مع اقتراب موعد أذان المغرب، يُهاتف أيوب رزق (45 سنة) زوجته وأبناءه السبعة بالصوت والصورة ليشارك معهم مائدة الإفطار في رمضان، على رغم أن منزله لا يبعد عن المزرعة التي يعمل بها داخل إسرائيل سوى كيلومترات قليلة، لكنه حرم من لقاء عائلته حتى إشعار آخر، فالحكومة الإسرائيلية، وبعد سلسلة من العمليات التي نفذها فلسطينيون داخل إسرائيل وأسفرت عن مقتل 13 إسرائيلياً، تأهبت أمنياً لأقصى الدرجات، وأعلنت بعد عملية بني براك، التي نفذها فلسطيني، نهاية مارس (آذار) الماضي، أنها ستشدد قبضتها الحديدية على كل الثقوب والثغرات في السياج الأمني وجدار الضم والتوسع، وعند خطوط التماس مع الضفة الغربية، بعدما تبين لها أن منفذ العملية، الذي قتل خمسة إسرائيليين، ترك منزله في قرية يعبد قرب جنين بالضفة الغربية، مسلحاً ببندقية من طراز M-16 وقاد مركبة عبر بوابة زراعية تركت مفتوحة أمام المزارعين الفلسطينيين للوصول إلى الحقول على الجانب الغربي من الجدار، ثم توجه إلى مدينة بني براك الحريدية بوسط إسرائيل، وهي ذات البوابة التي مكنت رزق كما الآلاف من العمال الفلسطينيين من عبور الخط الأخضر بطرق غير قانونية، ومن دون تصريح رسمي، بحثاً عن عمل يوفر لهم لقمة عيش، متجنّبين بذلك عقبات عدّة، كتصاريح العمل التي تكلّفهم مبالغ باهظة، والأزمات اليوميّة والتفتيش على الحواجز.
تطوير الرقابة
على إثر ذلك، طالب الجيش الحكومة الإسرائيلية، بميزانية تُقدَّر بمليار شيكل (313 مليون دولار) لسدّ الثغرات وتطوير الرقابة وتقوية الجدار الإسمنتي والسياج الأمني الفاصل بين إسرائيل والضفة الغربية. ووفقاً لمركز الكنيست للأبحاث والمعلومات حول مخطط مسار الجدار، والبالغ 708 كيلومترات، فقد تم إنجاز 62 في المئة منه فقط حتى عام 2022، ويُقدر المركز أن الجدار كلف الحكومة الإسرائيلية حوالى 9 مليارات شيكل (2.8 مليار دولار).
وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، قال، خلال مقابلة مع موقع "واينت" الإخباري، إن "الجيش الإسرائيلي لم يعط الأولوية لحراسة السياج، بل مناطق أخرى يكون فيها عامل الخطر أعلى بكثير وحرية التصرف أقل بكثير، ومع ذلك، نعيد هذه الأيام النظر في قضية السياج برمتها، وسنحاول البدء بـإصلاح الجدار، على مراحل، وفقاً لقائمة الأولويات. لكن هناك العديد من التهديدات الأخرى التي ينبغي على إسرائيل، وينبغي عليّ، التعامل معها"
تُنمّي الخطوة التي أقدمت عليها إسرائيل، كما يرى مراقبون، المخاوف إزاء احتمال أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع نسبة البطالة في الضفة، وزيادة تردّي الحالة الاقتصادية، وبخاصّة أنها تأتي بالتزامن مع شهر رمضان والأعياد، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، وأسعار الطاقة، عالمياً. إذ أظهرت معطيات تقرير رسمي صدر حديثاً عن مركز الإحصاء الفلسطيني، أن نسبة البطالة في فلسطين، بلغت 26 في المئة، فيما وصل عدد العاطلين من العمل (15 سنة فأكثر) إلى 372 ألف شخص في 2021 بواقع 230 ألف شخص في قطاع غزة، و142 ألفاً في الضفة الغربية.
المحلل الاقتصادي نصر عبد الكريم يقول، لـ"اندبندنت عربية"، "عندما تجد إسرائيل نفسها في مأزق فستضع لا محالة الاعتبار الأمني والعسكري واللوجستي ومراقبة الحدود فوق كل اعتبار، ولن تكترث بأي حال من الأحوال بأوضاع العمال الفلسطينيين، ولا التأثير الاقتصادي لهم في قطاع المقاولات والزراعة، فعند الأولوية الأمنية للإسرائيليين يسقط كل شيء، لكن الحكومة الإسرائيلية تدرك أن عليها إدارة الأزمة وافتعال توازن يصب في مصلحتها الأمنية، فهم يدركون أولاً أن العمال لا يشكلون أي خطر حقيقي، وأن هناك أضراراً بالغة من منعهم الدخول للعمل في إسرائيل، لأن الفقر والبطالة التي ستطاول الآلاف من العمال والشباب ستزيد من صعوبة الحياة والأعباء الاقتصادية المزرية عليهم، وستمنعهم من الإيفاء بالتزاماتهم الحياتية المختلفة، بخاصة أن السلطة الفلسطينية في أزمة وعجز مالي غير مسبوق، ما سيزيد من المتاعب الأمنية ويزعزع الهدوء ويؤثر في الاستقرار، بالتالي فإن خطوة إغلاق الفتحات بوجه العمال، وحرمانهم من العمل، بمثابة سياسة كسر عظم".
صمام أمان
خلال السنوات الأخيرة، شكلت ثغرات الجدار، أو ما يعرف فلسطينياً باسم "الفتحات"، التي تزيد على 130 من شمال الضفة إلى جنوبها، متنفَّساً لآلاف العمال الذي كانوا يعبرون من خلالها إلى داخل الخط الأخضر، فيما يختار عمّال آخرون من مناطق بعيدة البقاء في أماكن عملهم، والمبيت في الورشات، ثمّ العودة إلى عائلاتهم عند نهاية كلّ أسبوع، أو كلّ شهر، ويحصل الفلسطينيون العاملون في إسرائيل، حتى أولئك الذين يعملون بشكل غير قانوني، على أجور أعلى بكثير من تلك التي يحصلون عليها في الضفة الغربية، بالتالي فهم عنصر مؤثر في الحفاظ على تماسك الاقتصاد الفلسطيني المتعثر غالباً. إذ يتقاضى عامل البناء الفلسطيني داخل إسرائيل أو في المستوطنات، بين 70 إلى 150 دولاراً يومياً، مقابل حوالى 20- 30 دولاراً في سوق العمل الفلسطيني، بحسب ما ذكر عمال لـ"اندبندنت عربية". وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن هناك ما بين 40 و50 ألفاً يدخلون عبر ثغرات الجدار، وهم ممن تم رفض منحهم تصاريح عمل.
يعتقد بعض الخبراء في إسرائيل، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أنه بمجرد أن تهدأ التوترات، ستعود الحكومة الإسرائيلية إلى سياستها غير المعلنة بترك الجدار الفاصل وثغراته من دون حراسة إلى حد كبير، واستخدامه كصمام رئيس لتحرير الضغط الاقتصادي في الضفة الغربية. يقول الكاتب والمحلل في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ناحوم برنياع، "لماذا يطالب الجيش بهذا المبلغ لتطوير الجدار وسد الثغرات وهو الذي دفع بسياسة فتح الثغرات في الجدار للتخفيف من الأزمة الاقتصادية والتوتر في الضفة الغربية، وهي السياسة التي سيطالب بها لاحقاً للتخفيف من الاحتقان في الضفة؟".
خلاف سياسي
ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، الأحد، أن هناك خلافات بين الجيش الإسرائيلي من جهة، وجهاز الأمن العام "الشاباك" من جهة أخرى، حول تسهيل شروط حصول الفلسطينيين على تصاريح عمل داخل إسرائيل، فالجيش، بحسب الصحيفة، هو من بادر بهذا الاقتراح، بهدف زيادة عدد الفلسطينيين الذين يمكنهم العمل "بشكل قانوني"، ولتقليل أعداد العمال الذين يدخلون من دون تصاريح من خلال ثغرات الجدار وغيرها، إذ سيقلل ذلك، بحسب الجيش، من معدل البطالة ويزيد من تحسين الوضع الاقتصادي، ويقلل فرص انضمام مزيد من الفلسطينيين إلى الفصائل أو السعي لتنفيذ هجمات، في حين أن جهاز الشاباك يعارض مثل هذه الخطوة، ويعتبر أنها قد تزيد من عدد العمليات داخل إسرائيل، ولفتت الصحيفة إلى أن القرار حالياً بيد المستوى السياسي الذي سينظر في القضية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
درور إتكس، الذي يدير منظمة "كيرم نافوت" الإسرائيلية (غير ربحية) يقول، "كانت السياسة الإسرائيلية غير المعلنة هي السماح لأكبر عدد ممكن من العمال الفلسطينيين بدخول إسرائيل لتجنب المصاعب الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي إلى اليأس وخلق منفذي هجمات. ستبقى الثغرات، التي ستتغاضى عنها إسرائيل ضمناً، ما لم تبدأ انتفاضة ثالثة غداً".
وسائل إعلام إسرائيلية أشارت إلى أن التوترات المتزايدة دفعت المسؤولين لمواصلة السماح للعمال الفلسطينيين الذين يحملون تصاريح قانونية بدخول إسرائيل وحتى زيادة عدد التصاريح الممنوحة، في مواجهة غضب المستوطنيين الذين يفضلون الإجراءات العقابية والحملات الأمنية رداً على العمليات الأخيرة. وقال رئيس مكتب تنسيق أعمال الحكومة في الضفة الغربية، غسان عليان، في بيان، إن "هذا الإجراء سيعزز الاقتصاد الإسرائيلي والفلسطيني، ويساهم بشكل كبير في الاستقرار الأمني بمنطقة يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، إن الاستقرار الاقتصادي هو مفتاح الحفاظ على الأمن في المنطقة".
من الشروط التي يسعى الجيش الإسرائيلي لتغييرها، ما ينص على أن الموافقة للحصول على تصاريح عمل يشترط أن تكون للمتزوجين الذين تزيد أعمارهم على 21 سنة، ويرى أن هناك عشرات الآلاف من الشبان الفلسطينيين غير المتزوجين يجدون صعوبة في كسب لقمة العيش، لذلك لا بد من زيادة الحد الأدنى للسن إلى 22 سنة، وإلغاء شرط أن يكون متزوجاً، وهذا سيقلل، بحسب ما جاء في "هارتس"، عدد المرفوضين، وقد يؤدي إلى تهدئة الأوضاع، وعدم انضمام أولئك الشبان إلى المنظمات الفلسطينية.
الرئيس السابق لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي، غادي إيزنكوت، طالب بتحديث إجراءات الحصول على تصاريح، وفرض عقوبات أكثر شدة على أماكن العمل الإسرائيلية التي توظف عمالاً فلسطينيين بصورة غير قانونية. وقال لوسائل إعلام إسرائيلية، "علينا خلق توازن بين احتياجات الاقتصاد والفلسطينيين ومتطلباتنا الأمنية".
محرك اقتصادي
بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، فإن عدد العمال غير الحاصلين على تصاريح في إسرائيل يزيد على 39 ألفاً، لكن اتحاد نقابات العمال الفلسطينيين يرجح أن العدد ما بين 75 و85 ألف عامل شهرياً يعملون داخل الخط الأخضر من دون تصاريح عمل رسمية، تحت مسميات مختلفة كتصاريح الجدار، والبحث عن العمل، والزيارة. إضافة إلى من يدخلون بالتهريب، ومن يدخلون بتصاريح إسرائيلية قانونية، وهو ما يعني أن عدد من يعملون فعلياً داخل إسرائيل شهرياً يتراوح ما بين 150 و180 ألف عامل ما بين قانوني وغير قانوني.
ويعتبر دخل العمال مصدراً مهماً لتمويل الاقتصاد الفلسطيني، الذي تضرر بسبب المساعدات الدولية المتناقصة، والتي كانت تشكل جزءاً كبيراً من ميزانية السلطة الفلسطينية، فالاتحاد الأوروبي والدول العربية قطعت التبرعات من أكثر من مليار دولار سنوياً إلى أقل من 200 مليون، بسبب أزمة كورونا.
أمين عام اتحاد نقابات عمال فلسطين، شاهر سعد، يقول" قد يواجه العمال الذين لم يتمكنوا من إصدار تصاريح الاعتقال أو الحجز لأكثر من 20 ساعة مكبلي الأيدي في البرد أو تحت أشعة الشمس، إضافة إلى تغريمهم مبالغ كبيرة، وتوثيق اسمهم كمخالفين، بالتالي حرمانهم من التصريح مستقبلاً، وأكثر ما يهدد العمال، بخاصة من غير حملة التصاريح، حرمانهم من أية حقوق مادية في نهاية الخدمة، أو الأتعاب، أو تعويضهم عن أية أضرار قد تصيبهم، فضلاً عن عدم مساواتهم في الأجر مع العمال الآخرين، علاوة عن النصب والاحتيال الذي يمارسه سماسرة التصاريح بحقهم مستغلين ظروفهم المادية الصعبة، وعلى الرغم من كل ذلك، لا يزال العمال يتوجهون إلى فتحات التهريب، ويحاولون مراراً وتكراراً على رغم كل المخاطر والرصاص والتهديدات، بحثاً عن مصدر رزق يبعدهم عن جيش البطالة".
يضيف سعد، "وزير الجيش الإسرائيلي أصدر أخيراً سلسلة إجراءات عقابية بحق سكان مدينة جنين شمال الضفة الغربية، شملت منع دخول التجار وكبار رجال الأعمال إلى إسرائيل، وتسبب هذا القرار في خسائر لا تقل عن 37 مليون دولار، خصوصاً من قبل العمال الذين اشتروا تصاريح عمل من سماسرة بقيمة تتراوح من 600 إلى 1000 دولار، وممنوعون حالياً من العمل في إسرائيل".
إجراءات فعلية
في منتصف مارس (آذار) الماضي، طالب اتحاد العمال الفلسطينيين بعثة منظمة العمل الدولية "بضرورة اتخاذ إجراءات فعلية لمساعدة العمال داخل إسرائيل الذين يتعرضون لانتهاكات، بخاصة أن وفد تقصي الحقائق المبعوث من منظمة العمل الدولية له أهمية كبيرة، لأنه سيعرض تقريره على مدير عام المنظمة، جي رايدر، في مؤتمر العمل الدولي المقبل، بداية يونيو (حزيران) في قصر الأمم المتحدة بجنيف. كما طالب الاتحاد منظمة العمل الدولية بالمساعدة لإيجاد قانون عمل عصري يتواءم مع اتفاقيات العمل الدولية، التي ينظر إليها العمال في فلسطين على أنها الطريق للعدالة والمساواة مع كل عمال العالم.
بدوره، قال كبير مستشاري سياسة المعايير بمنظمة العمل الدولية، تيم دي ماير، "إن زيارة فلسطين تهدف لإعداد تقرير للمجتمع الدولي حول أوضاع العمال في فلسطين"، مؤكداً أنه لا بد من حل لمعاناة العمال الفلسطينيين داخل إسرائيل. وتشير بيانات اتحاد النقابات، إلى أن 40 عاملاً فلسطينياً لقوا حتفهم داخل إسرائيل منذ بداية العام الجاري بسبب حوادث العمل، فيما قضى 62 عاملاً عام 2020، و73 آخرين في 2019 لأسباب كثيرة أهمها، بحسب الاتحاد، عدم توافر أدوات السلامة والظروف الملائمة من مشغلهم الإسرائيلي.