عزَّزت الولايات المتحدة الأميركية من اهتمامها الملحوظ بالملف الليبي، في الآونة الأخيرة، والذي عبّرت عنه بجملة من المقترحات لحل الأزمة السياسية الحالية في البلاد، التي تقف على مشارف انقسام جديد بين حكومتين متنافستين على السلطة، والذي بدأ بمقترح لإدارة العوائد النفطية، وتبعه واحد جديد، أكثر إثارةً للجدل، يقترح خطة "عشرية" للوصول إلى بر الاستقرار المنشود والمفقود منذ سنوات في ليبيا.
ومع أن واشنطن لم تكشف عن تفاصيل خطتها التي تمتد لعقد كامل ولا طبيعة مراحلها حتى الآن، فإن رئيس الوزراء الليبي الجديد فتحي باشاغا، سارع للترحيب بها، وتعهد الالتزام بما يرد فيها، وسط ترقب لموقف باقي الأطراف منها، وهي التي نادراً ما اتفقت على أي مشروع لحل خلافاتها المزمنة، إلا في ما قل وندر.
خطة السنوات الـ10
وأعلن سفير الولايات المتحدة ومبعوثها الخاص إلى طرابلس ريتشارد نورلاند، أن بلاده تعمل من أجل المصالحة الليبية عبر خطة لدعم الاستقرار في ليبيا وعدد من الدول الأخرى، وفق خطة لم يكشف عن تفاصيلها تمتد لعقد كامل. وقال نورلاند إن "الولايات المتحدة تسعى لإعادة التوحيد في ظل حكومة منتخبة مسؤولة أمام الليبيين". وأوضح أن "الاستراتيجية العشرية التي تقترحها بلاده تظهر التزاماً أميركياً يتجاوز المرحلة الحالية، ويسعى إلى تحقيق الاستقرار المستدام في ليبيا".
تصريح السفير الأميركي جاء بعد أيام من إعلان وزير خارجية بلاده، أنتوني بلينكن، أن واشنطن تستعد لتنفيذ "استراتيجية عشرية" لمنع الصراعات في ليبيا ودول أخرى، وغرد بلينكن عبر حسابه في موقع "تويتر"، "سننفذ جنباً إلى جنب مع شركائنا الاستراتيجية العشرية لمنع الصراعات وتعزيز الاستقرار، وستعمل الولايات المتحدة مع الحكومات الشريكة والشركات والمجتمع المدني لبناء القدرة على الصمود في كل من هايتي وليبيا وموزمبيق وبابوا غينيا الجديدة وساحل غرب أفريقيا".
ترحيب باشاغا
وكان رئيس الحكومة الليبية المكلف من البرلمان فتحي باشاغا، أول المتفاعلين مع المشروع الأميركي لإنهاء الصراع الليبي، وعبر عن ترحيبه بالاستراتيجية التي أعلنت عنها الخارجية الأميركية، من أجل دعم الاستقرار في ليبيا وعدد من الدول التي تشهد نزاعات مماثلة، وأعرب باشاغا عما وصفه بـ"ترحيب الشعب الليبي بفرصة العمل مع الخارجية الأميركية، من أجل دعم الاستقرار محلياً وفي المنطقة"، مؤكداً أن ليبيا "ستكون شريكاً في السلام والازدهار لأصدقائنا وجيراننا".
في انتظار الأفعال
ورأى المحلل السياسي عز الدين عقيل، في تعليق على المبادرة الأميركية، أن "الليبيين ينتظرون من أميركا الأفعال لا الأقوال، لأنها دولة لا تعرف غير سلوك فرض الهيمنة والانحياز المتطرف لمصالحها". واعتبر عقيل أن "الملف الليبي تحول إلى ساحة نزاعات دولية تتصارع عليها أطراف عدة لن تسمح لواشنطن بأن تستأثر بالبلاد وحدها بعشرية أو بمئوية". ونوه إلى أن "تغريدتي بلينكن ونورلاند تعنيان أن واشنطن تخطط للعمل لعشر سنوات على ليبيا، ما يعني استمرار الفوضى وتواصل الهيمنة والتدخل لفترة أطول مما هو مقدر له". وخلص إلى أن "هذه الاستراتيجية ستجرى مع دول عدة، وليس ليبيا وحسب، ما يعني أنها توجه سياسي هيمني عام، وسيصطدم حتماً مع مصالح دولية أخرى بالدول التي ذكرها بلينكن".
تشجيع النزعة الانفصالية
وأعرب مستشار الأمن القومي الليبي إبراهيم بوشناف عن تخوفه من أن يؤدي طول المراحل الانتقالية في ليبيا إلى تشجيع النزعات الانفصالية والدفع باتجاه انفراط ليبيا وتفسخ وحدتها. وشدد بوشناف على أن "تشكيل حكومة كفاءات مصغرة تنجز العملية الانتخابية أفضل من حكومات المحاصصة التي طغت على الحكومتين المتنازعتين في البلاد"، منتقداً "حجم وتأثير التدخل الدولي في الملف الليبي، الذي جعل التوافق الدولي أساسياً في الحل، وهو ما يجب أن يحدث عاجلاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تداعيات الحرب الأوكرانية
في المقابل، اعتبر الصحافي الليبي عمر الجروشي أن "الاهتمام المتزايد من واشنطن بملف الأزمة الليبية وجملة المقترحات التي أصبحت تطرحها هو تمهيد لنزاع مقبل لا محالة على الهيمنة في الملف الليبي بين الولايات المتحدة وحلفائها في القارة الأوروبية وروسيا، كإحدى تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، التي ستعمق خلافاتها مع الغرب حول كثير من القضايا الدولية، من بينها القضية الليبية". وأشار الجروشي إلى أن "الاهتمام اللافت للإدارة الأميركية بليبيا في الفترة القليلة الماضية هو تحرك استباقي من واشنطن لمنع موسكو من تحقيق أهدافها في ليبيا التي تطاردها منذ سنوات، وأتوقع أنها ستكون بداية لسجال سياسي بين الطرفين في عدة ساحات أخرى مثل سوريا". وتوقع أن "تحدث الاستراتيجية العشرية التي أعلنت عنها واشنطن تغييرات جوهرية في سياق الأزمة الليبية، خصوصاً إذا تبنتها الأمم المتحدة كما هو متوقع عبر بعثتها في طرابلس، ما سيجعل الأطراف المحلية التي قد تتعارض الخطة الأميركية مع مصالحها في موقف حرج، ولا أرى أنها ستملك إلا الموافقة عليها على مضض".
استمرار الإفلات من العقاب
في سياق آخر، ربط خبراء تابعون للأمم المتحدة بين ثقافة الإفلات من العقاب المتفشية في ليبيا، وبين تحقيق السلام وتقدم المسار الديمقراطي وإجراء انتخابات نزيهة في مختلف أنحاء البلاد، وتحدث المحققون الأمميون عن "استمرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في معظم أنحاء ليبيا، التي تشمل جرائم محتملة ضد الإنسانية وسط انتشار ثقافة الإفلات من العقاب، ما يعرقل انتقال البلاد إلى السلام والديمقراطية".
جاء ذلك في التقرير المرحلي والتكميلي للبعثة المستقلة لتقصي الحقائق في ليبيا، المرفوع إلى مجلس حقوق الإنسان الدولي. وحذرت بعثة تقصي الحقائق في التقرير الذي يغطي الفترة من نوفمبر (تشرين الأول) الماضي حتى شهر مارس (آذار) الماضي، من أن "الانتهاكات المتعددة والواسعة النطاق تهدد نزاهة العملية الانتخابية وجهود التحرك نحو الديمقراطية". وقال محمد أوجار، رئيس البعثة، في تصريحات صحافية، "لن يكون هناك سلام من دون وضع حد لهذه الانتهاكات، ولن تكون هناك ديمقراطية من دون وضع حد للإفلات من العقاب".
انتهاكات واسعة
ولفتت البعثة المكونة من ثلاثة أعضاء، إلى "ترهيب ومضايقة النشطاء والاعتداء على المحامين والقضاة والانتهاكات الجماعية ضد الفئات الضعيفة، مثل المهاجرين والنساء والمحتجزين". وانتهى تقرير البعثة الأول، الصادر في أكتوبر الماضي، بحسب أوجار، إلى أن "أعمال القتل والتعذيب والسجن والاغتصاب والإخفاء القسري في السجون الليبية قد ترقى إلى أن تكون جرائم ضد الإنسانية". وأضاف، "منذ ذلك الحين، كشفنا عن مزيد من الأدلة على أن انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها المعتقلون في ليبيا واسعة النطاق أو ممنهجة أو الاثنان معاً".
وقال رئيس البعثة الأممية المستقلة، إن "بعثة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يونيو (حزيران) عام 2020 لن تعلق على التطورات السياسية في البلاد، ومع ذلك، ركزت بشكل مكثف على الانتهاكات والجرائم التي يمكن على وجه الخصوص أن تعرقل انتقال ليبيا إلى حال السلم والديمقراطية وحكم القانون". وتابع، "من وجهة نظرنا، فإن ثقافة الإفلات من العقاب التي تهيمن في أجزاء مختلفة من ليبيا تعوق هذا التحول".