في خطوة غير مسبوقة في تاريخ لبنان لم تعهدها وزارة الخارجية، حتى في أحلك الظروف التي مرت بها بلاد الأرز، نفّذ سفراء ودبلوماسيون، رؤساء الوحدات الإدارية في وزارة الخارجية والمغتربين، إضراباً تحذيرياً يومي الخميس والجمعة 17 و18 مارس (آذار) الحالي، امتنعوا خلاله عن تسيير أعمال الوزارة، احتجاجاً على عدم تطبيق القانون بإجراء مناقلات دبلوماسية، لا سيما أن عدداً كبيراً منهم تخطى المهلة القانونية لبقائهم في الإدارة المركزية، والمحددة بثلاث سنوات، مقابل تجاوز زملاء لهم في الخارج السنوات العشرة التي تنص عليها المادة 26 من القانون. وفي بيان صادر عنهم، هدد المضربون بخطوات تصعيدية في حال استمرت المراوحة في هذا الملف. وأكد عدد منهم أن الأمور قد تصل حد "الانفجار في وزارة الخارجية، وليتحمل المعرقلون المسؤولية".
هل الهدف تعطيل الانتخابات؟
لا يُخفي دبلوماسيو الإدارة المركزية تطور تحركهم الاحتجاجي، وصولاً إلى التهديد بمقاطعة الانتخابات النيابية في الخارج. وبالتزامن، ربط كثيرون في لبنان بين إضراب الدبلوماسيين ونوايا بعض القوى السياسية في تأجيل الانتخابات النيابية، لا سيما في الخارج، حيث إن أغلبية الأصوات لن تصب في صالح القوى السياسية الموجودة في السلطة. ويعتبر البعض أن لدى المضربين ورقة مهمة يمكن استخدامها، وهي ورقة الانتخابات النيابية، خصوصاً أن اقتراع المغتربين يتطلب إضافة إلى عمل البعثات في الخارج، متابعة من الإدارة المركزية لكل عملية الاقتراع وجمع النتائج وتحويلها إلى وزارة الداخلية. ويقول أحد الدبلوماسيين المشاركين في الإضراب، إن تحركهم لا يهدف إلى تعطيل الانتخابات النيابية، ولو كان كذلك لما نفذ الإضراب قبل شهرين من الاستحقاق.
وزارة الخارجية "تغلي"
يتابع الدبلوماسي الذي يفضل عدم الكشف عن اسمه، رابطاً التحرك بالظلم الملحق بهم، لا سيما في الظروف المالية الصعبة، وتراجع قيمة الليرة اللبنانية بحيث صار راتب السفير والمستشار في الإدارة المركزية وكأنه شبه متطوع. ويقول دبلوماسي آخر إنهم ينتظرون منذ عام 2019 تطبيق القانون، مشيراً إلى وجود زملاء لهم في الخارج منذ 14 عاماً أي 4 سنوات إضافية عن المهلة المحددة في القانون وهي عشر سنوات، مذكراً بأن المادة 26 تنص على وقف رواتب من يتخطى المهلة القانونية في الخارج، إلا إذا صدر مرسوم خاص بالتمديد له. وأضاف أنهم انتظروا من الحكومة الحالية التي وعدت بالإصلاح معالجة المشكلة وتطبيق القانون. ومعلوم أن محاولات البتّ في التشكيلات لم تنجح منذ خمس سنوات نتيجة التدخلات السياسية والمحاصصات. وكشف أحد الدبلوماسيين المعترضين عن أن وزير الخارجية عبد الله بوحبيب أحالهم إلى المرجعيات السياسية، التي بدورها ردت بأنها تنتظر من الوزير أن يقدم لها تصوراً أو مسودة للبحث بها.
معيار اختيار الأسماء
في عام 2020، حاول وزير الخارجية الأسبق ناصيف حتي وضع تشكيلات دبلوماسية تعتمد المعيار الواحد والعادل، فقوبِل برفض المرجعيات السياسية وتدخلها لتحديد معيارها الخاص في اختيار الأسماء وتوزيع المراكز، فقدم استقالته. وزير الخارجية الحالي عمل منذ سبتمر (أيلول) الماضي، على تشكيلاتٍ اقترح في البداية أن تكون جزئية ثم كاملة، بعد اعتراض المرجعيات السياسية. وهو حاول وفق ما تؤكد مصادره، العمل على أكثر من مسودة، لكن لا شيء نهائياً بعد.
في المقابل، تكشف مصادر دبلوماسية عن أن من يعمل على التشكيلات ليس الوزير، بل مستشارو رئيس "التيار الوطني الحر" الذي "لا تزال ملائكته حاضرة في الوزارة"، لا سيما أن بوحبيب محسوب من حصة رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر" في الحكومة. وتشرح المصادر أن اللجنة الإدارية المنصوص عليها في نظام الخارجية، والتي تضم الأمين العام ومدير الشؤون الإدارية، المنوط بها دراسة واقتراح الترفيعات والمناقلات، هي اليوم مغيبة، والأمين العام الذي يفترض أن يؤشر عليها غير مطلع عليها. وتشير المصادر إلى أنه تم تكليف مستشار رئيس "التيار الوطني الحر" طارق صادق لوضع التشكيلات بالتعاون مع المدير السابق لمكتب جبران باسيل، المستشار هادي هاشم. والمعلوم أن التصور الأخير تمت فيه مراعاة مصالح الرئيس نبيه بري و"حزب الله" ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لضمان تمريره في مجلس الوزراء.
تشكيلات المحاصصة والمصالح الحزبية
وتكشف مصادر دبلوماسية عن أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي رفض مسودة التشكيلات التي قدمها له وزير الخارجية منذ نحو أسبوعين. إذ تضمنت تلك المسودة مخالفات إدارية لجهة اعتمادها فقط على الاستنسابية والمحاصصة، مقابل غياب المعيار الواحد، مع مراعاة المصالح الحزبية، بدلاً من الأصول الإدارية، فكانت معظمها توظيفات سياسية قبل شهر ونصف الشهر على الانتخابات النيابية. أبرز المخالفات كانت في اختيار السفراء الذين ستتم إعادتهم من الخارج، واقتصار الأمر على سفراء غير محسوبين على "التيار الوطني الحر" على الرغم من عدم تجاوزهم السنوات العشر، مقابل تعيين سفراء محسوبين على "التيار الوطني الحر" مكانهم، إضافة إلى ترفيع مستشارين إلى رتبة سفير لتعيينهم في الخارج، والقفز فوق نحو 20 مستشاراً من حيث الأقدمية، كما هي الحال بالنسبة للمستشار المقرب من باسيل هادي هاشم، وذلك خلافاً لقرار مجلس الخدمة المدنية الذي كان رفض عام 2020 مشروع ترفيع هاشم على حساب زملائه الأقدم في الرتبة.
وتطرقت أنباء متداولة إلى "إغراء الرئيس بري للقبول بالتشكيلات عبر تعيين ابنته فرح بري الموجودة حالياً في قطر سفيرة في لندن، والرئيس ميقاتي عبر تعيين صديقه سفير لبنان لدى ألمانيا مصطفى أديب سفيراً في واشنطن، علماً بأن أديب يتخطى بعد أشهر قليلة المدة القانونية لوجود السفير في الخارج. وتكشف المصادر عن محاولات لتعيين سفراء من خارج الملاك أيضاً من المحسوبين والمقربين من رئيس الجمهورية، الأمر غير المنطقي حصوله في نهاية العهد، ومحاولات إجراء مباراة لتوظيف عشرة دبلوماسيين جدد، في وقت تطلق فيه وزارة الخارجية خطة إعادة النظر بموازنات البعثات ودراسة إقفال نحو 25 في المئة من السفارات في الخارج، تماشياً مع الظروف المالية الصعبة وصعوبة تأمين الرواتب ومصاريف التشغيل المحددة بالعملة الصعبة.
الخارجية تنفي وتعترف
تنفي مصادر وزير الخارجية كل ما يحكى عن استنسابية ومحاصصة تغلب التشكيلات المقترحة، لكنها تعترف في المقابل أن إقرار التشكيلات الدبلوماسية يتطلب توافقاً سياسياً، وتكشف عن أن الوزير يتشاور مع كل المرجعيات السياسية بمن فيهم رئيس التيار جبران باسيل وغيره. فالمعلوم بحسب مصادر، أن اختيار الأسماء للمراكز المهمة في الخارج والموزعة مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، تتم من قبل المرجعيات السياسية وليس من قبل وزير الخارجية. وعن ترفيع المستشار المقرب من باسيل إلى رتبة سفير من دون مراعاة الأقدمية، تؤكد مصادر وزير الخارجية أن أي ترفيع سيتم بشكل مواز في كل الطوائف ولن يحصل في طائفة دون أخرى، مشددة على اعتماد الوزير في أي مسودة جديدة على المعيار الواحد لكل الطوائف. وفيما تؤكد المصادر في الخارجية أن عدد السفراء الذين سيتم إرجاعهم من الخارج هو نحو الـ60، وأن السفراء الذين يجب أن يشكلوا إلى الخارج بعد وجودهم في الإدارة أكثر من ثلاثة أعوام هم نحو 20، ما يعني أن المناقلات الجديدة قد تشكل وفراً على موازنة الوزارة، لا سيما في العملة الصعبة، تجزم بأنه لن يتم إعادة أي سفير لم يتجاوز السنوات العشر في الخارج، مؤكدة أن كل التعيينات ستشمل دبلوماسيين من داخل السلك، وليس خارجه.
لماذا لا يعتمد الحل الجزئي؟
يلتقي دبلوماسيو الإدارة مع دبلوماسيي الخارج على حل واحد لمشكلة التشكيلات، وهو تطبيق نظام وزارة الخارجية من دون أي استنسابية، وبعيداً من التدخلات السياسية، على أن تكون كلمة الفصل فقط لوزير الخارجية وللجنة الإدارية. الحل يعتمد على وضع تشكيلات جزئية ومنح السفراء في الإدارة حقهم بتشكيلات إلى الخارج، وهي مهمة سهلة، لا سيما أن عددهم أقل بكثير من الذين يجب إعادتهم من الخارج. وتكشف المعلومات نفسها عن أن عدد السفراء الذين تجاوزوا السنوات العشر في الخارج هو 10، وعدد رؤساء البعثات من الفئة الثانية الذين تخطوا السنوات السبع هو 14، أما عدد المراكز الشاغرة في الخارج، وفي مقدمتها سفارة واشنطن، فهو 11 مركزاً، يعني مجموع التشكيلات الملحة هو 35 سفيراً. وتقول مصادر مقربة من وزير الخارجية، إن الوزير بوحبيب حاول في البداية اقتراح هذه الحلول الجزئية، إلا أن المرجعيات السياسية رفضتها.