
تقارير "سي آي أي"
وتثير هذه الاستراتيجية القديمة تساؤلاً بشأن حقيقة تلك التقارير المتزاحمة حول صحة بوتين العقلية، فهل هي مجرد محاولة للتعبئة الدولية ضده أم أن هناك تقارير استخباراتية بشأن واقعه الصحي؟
ليس خفياً أن جزءاً أساسياً من عمل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي أي" يتعلق بتحليل الجانب النفسي والصحي لقادة العالم وتحديداً أولئك الذين يعتبرون خصوماً للولايات المتحدة. إذ تتمتع وكالة الاستخبارات المركزية بتاريخ طويل في تحديد الملامح النفسية والسياسية لشخصيات دولية، بدرجات متفاوتة من العمق والدقة. فخلال الحرب العالمية الثانية في عام 1943، كلف مكتب الخدمات الاستراتيجية، الذي تحول فيما بعد لوكالة الاستخبارات المركزية، هنري أيه موراي من عيادة هارفارد للطب النفسي بتقييم شخصية الزعيم النازي أدولف هتلر. وقدمت الاستخبارات الأميركية في خمسينيات القرن العشرين، تقييماً حول شخصية الزعيم الفيتنامي هو شي مينه.
واستمرت هذه التقييمات من ذلك الحين، وخلال الحرب الباردة في الستينيات، خُصِّص تحليل حول شخصية الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف قبيل لقائه بالرئيس الأميركي جون كينيدي عام 1961 في فيينا، حيث جرى وصفه بأنه "فلاح فظ يحب أن يكون غير متوقع، وذو وجهين". ووفقاً لصحف أميركية، فإن كينيدي كان مدمناً على التعرف إلى شخصيات خصومه من خلال التقارير التي تعدها وكالة الاستخبارات، لا سيما "الأسرار الشائنة عن القادة الأجانب". ونشر طاقم الطب النفسي في الوكالة تقريراً سرياً عن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في ديسمبر (كانون الأول) 1961، يقول، إن كاسترو ليس مجنوناً، لكنه شخصية غير مستقرة وشديدة العصبية، لدرجة تجعله عرضة لأنواع معينة من الضغط النفسي.
وفي عام 2015، نشرت الصحف الأميركية، ما زعمت أنه دراسة سرية لوزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" تعود إلى عام 2008، تفيد بأن الرئيس الروسي بوتين مصاب بأحد أطياف التوحد. وأشارت إلى أنه بفحص ساعات من لقطات فيديو لبوتين تبين أنه يعاني خللاً عصبياً حدده علماء الأعصاب على أنه "متلازمة أسبرجر"، وهو اضطراب توحد يؤثر على كل قراراته.
ونفى المتحدث باسم الكرملين، آنذاك، هذا الادعاء ووصفه بأنه "غباء لا يستحق التعليق". لكنها لم تكن المرة الأولى التي يحاول فيها مجتمع الاستخبارات الأميركية تشخيص الحالة العقلية لقادة أجانب.
مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي
في أوائل الثمانينيات، حاولت وكالة الاستخبارات المركزية فهم شخصية القذافي الذي شكل تحدياً للغرب لا سيما بدعمه الجيش الجمهوري الإيرلندي، إذ كانت أفعاله تثير قلق إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان. وفي حين نشر الإعلام الغربي تقارير تشكك في الصحة العقلية للقذافي وتصفه بالجنون أو المصاب بالهوس والنرجسية حتى بعد الإطاحة به وقتله في أكتوبر (تشرين الأول) 2011، غير أن الصحافي الأميركي الشهير بوب وودوارد ذكر في كتابه "الحجاب" حول عمليات "سي آي أي"، أنه "على الرغم من الاعتقاد السائد بأن القذافي كان مريضاً نفسياً، فإنه ليس كذلك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار وودوارد إلى أنه لطالما حُكم على القذافي بأنه يعاني من اضطراب شديد في الشخصية الحدية، وأنه يرتكب تصرفات غريبة عندما يتعرض للضغط. ولفت إلى أن تحليل وكالة الاستخبارات للحالة العقلية للقذافي يعزو سلوكه إلى أزمة منتصف العمر.
في عام 1990، قدم جيرولد بوست، مؤسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي التابع لوكالة الاستخبارات المركزية، "لمحة شاملة عن الحالة النفسية السياسية" لصدام حسين إلى لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب. ووفقاً للنتائج، فإنه في حين لُصقت مسميات مثل "مجنون الشرق الأوسط" و"المصاب بجنون العظمة" بصدام، لكن الصحافي الأميركي ديف غيلسون، رئيس تحرير موقع "مازر جونز"، يقول إنه "في الحقيقة لا يوجد دليل على أن صدام كان يعاني من اضطراب ذهاني".
وبوست الذي توفي عن عمر يناهز 86 عاماً، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إثر إصابته بفيروس كورونا (كوفيد-19)، عمل محللاً نفسياً لدى وكالة الاستخبارات، وعمل على فحص عقول وشخصيات قادة العالم لأكثر من عقدين. ويقال إن تحليل بوست لشخصيتي الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، أسهم في إثراء استراتيجية الرئيس الأميركي جيمي كارتر خلال مفاوضات كامب ديفيد التي أسفرت عن توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979.
في كتابه "حفظ الإيمان"، قال بوست، "بعد كامب ديفيد، نادراً ما كانت هناك قمة كبرى من دون أن يطلب منا إعداد ملفات وتقييمات حول القادة الأجانب". وحصل بوست على وسام الاستحقاق الاستخباراتي في عام 1979. ثم انتقل بعد ذلك لتولي منصب مدير برنامج علم النفس السياسي في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن. ومع ذلك، دعا مسؤولو الحكومة الأميركية "بوست" مرة أخرى للمساعدة في توجيه قراراتهم المتعلقة بالعراق وصدام حسين. وفي حديث لهيئة الإذاعة البريطانية في عام 2002، قال بوست، إن صدام حسين كان ذا "نشأة مؤلمة" وإن نشأته حولته إلى "نرجسي خبيث".
وكتب بوست 14 كتاباً حول مجموعة من الموضوعات، تتناول عقليات الإرهابيين وتسلط الضوء على السياسيين ذوي الشخصيات النرجسية. وواجه عالم النفس الأميركي بعض الانتقادات خلال مسيرته المهنية لابتعاده عن قاعدة "غولد ووتر" للجمعية الأميركية لطب النفس، التي تمنع الأطباء النفسيين من التعليق على الصحة العقلية للشخصيات العامة، أو تشخيصهم من دون فحص وموافقة. ومع ذلك، جادل بوست بأنه "من غير الأخلاقي في بعض الأحيان التزام الصمت".
نظرية "المجنون"
ومع احتدام أكبر معركة في أوروبا منذ عقود، يحاول زعماء العالم والدبلوماسيون ومحللو الاستخبارات ومراقبو الكرملين جميعاً فك شيفرة الحالة العقلية للرئيس الروسي، لا سيما في ضوء ما وصفه البعض بـ"قعقعة السيوف النووية"، حيث لوحت موسكو بحرب نووية إذا ما تدخل الناتو في أوكرانيا.
ويشير مراقبون إلى ما يعرف بنظرية "المجنون"، وهو تعبير سياسي قديم يعود لخصومات حقبة الحرب الباردة، وتكمن فكرتها في إرباك الخصوم بجعلهم يعتقدون أنك متقلب للغاية وعدواني وغير عقلاني، لدرجة أنه لا يمكن ببساطة توقع ما ستفعله. ويتساءل البعض عما إذا كان بوتين يعاني عدم توازن عقلي بالفعل أم أنه ببساطة يستخدم تلك النظرية القديمة لإرباك الغرب، أم أن هناك مزيجاً بين الأمرين؟
فالفكرة القائلة، بأن رئيس الدولة يمكنه جني ثمار السياسة الخارجية من خلال الظهور بمظهر غير قابل للتنبؤ تماماً- وهو تكتيك قيل إن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون استخدمه لمحاولة زعزعة فيتنام الشمالية- كان له أيضاً أصداء في الآونة الأخيرة خلال إدارة دونالد ترمب، عندما أكد مؤيدوه أنه أذهل خصومه بذكاء من خلال التصرف بشكل غير متوقع يخالف المعايير المعمول بها دولياً.
وفي مقابلة أجريت، الأسبوع الماضي، مع شبكة "سي بي أس نيوز" الأميركية، قال كينيث ديكيلفا، الطبيب النفسي والمسؤول الطبي الإقليمي السابق لدى الخارجية الأميركية، إنه من الخطأ النظر إلى بوتين باعتباره فقد قواه العقلية، مشيراً إلى أن "الرئيس الروسي براغماتي وعملي للغاية، يحركه طموح جامح لإحياء الاتحاد السوفياتي السابق ومجال النفوذ الواسع". ومع ذلك حذر من أن بوتين شخص يتسم بالقسوة، ومن ثم فإنه خطير للغاية لأنه محاصر إلى حد ما.
بشكل عام، حذر مراقبون مخضرمون من أنه لا يزال من المستبعد استخلاص نتائج بشأن الحالة العقلية لبوتين. وقال سام غرين، مدير المعهد الروسي في كينغز كوليدج لندن، في تعليقات لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، إن "الصعوبة التي أواجهها من الناحية التحليلية، هي أنني لا أعرف كيف يمكنني التمييز بين بوتين المجنون وبوتين الذي يفهم العالم بطريقة مختلفة تماماً عني".
ويرى غرين أن كون بوتين محاطاً بأشخاص يخشون إخباره بالحقائق الصعبة قد يقدم تفسيراً أكثر عقلانية من النظريات التي لا يمكن التحقق منها حول جنون الرئيس الروسي أو أنه ربما يعاني من نوع ما من المرض العضال. وقال، "إنه ليس أول مستبد يتلقى نصيحة سيئة للغاية، ويفعل أشياء غبية نتيجة لذلك".