على الرغم من ارتفاع أسعار النفط عالمياً إلى حدود قياسية، فلا تزال الأزمات الاقتصادية تعصف بالعراق، حيث يستمر ارتفاع الأسعار في السوق العراقية منذ أزمة فيروس كورونا مطلع عام 2020 وحتى الآن.
وبالإضافة إلى أزمة فيروس كورونا أثرت أزمة ارتفاع الأسعار عالمياً نتيجة الصراع الروسي - الأوكراني بشكل سريع في العراق، وهو ما رفع منسوب المطالبات لإيجاد حلول لتلك الأزمة من خلال استغلال الإيرادات الإضافية المتحققة نتيجة ارتفاع أسعار النفط عالمياً.
وعلى الرغم من كل الإجراءات الاقتصادية التي أعلنت عنها الحكومة العراقية خلال العامين الماضيين، ومن بينها رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار والورقة الاقتصادية ومحاولات تنويع مصادر الاقتصاد، فإن معدلات الفقر والبطالة ما زالت مرتفعة فيما لم تتم السيطرة على ارتفاع أسعار السلع والخدمات في السوق العراقية.
ويأمل العراقيون أن يكون ارتفاع أسعار النفط عالمياً حدثاً يرمم ما خلفته أزمة فيروس كورونا وتداعياتها، إلا أن مراقبين ومتخصصين بالاقتصاد يقللون من إمكانية أن يقدم الفاعلون في الملف الاقتصادي للبلاد على أي تدابير من شأنها استثمار تلك الزيادة في أسعار النفط.
مطالبات بإنشاء "صندوق سيادي"
ويرى مراقبون أن سيطرة أحزاب السلطة على السياسة المالية في البلاد هي التي تعيق إمكانية استثمار الأموال المتحققة من النفط في مجالات تنموية واقتصارها على المشاريع السياسية والانتخابية لتلك الأحزاب.
وتصاعد الحديث في الأوساط العراقية حول الاتجاهات التي يمكن من خلالها استثمار الوفرة المالية التي يشهدها العراق نتيجة ارتفاع أسعار النفط، ففيما يرى طيف من الاقتصاديين ضرورة العمل على إكمال المشاريع المتوقفة والملغاة، يجدد آخرون الدعوة لتأسيس صندوق سيادي.
أما الاتجاه الثالث، فيركز على استخدام تلك الأموال في سد العجز المتوقع في موازنة العام الحالي 2022 وعدم اللجوء إلى الاقتراض مرة أخرى.
ويعتقد محمود داغر، مدير العمليات المالية السابق في البنك المركزي العراقي، أن الأموال المتحققة من زيادة أسعار النفط عالمياً "لن تحقق أي استثمارات منتجة في العراق"، واصفاً الموازنة العامة في البلاد بأنها "جامدة ومقيدة ولم تضع حداً معيناً تقف عنده في ما يتعلق بالرواتب والأجور الحكومية".
ويضيف داغر لـ"اندبندنت عربية" أن "الشق الاستثماري في الموازنة بات حكراً على القطاع العام المليء بالفساد، وهذا الأمر يمثل السبب الرئيس المعرقل لاستثمار أي أموال إضافية متحققة من مبيعات النفط".
ويشير داغر إلى أن "الفرصة الآن تبدو مناسبة لإنشاء صندوق سيادي على غرار بقية دول العالم لاستثمار الأموال المتحققة من زيادة في أسعار النفط عالمياً وتضمينها في الموازنة العامة للبلاد"، مبيناً أن "السياسة المالية هي أسيرة رغبات السلطة، وهذا ربما يمثل الدافع الرئيس في تحفيز الإنفاق لدوافع سياسية".
ولا يمتلك العراق صندوقاً سيادياً لاستثمار الفائض من الإيرادات النفطية، فيما استمرت مطالبات العديد من الاقتصاديين البارزين خلال السنوات الماضية في البلاد بإنشاء صندوق سيادي يتم من خلاله استثمار الإيرادات النفطية.
وبشأن زيادة أسعار السلع والخدمات في السوق العراقية على الرغم من ارتفاع أسعار النفط، يلفت داغر إلى أن مشروع تغيير سعر صرف الدينار مقابل الدولار في نهاية عام 2020 اقتطع نحو 23 في المئة من القدرة الشرائية للمواطنين، الأمر الذي أدى إلى تضخم بنحو ثمانية في المئة، مبيناً أن "هذه العوامل بالإضافة إلى زيادة أسعار السلع المستوردة نتيجة التضخم العالمي أدت إلى إضعاف القدرة الشرائية للمستهلكين العراقيين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع داغر أن "الأزمة الأوكرانية زادت الطين بلة، ومقابل زيادة أسعار النفط بالنسبة إلى الدول المنتجة هناك زيادة في أسعار السلع المستوردة، ومع هذا الحجم من النمو زاد الطلب على الموارد ما أدى إلى تضخم عالمي وتضخمات في الاقتصادات المنفتحة على العالم كالعراق، ولذلك من الطبيعي أن نشهد زيادة في أسعار السلع والبضائع".
عواقب العودة إلى سعر الصرف السابق
شهدت نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي، استضافة لوزير المالية علي علاوي في البرلمان العراقي لبحث الوضع المالي للبلاد، وإمكانية إعادة سعر صرف الدينار العراقي إلى ما كان عليه سابقاً، بعد مطالبات عدة من كتل ونواب على رأسهم نواب "الكتلة الصدرية" في مسعى لإعادة سعر الصرف إلى ما كان عليه قبل شهر ديسمبر (كانون الأول) 2020.
وقال وزير المالية في بيان إن إعادة النظر في سعر الصرف للعملة بصورة غير مدروسة "تؤدي إلى فوضى مالية على غرار بعض الدول". وكانت الحكومة العراقية قد خفضت قيمة الدينار العراقي أمام الدولار الأميركي في ديسمبر 2020، نتيجة الأزمة المالية التي مرت بها البلاد وتلكئها في صرف مستحقات ورواتب الموظفين.
ويبلغ سعر صرف الدولار في الأسواق المحلية نحو 1500 دينار لكل دولار، بعد أن كان يبلغ نحو 1200 دينار للدولار الواحد. ويرى داغر أن العودة إلى سعر الصرف السابق في المرحلة الحالية ستؤدي إلى "نتائج كارثية"، مبيناً أن "السياسة قادرة على أن تتم عملية العودة بشكل سهل من دون الاهتمام بالسياسة النقدية أو الثقة بالدينار العراقي".
وبحسب داغر، فإن تغيير سعر الصرف عام 2020 أحدث اهتزازاً كبيراً بالثقة بالعملة المحلية وأصبحت التعاملات المحلية تحدث بالدولار.
ومثّل عام 2021 "عام حل الإشكالات بين التجار نتيجة تغيير سعر العملة"، كما يشير داغر الذي يعتقد أن العودة إلى سعر الصرف السابق ستعني "هزة إضافية ستكون عواقبها وخيمة على العراق وسيتسبب بفقدان الثقة بشكل أكبر بالدينار العراقي".
إجراءات حكومية لتجاوز الأزمة
وعلى الرغم من أن عدة دول عربية استفادت من ارتفاع أسعار النفط عالمياً، فإن الوضع يبدو مختلفاً في العراق، حيث تعتمد البلاد بشكل شبه كامل على الاستيرادات في تلبية حاجة السوق المحلية من السلع والخدمات، فيما لا تتدخل الصناعة والزراعة إلا بنحو خمسة في المئة من إجمالي الموازنة العامة للبلاد في أفضل الأحوال.
وكان وزير النفط العراقي، إحسان عبد الجبار، أعلن عن تحقيق البلاد أعلى إيرادات مالية شهرية عن بيع النفط منذ ما يزيد على ثماني سنوات، بأكثر من 8.5 مليار دولار. وعلى الرغم من كل تلك الأموال المتحققة فإن الإجراءات الحكومية اكتفت بمحاولات وصفها مراقبون بأنها "غير مجدية" لدعم الطبقات الفقيرة.
واتخذت الحكومة العراقية جملة قرارات لتأمين خزين من القمح والسيطرة على الأسواق المحلية ودعم الشرائح الهشة، فيما قررت صرف منحة نقدية مقدارها 100 ألف دينار (68 دولاراً) لمرة واحدة باسم "منحة غلاء معيشة".
وكان المجلس الوزاري للاقتصاد، بحسب بيان لوزارة التجارة، قرر تخصيص مبلغ 100 مليون دولار لشراء ثلاثة ملايين طن من الحنطة المستوردة "بشكل عاجل" بهدف توفير خزين استراتيجي، بالإضافة إلى تصفير الرسم الجمركي على البضائع الأساسية من مواد غذائية ومواد بناء ومواد استهلاكية ضرورية لمدة شهرين، فضلاً عن إطلاق حصتين من المواد الغذائية في البطاقة التموينية.
في السياق، تقول أستاذة الاقتصاد، سلام سميسم، إن سوء إدارة الموارد الاقتصادية تحول دون تحقق إيرادات كبيرة نتيجة ارتفاع أسعار النفط، مشيرة إلى أن الحكومة ستكتفي بـ"إجراءات ترقيعية لامتصاص أزمة ارتفاع أسعار السلع في السوق من خلال إطلاق حزم مساعدات وغيرها من دون اللجوء إلى خطط حقيقية لإدارة الأموال الإضافية المتحققة".
وتضيف سميسم في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن الحديث عن استثمار الزيادة في أسعار النفط "لا يمكن أن يتحقق لأسباب فنية"، مبينة أن البلاد محكومة بـ"آليات بيروقراطية لإدارة الموارد الاقتصادية وهو ما يحول دون تحفيز الاستثمارات في البلاد".
ومن جهة أخرى، يبدو أن غياب منظومة القوانين المحفزة للاستثمار يمثل "أبرز معوقات نشوء استثمارات في البلاد"، بحسب سميسم التي تبين أن غياب تلك القوانين يجعل الحديث الحكومي عن الاستثمارات "مجرد حديث سياسي".
ولا تبدو الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعراق في طريقها إلى الانحسار، في بلاد لا تنتج شيئاً ويعتمد اقتصادها بشكل كلي على النفط، فضلاً عن تفشي الفساد والبيروقراطية في معظم مفاصلها.