مجالسة كبار السن ظاهرة جديدة آخذة في الانتشار داخل المجتمع اللبناني، فقد حملت السنوات الأخيرة تبدلاً كبيراً في المفاهيم داخل العائلة اللبنانية، فمن جهة يريد الشباب الانخراط في سوق العمل والهجرة من أجل تطوير ذواتهم وتأمين مستقبلهم، لكن من ناحية أخرى تسود نظرة "الجحود وقلة الوفاء من الأبناء تجاه الآباء" بشأن مراكز العناية بكبار السن ودور الرعاية. وبين هذا وذاك، طرأ أسلوب الاستعانة بشخص يأتي إلى المنزل، ليجالس كبير السن لفترة معينة، ريثما يتمكن الأبناء من معاودة نشاطهم داخل الخلية المنزلية. ودفع الإقبال على هذا النمط من الرعاية إلى تنظيم بعض المؤسسات الصحية والتربوية ورشاً تدريبية للأشخاص الراغبين بعمل من هذا النوع.
مهنة راقية
منذ 3 سنوات، وتزامناً مع تصاعد الأزمة الاقتصادية، بدأت هنا البحث عن فرصة عمل تُؤمّن لها الحد الأدنى من الدخل، وتتوافق مع مؤهلاتها العلمية المحدودة. اقترح عليها أحد الأقرباء المغتربين رعاية أمه وأبيه كبار السن ريثما تعود شقيقته إلى المنزل بعد انتهائها من الدوام. بدأت هنا العمل كفرصة مؤقتة للعيش، لكنها سرعان ما وجدت نفسها تتطور باستمرار، وتتأقلم مع نمط حياتهما. ومع انتشار جائحة كورونا، اضطرت إلى تركهما، وانتقلت إلى مكان إقامة عائلتها في الجرد. وبعد انحسار الجائحة، اكتشفت أن هذا العمل العرضي، الذي بدأته منذ سنوات، تحول إلى نمط عيش منتشر في لبنان، وأنه يمكنها الاختيار بين عروض مختلفة.
تشير هنا إلى أن "أزمة الدولار ومغادرة العمالة الأجنبية لبنان، ساعدتا الفتيات اللبنانيات على إيجاد فرص عمل في رعاية كبار السن". أصبحت هنا تعيش نمط حياة جديداً تملؤه المسؤوليات، فعلى عاتقها يقع واجب توزيع الدواء، وتنظيم مواعيد الاستحمام للسيدة الكبيرة السن، ومجالستها والتحدث معها عن ذكرياتها، وربما البوح لها بشيء من أسرارها.
مهارات مطلوبة
لا تخرج العناية بكبار السن عن قواعد العلم، إذ تتطلب مؤهلات للشخص المطلوب منه المجالسة، ولا بد أن يكون لديه إلمام بمرحلة الشيخوخة.
ويشير خليل خليل، متخصص في تدريب مجالسي كبار السن، إلى أن هذه الظاهرة في اتساع كبير، لذلك لا بد من تدريب من عليه العناية بالكبير من الناحية التقنية، وهناك جملة شروط لا بد أن يتمتع بها المُجالس، فمن ناحية أولى، يجب أن يتمتع بالحد الأدنى من التعليم، وأن يجيد القراءة والكتابة من أجل معرفة كيفية تنظيم أدوية الكبير في السن، وكذا الوصفات الطبية. ويفضل أن يكون المُجالس ممن لديه شهادة تمريضية، لكن في حال عدم حصوله على شهادة من هذا النوع، يفترض أن يكتسب قدرة التعاطي النفسي والإنساني مع كبير السن، ويأتي التواصل مع هؤلاء على رأس قائمة الأولويات، لأن "كبار السن يحتاجون إلى جانبهم أشخاصاً يحوزون ثقتهم، ويخافون من الغرباء". ويضيف خليل أنهم "ينفذون تدريباً مكثفاً للأشخاص على أساسات العناية الصحية، مثل كيفية قياس الضغط، والسكري، والأوكسيجين، والحرارة، وكيفية العناية بنظافة المريض واستحمامه، وتغيير وضعياته دون أذيته، وتجنب تقرحات الفراش، والحلاقة، وغيرها من أساسات النظافة الشخصية للحيلولة دون حصول أي التهابات".
وعن حاجة بعض المرضى لعناية إضافية كمصابي مرض الخرف، يؤكد خليل وجوب التركيز على "عدم قدرة المريض على ضبط سلوكياته، لذلك يحتاج الشاب إلى تدريب مكثف إضافي في هذا المجال، والحصول على مؤهلات تمريضية".
ويتحدث خليل عن إقبال كبير من العائلات على هذا المجال، لأنه "أوفر من العمالة الأجنبية، من هنا بدأ الكثير من الشبان التدريب على هذا النمط من الرعاية، لأنهم يرون أن لهذا العمل مستقبلاً، ويمكن أن يستمر طوال عمر المريض، ويلبي حاجة يومية لدى من يعاني عجزاً مزمناً، كما يستعين بهم المهاجرون الذين يفضلون رعاية أهلهم في المنازل وعدم إرسالهم إلى المأوى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النظرة الاجتماعية تتغير
يتناول علم الاجتماع هذا النمط في إطار إعادة النظر لكيفية رعاية كبار السن، وكذلك إلى دورهم ضمن المشهد الثقافي العام. تلفت لبنى عطوي، متخصصة في علم اجتماع العائلة، إلى أن هذه الظاهرة تحتمل وجهين، فمن جهة يستعين الأبناء بأشخاص لمجالسة الكبار داخل المنزل، لأن هناك إحراجاً أخلاقياً إذا وضعوا كبار السن في دور الرعاية، لذا يفضلون الاستعانة بمن يرعاهم داخل المنزل. وتضيف: "من الأفضل اضطلاع الأبناء برعاية آبائهم، لكن بسبب الانشغال وضرورات الحياة، يضطرون للاستعانة بمن يرعاهم داخل المنزل، لأهمية هذا المكان من الناحية العاطفية والنفسية".
وتتابع لبنى، "بدأنا نلاحظ تحولاً آخر على المستوى الفكري في النظر إلى كبار السن، إذ كان يعتقد أن كبير السن انتهت واجباته على المستوى العام، وبدأ مرحلة العمر الثالث، ولم يعد إنساناً منتجاً. وبدأت حقبة الاستفادة من خبرة الطاعنين في السن وخبراتهم وتجاربهم الحيوية". وهو ما تراه عطوي "إعادة اعتبار لكبار السن، وإفادة المراهقين من خبراتهم ومعرفتهم". وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن "جامعة الكبار التي أطلقتها الجامعة الأميركية في بيروت، والتي تهدف إلى دمج كبار السن، وتهيئتم للانخراط في العمل الاجتماعي والأكاديمي من جديد، وإشعارهم بأنهم "أشخاص منتجون وفي قلب خدمة المجتمع".
تدريب مستجد
ودفع الطلب المتزايد على "رُعاة المسنين" ببعض الجمعيات المتخصصة في لبنان، إلى تنظيم وإجراء دورات تدريبية لهؤلاء الأفراد المخولين بهذه الوظيفة. ويشير نصر معماري، مدير "دار الزهراء" (مركز متخصص)، إلى أنهم بدأوا بتنظيم دورات تدريبية لمدة 3 أشهر من أجل إعداد أشخاص مخولين رعاية كبار السن، بالتعاون مع الجهات الدولية المانحة منذ 2017، إضافة إلى "تمرين مدفوع لمدة شهر بعد انتهاء الدورات التدريبية". ويوضح معماري أن "هذه الدورات تأتي لتكملة النقص الذي بدأ لبنان يعانيه على مستوى الكادر التمريضي، بسبب هجرة المجازين منهم إلى خارج البلاد"، لذلك بدأت بعض المؤسسات المتخصصة بتدريب الشبان والشابات على هذه المهارات من أجل العمل داخل المنازل كبديل عن المراكز الخاصة بكبار السن، "لأن المجتمع ما زال مترابطاً، ويجري تعيير الشخص الذي يضع أهله داخل مراكز للإيواء أو الرعاية".
وفتحت هذه الدورات فرص عمل في وجوه عدد كبير من الشبان، الذين يمتلكون الحد الأدنى من المؤهلات العلمية والجسدية، ويمكنهم اكتساب أساسات الرعاية بالمسن، وآليات مجالسته النهارية في ظل الظروف الطبيعية المعتادة.