قد لا يكون قراراً عادياً وخاضعاً للسياقات الإدارية، أن يعمد النظام الإيراني تغيير سفيره لدى بغداد في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة. فالتوقيت والأحداث التي شهدتها الساحة العراقية منذ مطلع عام 2020، تاريخ اغتيال قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري الإيراني" قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد، يدفع إلى الاعتقاد بأن طهران بدأت تلمس بجدية صعوبة ما تواجهه في التعامل مع التطورات السياسية والشعبية على الساحة العراقية. ما يفرض عليها البحث عن مخارج جدية وعملية تساعد في حلحلة هذه العقد والتخفيف من الآثار والتداعيات السلبية على موقعها ودورها في هذا البلد.
فمنذ الغزو الأميركي للعراق وسقوط النظام السابق، تعامل النظام الإيراني مع الساحة العراقية باعتبارها جزءاً من الأمن القومي الإيراني ومصدرَ تهديد محتمل، خصوصاً بعد أن استطاعت الولايات المتحدة الأميركية تكريس وجودها العسكري بشكل كبير وقتالي، وضع إيران ونظامها بين فكي كماشة بدأت من الشرق في أفغانستان عام 2001 بقوات تجاوز عديدها نحو 150 ألف جندي، ثم عززتها بقوات تجاوزت أعدادها 170 ألف جندي في الجنوب والغرب بعد احتلال العراق عام 2003.
هذا الوجود القتالي الأميركي فرض على النظام في طهران التعامل معه من منطلق التهديد الذي يشكله لاستقراره وبقائه، خصوصاً أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن ذهب إلى خيار التصعيد مع إيران بإدراجها في محور الشر والعودة إلى استراتيجية تغيير النظام في طهران.
من هذا المنطلق، كان الخيار الإيراني باعتماد "دبلوماسية العسكر"، أي مصادرة دور وزارة الخارجية والإدارة الدبلوماسية في هذين البلدين وتسليمها إلى شخصيات عسكرية، لم تستطع نزع الزي العسكري عند توليها منصب السفير في كل من كابول وبغداد. ما جعل هاتين الساحتين والسفارتين الإيرانيتين تخضعان مباشرة لإشراف "فيلق القدس" بما يمثله من ذراع العمل الخارجي للنظام في المنطقة. وكان سليماني هو الجهة التي ترسم السياسات الإيرانية من دون التنسيق مع الخارجية التي كانت مجبرة على التعامل مع نتائج تلك السياسات.
هذا التعامل لم يختلف مع القائد الجديد لـ"فيلق القدس" إسماعيل قاآني، الذي كان المشرف على الساحة الأفغانية في مرحلة وجود سليماني على رأس هذه القوة، مع اختلاف منهجي واضح يرتبط بتوزيع المهمات بين البعدين العسكري والسياسي، أو بين الميدان والدبلوماسية، إذ أعطى مساحة أوسع لدور وزارة الخارجية تحت إشرافه، لكن في خدمة البعد العسكري الذي ازداد صرامة ومن دون مراعاة للدبلوماسية في الأعمال والخطوات التي يقوم بها، إذ احتفظ بإيقاع الميدان الطاغي على الدبلوماسية. وهي سياسات وجدت ترجمتها في الضربات الصاروخية التي استهدفت مدينة أربيل مركز إقليم كردستان، وفي التصعيد الحوثي ضد السعودية قبل الدخول في الهدنة الأخيرة.
قرار التخلي عن أريج مسجدي سفيراً لإيران في العراق، وعلى الرغم من الموقع الذي شغله (قبل السفارة) كمساعد لسليماني في "فيلق القدس"، واستبداله بضابط آخر هو محمد كاظم آل صادق من هذه القوة ومن الفريق الذي عمل مبكراً في الساحة العراقية كونه من مواليد مدينة النجف، ويدرك الحساسيات العراقية والتجربة الطويلة في التعامل مع الجماعات العراقية بمختلف انتماءاتها المذهبية والعرقية والقومية، يعني استمرار إمساك "الحرس الثوري" بالقرار الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عما يمثله هذا القرار من محاولة قاآني إعادة ترميم القبضة الإيرانية على التطورات العراقية بعد أن أُصيبت بكثير من الصدمات والتضعضع نتيجة تراكم الأخطاء التي لا تقتصر على عمل السفير السابق، بل تمتد إلى عهد سلفه سليماني الذي ترك له إرثاً صعباً ومقعداً من التسويات والأزمات انهارت مع اغتياله، خصوصاً بعد أن لمست القيادات العراقية، الموالية والمعارضة للدور والنفوذ الإيرانيين، تغييراً في النهج وأسلوب التعامل بينه وبين سلفه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبات لافتاً الحراك الذي يقوم به وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في اتجاه نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، لجهة عدد الزيارات المتلاحقة إلى طهران واللقاءات على هامش الاجتماعات الدولية بينهما. إلا أن ذلك لم يرفع التعاطي الإيراني مع الساحة العراقية إلى المستوى الدبلوماسي المحض. إذ لا يزال الدور المنوط بوزارة الخارجية خاضعاً لما تقرره الغرف الخاصة المعنية بالقرار الاستراتيجي بناء على موقف قائد "فيلق القدس" ومعه قادة "الحرس الثوري".
وهنا يشكل الدور المعطى للدبلوماسية، والتعاطي الإيجابي مع مساعي الوزير العراقي في تفعيل الجهود المبذولة لإعادة إحياء مسار الحوار الثنائي الإيراني - السعودي الذي استضافته بغداد في الأشهر الماضية، والسعي لعقد الجولة الخامسة، مجرد دور وظيفي لنقل موقف النظام وتمهيد الأرضية مستقبلاً لترجمتها على المستوى السياسي في اللحظة التي يقرر "الميدان" إعطاء الضوء الأخضر لبلورتها عملياً، خصوصاً أن قيادة النظام ومعها مؤسسة "الحرس الثوري" لا تنظران أو تتعاملان مع جهود الوزيرين الإيراني والعراقي بأنها قادرة على اتخاذ الخطوة الحاسمة أو القرار الملزم في ما يتعلق بمسار الحوار مع الرياض، أو في ما يتعلق بتطورات الساحة العراقية.
ولعل المؤشر على شكلية وهامشية الدور الذي يوليه النظام الإيراني للدبلوماسية، هو الزيارة التي يقوم بها الضباط في "فيلق القدس" والسفير الأسبق في العراق حسن دانائي، فر إلى أربيل لإجراء مفاوضات مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني لإيجاد مخارج وحلول لأزمة الحكم في بغداد، بما فيها انتخاب رئيس جديد للجمهورية واختيار رئيس الوزراء. وما يعنيه ويستدعيه ذلك من محاولة إقناع المكون الكردي للعب دور مساعد في تليين موقف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وأزمة الانقسام داخل البيت الشيعي بين التيار الصدري والإطار التنسيقي.
سيطرة قوة "الميدان" على "الدبلوماسية" ما زالت قائمة وواضحة في التعامل مع التطورات العراقية خصوصاً والإقليمية عموماً. وهي تظهر واضحة في خطوة استبدال السفير الضابط بآخر جديد، وتكليف ضابط غيرهما بالتفاوض مع القوى العراقية بعيداً من وزارة الخارجية. وهو توجه قد يكون مدفوعاً بالمعضلة التي تواجهها المفاوضات النووية التي وصلت إلى عقدة التمسك الإيراني بمطلب إخراج "الحرس الثوري" من لائحة العقوبات والإرهاب، وهي العقدة التي أدخلت المفاوضات في سباق قد يطول، ووضعتها في حالة المراوحة، مع استمرار سيطرة العقلية الأمنية في التعامل مع الحدث العراقي.