في نهاية الأمر، كان على الموسيقي البولندي فريدريك شوبان أن ينتظر بدايات الألفية الجديدة والقرن الحادي والعشرين قبل أن يبدأ العالم التعامل معه بوصفه موسيقياً كبيراً، وليس أسطورة من أساطير الإبداع في كل الأزمنة. وفقط، في عام 2010، وبمناسبة الاحتفالات الفرنسية والبولندية، كما في أماكن أخرى من العالم، نيويورك مثلاً، بحلول الذكرى المئوية الثانية لولادة شوبان، تمكّن الباحثون والنقاد من إخراجه من الصورة المعتادة التي لعل جورج صاند، الكاتبة الفرنسية التي عشقته يوماً، فكان واحدا من كثر من مبدعين ارتبطوا بها، كانت هي المسؤولة عن إضفاء سمة "الظاهرة" عليه، فجرى التعامل معه منذ وقت مبكر تعاملاً اجتماعياً، وسحب من التداول الإبداعي الخالص ليصبح بطلاً رومانطيقياً لا يشق له غبار، لا يُذكر إلا وتُذكر حكايات الحب واللوعة والشوق والفراق معه، ولكن هذا كله كان لا بد له أن ينتهي يوماً.
أمير عشق أم أمير موسيقى؟
وهو انتهى، أو انتهى إلى حد كبير في سمات أساسية منه على الأقل، عند تلك المناسبة التي شهدت إقامة عديد من المعارض والحفلات وإصدار الكتب والأسطوانات التي أتت جميعها لتذكر بعبقرية شوبان كمؤلف موسيقي وكعازف، في مقابل التقليل من شأن حياته العاطفية. ولقد وصلت هذه القلبة إلى "الذروة" مع صدور كتاب يمكن اعتباره من أهم المؤلفات التي وضعت عن حياة شوبان وعمله على الإطلاق، وهو كتاب "شوبان، أمير الرومانطيقيين" للباحث البولندي آدم زاموفسكي، الذي يمكن القول إنه معروف كباحث في التاريخ السياسي لبولندا أكثر منه باحثاً في الجماليات الموسيقية. ولعل هذا الأمر هو الذي حرر الكتاب من ذلك البُعد الأسطوري القديم حتى وإن كان من شأن القارئ أن يتساءل هنا: ولكن المؤلف وصف الموسيقي منذ عنوان كتابه بأمير الرومانطيقيين، فما الحكاية؟ الحكاية بكل بساطة هي أن هذا الباحث الجاد الذي كان، على أية حال، قد سبق له أن أصدر نفس الدراسة، ولكن بشكل أوّلي في عام 1979، لكنه الآن أعاد النظر فيها بشكل جذري، وحرص على أن يركز في الكتاب على رومانطيقية شوبان الموسيقية، لا على رومانطيقيته الغرامية، كما سنرى بعد سطور. والفارق كبير بين الحالين.
ففي نهاية المطاف من الواضح هنا أن زاموفسكي أخذ على عاتقه أن يمعن، وبأكثر كثيراً مما كان قد فعل في النسخة القديمة من كتابه بالتالي أكثر كثيراً من أن يسكت عنه غُلاة الشوبانيين، في إبعاد بطله من حضن العجائبية الأسطورية التي وضع فيها طوال قرنين من الزمن تقريباً، إلى مكانته في تاريخ الموسيقى وتاريخ البلدين اللذين انتمى إليهما معاً بحيث إنهما "تناتشاه" بشكل أو بآخر: بولندا وفرنسا، ليؤكد أنه كان بولندياً مع أن له جذوراً فرنسية، وأن روحه وفنه وهواه كانت بولندية. وفي هذا السياق نجد المؤلف يذكرنا بما حسمه بلزاك يوماً في حديث عن الموسيقى، حيث أشار في مقارنته بين فرانتز ليست وفريدريك شوبان قائلاً: "فرانتز ليست المجري شيطان، أما شوبان البولندي فملاك"، علماً بأن ليست نفسه ما كان يذكر شوبان إلا بوصفه "هذا الفنان البولندي"!. ومهما يكن من أمر هنا، فإننا نعرف أن شوبان وُلد عام 1810 في بلدة جيلازوفا فولا في دوقية وارصوفيا، لكنه سيموت في باريس عام 1849، هو الذي بعد أن درس الموسيقى في وارسو انتقل وهو في الحادية والعشرين من عمره ليقيم في باريس بقية ما تبقى له من عمره القصير، غير ساه على أية حال عن كون أبيه نيكولا شوبان (1771 – 1844) فرنسي الأصل من بلدة مارينفيل سور مادون في منطقة الفوج، لكن شوبان الابن لم يهتم أبداً بتلك الأُبوّة، بل اعتبر نفسه دائماً بولنديا يعيش في فرنسا ككثير من البولنديين المهاجرين، ودون أن يُبالي لا بأبيه الذي غاب تماماً عن حياته، ولا بعائلة هذا الأخير.
الباحث يُجاري المبدع؟
ومن الواضح أن كتاب "شوبان، أمير الرومانطيقيين" إنما أتى ليجاري شوبان في خياراته البولندية هذه، وبالتحديد من خلال دراسة موسيقاه بوصفها تعبيراً عن التطور الكبير الذي أضفته على الإبداع البولندي نفسه، لا بوصفها جزءاً من المناخ الموسيقي الفرنسي الذي كان سائداً في فرنسا في زمنه. بكلمات أخرى، يقول المؤلف إن شوبان هو الذي أتى إلى فرنسا بكل تلك الموسيقى البولندية، بل ربما السلافية عموماً التي سوف تسهم في إحداث انقلاب أساسي في الموسيقى الفرنسية، "فبات لا بد من دراسته بعمق كإسهام من الفنان البولندي" في ذلك التطوير الذي سيشق طريقه، في باريس تحديداً من خلال التأثير الذي مارسه شوبان على تلك التيارات الموسيقية التي تتابعت في فرنسا واصلة إلى "رومانطيقية" و"انطباعية" مبدعين لا بد من تفحص سيرهم على خطاه مباشرة أو مواربة، من غابريال فوريه، وحتى إلى أوليفييه ميسيان في القرن العشرين، مروراً بكلود ديبوسي وموريس رافيل، وحتى الروسيين ألكسندر سكريابين وسيرغاي راخمانينوف، في مرحلتهما الأوروبية على الأقل، والتي يدينان بها لشوبان، في رأي الباحث البولندي المعاصر على الأقل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأثير تلك السيدة
غير أن زاموفسكي لا يحاول في ثنايا بحثه الموسيقي المعمق هذا، أن ينسى قراءه التأثير الذي كان لجورج صاند عليه، بالتالي نراه يدخل في تفاصيل العلاقة التي دامت بينهما طوال تسع سنوات، وخلالها أضافت الكاتبة إلى الرومانطيقية البولندية المتجذرة، وطنياً على الأقل في كل ما يذكر شوبان بوطنه المغدور حينها بفعل الهجوم الروسي، تلك الرومانطيقية الأخرى التي كان من المفترض أن ترتبط بالحب الذي استشعره الموسيقي الشاب تجاه الكاتبة. غير أن زاموفسكي لا يريد على أية حال أن يستخلص من تلك الرومانطيقية الثانية أية دلائل، ومن هنا نراه يتحول إلى التركيز قبل أن يتعمق في ما تعمق فيه قبله كثر من الذين كتبوا عن حكاية شوبان مع صاند، إلى التركيز على الجانب الاجتماعي في العلاقة من حيث إنه أورد من الوثائق والدلائل ما يشير إلى أن جورج صاند إنما كانت تتعامل مع شوبان وكأنه دُميتها. كأنه فنانها الخاص تمتلكه كما تمتلك السيجار الضخم الذي لا ينزل عن شفتيها، وتتولى دعوة المستمعين إلى حفلات يقيمها، أو بالأحرى تقيمها له "رغم أنفه أحياناً"، كما تقول بنفسها مفسرة كيف أنه كان دائماً يحاول تجنب تلك المناسبات الاجتماعية، ويرفض أن توزع أية ملصقات لحفلاته ويستنكف عن الموافقة على أية برامج تطبع مفصلة ما سوف يعزف في الحفلات، ناهيك بأنه، وكما قالت هي وكررت مراراً، لا يحب أن يتكلم مع أيٍّ من كان حول تلك الحفلات لا قبل ولا بعد!
شيء من الشوفينية!
"يبدو لي أنه يخشى أموراً كثيرة، ويخشاها إلى درجة أنني اقترحت عليه مرة أن يعزف دون إضاءة أية شموع، بل على بيانو خرساء ومن دون مستمعين على الإطلاق"، هكذا كتبت جورج صاند مرة في رسالة تحدثت فيها عن شوبان كفنان غريب الأطوار، لكن زاموفسكي يخبرنا هنا، ولو بشكل مهذب، أن تصرفات شوبان هذه التي تجعل جورج صاند تحس وكأنه يفلت من بين يديها، إنما نتجت عن سوء فهمها له، وسوء إدراكها أن همومه كانت في مكان آخر، وبالتحديد بالنسبة إلى الباحث في كتابه "شوبان، أمير الرومانطيقيين" في الوطن الذي تركه ولا يتخلى عن فكرة العودة إليه بشرط أن ينال الوطن حريته واستقلاله ويفلت من براثن المحتل الروسي، متأملاً بحيرة، خلاقة على أية حال، كيف كانت تتنازعه خلال المراحل الأخيرة من حياته ثلاث أمم هي فرنسا وألمانيا التي كانت خلال حقبة ما، تسيطر بدورها على المناطق البولندية التي وُلد وترعرع فيها. وبالطبع بولندا التي دائماً ما اعتبرها وطنه الحقيقي. ويُفيدنا زاموفسكي في نهاية استنتاجاته، وربما مع شيء من مُبالغة رأى فيها كُثر شوفينية مثيرة للشفقة من كاتب سياسي الهوى في نهاية الأمر، أن "قلبه وموسيقاه وكل عواطفه انتمت إليها حتى لحظاته الأخيرة".