لمدة ثلاث سنوات، كان كريم داوود يدير المسجد في بلدة صغيرة شمال غربي فرنسا، كما تولى تدريب فرق كرة قدم للأطفال وعمل لأكثر من عقدين في خدمات الشباب بالمجلس المحلي.
كان داوود من بين أولئك الذين زاروا كنيسة كاثوليكية قريبة للتعبير عن تضامنهم أعقاب هجوم مميت لمتطرف على كنيسة بجنوب فرنسا في 2020.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، منح مكتب وزارة الداخلية المحلي الرجل البالغ من العمر 46 سنة وساماً تقديراً لفترة خدمته الطويلة موظفاً حكومياً.
وبعد أيام، أغلق مكتب وزارة الداخلية المحلي المسجد لستة أشهر، قائلاً إنه يروج "لممارسة متطرفة" و"ينمي شعوراً بالكراهية تجاه فرنسا"، وفقاً لأمر الإغلاق. لكن ممثلي المسجد، الذين نفوا هذه المزاعم، يقولون إن الحكومة قدمت أدلة غير كافية حول أسباب هذا القرار.
ويعد هذا المسجد واحداً من عدد متزايد من المساجد التي أغلقها المسؤولون باستخدام مجموعة من السلطات التي يقول نشطاء حقوقيون ومنظمات دولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، ومسلمون إنها تمنح المسؤولين تفويضاً مطلقاً لإغلاق أماكن العبادة من دون تدقيق مناسب وبإجراءات مبهمة لا تعطي فرصة إلى إبطال القضية.
وقالت فيونوالا ني أولين، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحماية حقوق الإنسان في أثناء مكافحة الإرهاب، عن الإجراءات القانونية المستخدمة في مثل هذه الحالات التي يمكن أن تشمل أدلة من دون تحديد مصدرها "إنه أمر عبثي. التلاعب بالأدلة السرية أمر مثير للقلق في حد ذاته، لكنه ينتهك أيضاً أحكام المعاهدات الدولية" المتعلقة بالحق في محاكمة عادلة والمساواة أمام القانون.
ورفض قصر الإليزيه التعليق على هذه القصة. وقالت وزارة الداخلية لـ"رويترز"، إن الحكومة عززت من قدرة السلطات على منع ومكافحة الإرهاب على مدى السنوات الخمس الماضية، وإن جميع الإجراءات القانونية التي تم تبنيها "تمت في إطار الاحترام الكامل لسيادة القانون". وامتنع مكتب وزارة الداخلية المحلي عن التعليق.
وشدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تولى السلطة قبل خمس سنوات مستنداً إلى برنامج وسطي، على موقفه من القانون والنظام، وهي قضية شائكة في بلد شهد سلسلة من الهجمات المتطرفة المميتة خلال السنوات الأخيرة. ويترشح ماكرون لإعادة انتخابه هذا الأسبوع في انتخابات يواجه فيها منافسة شديدة من اليمين.
وطبق الرئيس البالغ من العمر 44 سنة مجموعة من القوانين والإجراءات التي تهدف، كما يقول، إلى التصدي للتطرف العنيف والمتطرفين الذين يتحدون القيم العلمانية لفرنسا. لكن منتقدين يقولون إن ماكرون منح سلطات ضخمة لقوات الأمن وقضى على الحماية الديمقراطية، مما جعل المسلمين عرضة للانتهاكات.
ويشعر كثيرون من المسلمين الآن أن فرنسا، وهي موطن لواحدة من كبرى الجاليات المسلمة في أوروبا، أصبحت مكاناً أكثر عدائية. وتظهر بيانات وزارة الداخلية زيادة حادة في التمييز ضد المسلمين وغيرها من التصرفات في عام 2021، حتى في الوقت الذي شهدت فيه الأديان الأخرى انخفاضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووصفت حكومة ماكرون إغلاق مسجد ألون بأنه مثال رئيس على حملتها على التشدد الإسلامي. وأغلقت السلطات الفرنسية 22 مسجداً خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، وفقاً لوزارة الداخلية، وهو ما يمثل زيادة ملحوظة على المجموع الكلي خلال السنوات الثلاث الماضية، وفقاً لمسؤول في الوزارة.
وأضافت وزارة الداخلية أن السلطات حققت في نحو 90 من أصل 2500 مكان عبادة للمسلمين في فرنسا للاشتباه في نشر أيديولوجية "انفصالية" تقول الحكومة إنها تتحدى العلمانية الفرنسية.
وفيما يتعلق بمسجد ألون، قالت وزارة الداخلية إن السلطات قدمت أدلة مفصلة للمحكمة لدعم المزاعم وإن محامي المسجد أتيحت لهم الفرصة للطعن في الأمر، لكنهم فشلوا في النهاية.
وقال مكتب المدعي العام لـ"رويترز" "إن هناك تحقيقاً قضائياً يجري حالياً بشأن ما إذا كان قادة أو أعضاء في جمعية مسجد ألون يدعون إلى الإرهاب ويحرضون على الإرهاب"، من دون تسمية أفراد. وقال مكتب المدعي العام إنه لم يتم توجيه أي اتهامات.
ويقول داوود، الذي كان رئيساً لجمعية المسجد، إنه لا علاقة له بالتطرف العنيف، سواء بشكل مباشر أو غير ذلك. وقال عن إغلاق المسجد "بالنسبة إليَّ هذا ظلم. إنها خيبة أمل كبيرة فيما يتعلق باندماجنا" بالمدينة.
وأبلغت نبيلة عثمان، المحامية التي تمثل قادة المسجد، "رويترز" بأن وزارة الداخلية لم تقدم أدلة كافية لإثبات الاتهامات الخطيرة التي وجهتها في إطار قضيتها لإغلاق المسجد، مضيفة أن قضية الحكومة استندت إلى مزاعم كاذبة وأن التحقيق لم يكن شاملاً. وقالت "لم يفشل المحامون، بل فشلت العدالة".
وأيدت أعلى محكمة إدارية في فرنسا في نوفمبر (تشرين الثاني) قرار إغلاق المسجد. وفي يناير (كانون الثاني)، أعلنت الحكومة حل جمعية المساجد، وما زالت المحكمة نفسها تنظر استئناف قادة المسجد.
وبموجب الإجراءات الإدارية، مثل تلك المستخدمة في حالة مسجد ألون، فإن الإغلاق مؤقت. لكن بعض المساجد لا تفتح أبوابها مجدداً، بحسب نشطاء حقوقيين ووزارة الداخلية. ولم تحدد الوزارة عدد المساجد التي أعيد فتحها من بين 22 مسجداً.
ويخوض ماكرون الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية يوم الأحد المقبل، ومن المقرر إجراء جولة الإعادة في 24 أبريل (نيسان) إذا لم يفز أحد بأغلبية بسيطة. وماكرون حالياً هو المرشح الأوفر حظاً في استطلاعات الرأي، لكن السباق قد يكون متقارباً.
مذكرة بيضاء
في أكتوبر 2017، بعد خمسة أشهر من تولي ماكرون الرئاسة، أقر البرلمان الفرنسي قانوناً جديداً لمكافحة الإرهاب عزز سلطات الشرطة في المراقبة وسهل إغلاق المساجد التي يشتبه في أنها تدعو إلى الكراهية، مع رقابة قضائية محدودة. وحل هذا القانون محل حالة الطوارئ التي كانت مفروضة في أواخر عام 2015 بعد أن قتل متشددون 130 شخصاً في هجمات منسقة بأنحاء باريس.
وقال ماكرون حينها إن "الإرهاب المتطرف" ما زال يمثل أكبر تهديد أمني لفرنسا.
وبموجب قانون 2017، تتمتع وزارة الداخلية بصلاحية إغلاق أماكن العبادة لمدة تصل إلى ستة أشهر إذا كانت هناك شكوك في أنها تستخدم للترويج لخطاب الكراهية أو التحريض على العنف أو إثارة أعمال عنف متطرف أو تبرير أعمال إرهابية. ويمكن للمواقع الدينية الطعن في قرارات الإغلاق أمام المحاكم الإدارية الفرنسية، التي تفصل في النزاعات بين المواطنين والهيئات العامة. وفي المعتاد لا تتطلب القضايا المنظورة أمام المحاكم الإدارية استدعاء شهود.
وفي ألون الواقعة في ضواحي لومان، كان المسجد طيلة العقد الماضي قائماً في مبنى حديث منخفض الارتفاع. وبحسب داوود، اعتاد نحو 250 شخصاً الصلاة في المسجد.
وفي 11 أكتوبر 2021، أبلغ مكتب وزارة الداخلية المحلي القادة بخطط إغلاق المسجد، وهو ما حدث بعد أسبوعين.
وسلط وزير الداخلية جيرالد دارمانان الضوء على تحرك الحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي. وقال في تغريدة على "تويتر" في 26 أكتوبر "الخطب التي ألقيت في هذا المسجد شرعت على الأخص استخدام التطرف المسلح مع غرس الشعور بالكراهية تجاه فرنسا".
وسعى قادة المساجد للطعن على هذه الخطوة. وتم وضع قضية الحكومة الفرنسية في وثيقة من 20 صفحة تسمى "مذكرة بيضاء"، ويظهر طابع زمني على الوثيقة أنها قدمت إلى المحكمة الإدارية في نانت في الأمسية التي سبقت جلسة 29 أكتوبر.
والمذكرة البيضاء هي وثيقة من إعداد أجهزة الاستخبارات الفرنسية واستخدمت أساساً لإغلاق مسجد ألون. ولا تحدد الوثيقة، التي ليست متاحة للجمهور ولكن "رويترز" اطلعت عليها، متى تم جمعها وعن طريق من أو من أين جاءت المعلومات، كما هو الحال مع المذكرات البيضاء في المعتاد.
وتزعم المذكرة أن أربعة أشخاص مرتبطين بالمسجد، بينهم داوود وقائد آخر للمسجد، أعربوا عن تعاطفهم بين سبتمبر (أيلول) 2020 وأبريل 2021 مع هجومين مختلفين لمتطرفين في فرنسا.
كما تضم المذكرة البيضاء خمسة كتب عثر عليها في المسجد وتمت الإشارة إليها باعتبارها "متطرفة". ووفقاً لداوود ريفي، الذي يقوم بتدريس الدراسات الإسلامية في معهد ليل للدراسات السياسية، فإن أربعة من هذه الكتب متوفرة على نطاق واسع في المكتبات المتخصصة وعلى الإنترنت. والكتاب الآخر هو "رياض الصالحين"، وهو كتاب من القرن الثالث عشر موجود بالمكتبة الوطنية الفرنسية.
كما زعمت الحكومة في المذكرة البيضاء أن الدعاة أخبروا المصلين أن فرنسا بلد فاسد سيعاقبه الله، وأنهم يمجدون التطرف المسلح، وأن بعض المصلين سمعوا وهم يدعون إلى العنف، من دون تحديد من سمع المصلين يقولون ذلك.
وقال داوود لـ"رويترز"، "إن قضية الحكومة تسيء تفسير مصطلح (الجهاد) الذي يمكن أن يعني القتال المسلح لكنه كثيراً ما يستخدم للإشارة إلى الجهاد الأكبر، وهو ما يعني النضال السلمي من أجل تحسين الذات".
وقدم داوود شكوى إلى مكتب المدعي العام في ديسمبر (كانون الأول) زاعماً أن أياً كان من قدم المعلومات إلى السلطات فهو مذنب بالافتراء لاتهامه زوراً بالترويج للتطرف المسلح. ونفى داوود في الشكوى التي اطلعت عليها "رويترز" أي صلة له بالإرهاب.
وقال القس جريجوار كادور، الذي خدم لأربع سنوات في الكنيسة الكاثوليكية التي تبعد عشر دقائق سيراً على الأقدام من المسجد، إنه لا يستطيع تقبل المزاعم الموجهة إلى قادة المسجد الذين يعرفهم. وقال القس، الذي انتقل إلى إبرشية أخرى العام الماضي "هذه الاتهامات مفاجأة كاملة بالنسبة إليَّ".
وتحدثت "رويترز" إلى أكثر من 12 من مرتادي المسجد وسكان محليين آخرين قالوا إن قادة وأئمة المسجد عبروا على ما يبدو عن آراء متسامحة وإنهم لم يسمعوهم يستخدمون خطاب كراهية.
طعن المحكمة
في جلسة المحكمة 29 أكتوبر، قالت نبيلة عثمان، وهي المحامية التي تمثل قادة المسجد، إن المزاعم لا أساس لها وإن الإغلاق ينتهك حقوقهم في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، وفقاً لحكم القاضي المؤرخ في اليوم نفسه.
وأبلغت "رويترز" أن الجلسة استمرت أقل من ساعة ولم يتم استدعاء شهود ولم يتم تقديم أدلة إضافية بخلاف المذكرة البيضاء.
ورفض القاضي الطعن على أساس أن المذكرة البيضاء تبرر الإغلاق، بحسب الحكم. ولا تحدد الوثيقة هوية القاضي.
وبعد ذلك رفع قادة المسجد القضية إلى مجلس الدولة، وهو أعلى محكمة إدارية في فرنسا. وخلال جلسة عقدت في 26 نوفمبر واستغرقت أقل من ساعتين وحضرتها "رويترز"، قالت الممثلة القانونية لوزارة الداخلية باسكال ليجليز إن المذكرة البيضاء تمثل "كلمة الدولة" ولذلك فهي دليل كافٍ. ولم يتم استدعاء شهود.
وقال وليام بوردون، وهو محامٍ آخر يمثل قادة المسجد، في الجلسة "نحن في حالة من الضعف التام. لأن المذكرات البيضاء تحتوي أحياناً على تزييف حقيقي للحقيقة، وهو ما لا يمكننا الطعن عليه". واستشهد بقضية عام 2016 قرر فيها مجلس الدولة أن المذكرة البيضاء لا تشكل دليلاً كافياً.
ورفضت المحكمة استئناف المسجد على أساس أن المذكرة البيضاء قدمت أدلة كافية على قرار السلطات وأن الإغلاق لا يتعدى على الحريات الدينية، بحسب الحكم. وامتنع المتحدث باسم مجلس الدولة عن التعليق. ولم ترد ليجليز أيضاً على طلبات للتعليق.
وأصبح مسجد ألون خالياً الآن، ونشرت نسخة من أمر الإغلاق على أبوابه.
وقالت مريم جاسنييه (63 سنة) إنها كانت تشارك النساء الأخريات الصلاة والوجبات كل يوم جمعة في المسجد الذي يبعد ثلاث دقائق سيراً على الأقدام من شقتها. والآن بعد أن تم إغلاقه، قالت إنها وصديقاتها حرمن من مركز اجتماعي.
وقالت نجية زروال إن ابنتيها اللتين تبلغان من العمر 14 و12 سنة أخذتا دروساً في اللغة العربية مرتين في الأسبوع بالمسجد، لكن هذه الدروس توقفت الآن. وقالت "إذا كان هناك أشخاص يدعون إلى أفكار متطرفة، فيجب التعامل معهم. لكن لا يجب معاقبة الصغار".
وتنتهي صلاحية أمر الإغلاق في 25 أبريل. وفي الوقت الحالي، يحاول بعض المسلمين في ألون تشكيل جمعية جديدة لكن داوود يقول إنه لن يتدخل.
وتم تجميد الأصول الشخصية لداوود منذ أكتوبر بأمر إداري صادر من الحكومة، بناء على الأسباب نفسها لغلق المسجد. وما زال داوود يشغل الوظيفة نفسها في خدمات الشباب بالمدينة، لكن ليس لديه وصول مباشر إلى حسابه المصرفي. وقال إن فواتير المنزل يتم دفعها تلقائياً من حسابه، أما بالنسبة إلى جميع النفقات الأخرى، فإن عليه الحصول على بدل شهري قدره 500 يورو نقداً. وقال "كل شيء يتم لإذلالنا".