يُعدّ أبو عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي (781-847 م) من كبار الفلاسفة والعلماء العرب المسلمين، وقد اختط لنفسه مساراً معرفياً فريداً في عصره، وترك آثاراً مهمة في حقول علمية وفلسفية شتى، شغلت المعارك الفكرية طوال عصور، وتعاقبت عليها أجيال لاحقة من العلماء والفلاسفة. ولد الخوارزمي في تاريفي مدينة خوارزم من أعمال إقليم خراسان الإسلامي، والقائم حالياً في أوزبكستان، ولم تشأ عائلته ذات السعة والعلم إلّا الإقامة في بغداد، مركز الخلافة العباسية ومنارة للعلم والحضارة في حينه، ترسل إشعاعها ليطاول الشرق والغرب، وتبذر في الأرض بذور النهضة العلمية الشاملة، زمن الأنوار في أوروبا.
إذاً، نشأ أبو عبدالله في بغداد، وتعلّم في كتاتيبها، ونهل من نوابغ عصره وعلمائه، واستقرت به مسيرته البحثية والعلمية في دار الحكمة، إبان عهد المأمون، نصير العلم والعلماء، ومشجع المترجمين على نقل التراث العلمي والفلسفي القديم، يونانياً كان أو سريانياً، أو هندياً، أو لاتينياً، أو عبرياً، أو قبطياً، أو غيره إلى اللغة العربية، ودفع لقاء ترجمته ذهباً. وحدث أن كلّفه الخليفة المأمون ترجمة الأعمال العلمية إلى العربية، لمّا رأى فيه من الخصال والمعرفة العميقة باللغة اليونانية والعبرية والفارسية، إضافة إلى رسوخه في اللغة العربية، ما كان يؤهّله لذاك المقام.
"مفاتيح العلوم"
ولم يكُن مستغرباً أن يستهل الفيلسوف عمله الفكري والعلمي بوضع كتاب "مفاتيح العلوم" وفيه تعريف بالعلوم التي ينبغي تعليمها للناشئة. وخير تقديم لها هو وضع تعريفات أوّلية لكل منها لئلا تختلط على الدارس والقارئ، فكان الكتاب كناية عن "تحصيل الواسطة بين الطرفين (الجمهور والكتّاب)، للتعرف إلى "الاصطلاحات" (المصطلحات) التي يتكوّن منها كل علم على حدة. وقد مضى الخوارزمي بتعليميته التبسيطية حدّاً دفعه إلى تبيين ضرورة الأخذ بالدلالات الاصطلاحية للكلمات في كل علم، من خلال المثال الآتي الدالّ على أن للكلمة الواحدة "وتد" دلالتين مختلفتين، تبعاً لاندراجها في سياق أحد العلمَيْن:
"الوتد عند اللغويين (أحد أوتاد البيت والجبل)، والوتد عند المنجّمين، أحد الأوتاد الأربعة: الطالع والغارب ووسط السماء ووتد الأرض".
وعلى هذا النحو، جعل الخوارزمي كتابه أبواباً، خصّ كلاً منها بعلم من العلوم، من مثل: الفقه والأديان وعلم اللغة واصطلاحات البريد والمكاييل وكتابة الرسائل الديوانية وفي الشعر والعروض ونقد الشعر والأخبار والفلسفة والطبّ والأغذية والأدوية والأريتماطيقي (الحساب) والهندسة والخطوط وعلم النجوم وغيرها.
علم الجغرافيا
وكان إنجازه الثاني في علم الجغرافيا، إذ عمد في كتابه "كتاب صورة الأرض من المدن والجبال والبحار والجزائر والأنهار" إلى تحديد عدد كبير من المناطق الجغرافية التي لم تكُن معروفة في العالم القديم، وعيّنها برسوم، وأدخل فيها المسطحات المائية أو الجبلية أو غيرها، وأدرج معها الأقاليم المناخية التي تنضوي فيها، وعيّن خطوط الطول وخطوط العرض الواقعة فيها هذه المناطق، حتى بلغت هذه الأخيرة حوالى 2400 منطقة. وأعانه في تحقيق كل هذه الرسوم والتدقيق في صحتها 70 عالماً. واستغرق إنجاز الكتاب سنوات بطولها انتهت عام 833م. وبلغ الخوارزمي في منهجيته العلمية حدّاً جعله يصحح كثيراً من مغالطات أبي الجغرافيا اليوناني بطليموس، بأن أعاد ضبط الإحداثيات لكل المناطق الواردة في أطلسه ضبطاً دقيقاً.
أما الرياضيات، فأحرز فيها قصب السبق، إذ كان له الفضل الأول في استعمال الصفر (.) في الأرقام الهندية تيسيراً للعمليات الحسابية المعقدة، ويُعدّ هذا الإنجاز مدخلاً إلى تطوّر علم الرياضيات في الغرب، حيث تُرجم الكتاب إلى اللاتينية في القرن العاشر ميلادي، ومنها إلى سائر اللغات الأوروبية. والأهم من ذلك كله أنه صاحب الفضل في تيسير عمليات الجبر، من خلال كتابه "الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، وفيه أمكن الخوارزمي من اختزال عدد من العمليات الحسابية المتصلة بالميراث والتعاملات التجارية ومساحات الأراضي وغيرها. ويمكن إعطاء مثال على ذلك:
4x2 -5x+5x+7=15+5x
4x2+7=15+5x
اختزالهما في المعادلة الآتية:
4x2=8+5x
أيّاً يكُن من أمر هذه المعادلات الخوارزمية التي عرفها الغرب، وأدخلها إلى صلب الرياضيات، فإنها لم تيسّر العمليات الحسابية فحسب، بحيث يمكن اعتبار الخوارزمي أباً للجبر (والمقابلة)، وإنما تعدّى فضل مبتكرها الخوارزمي، إلى تأسيس مجال للرياضيات أوسع بكثير، وأكثر دقّة ونفاذاً، حتى يذهب البعض إلى القول إنه أحد مؤسسي الحاسوب المعاصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ما خصّ علم الفلك، وضع الخوارزمي ثبتاً بالجداول الفلكية التي قُدّر عددها بـ116 جدولاً، وهي كانت جداول هندية ويونانية، ولدى نقلها إلى العربية رفد كلّاً منها بقيمة رقمية لجيب الزاوية التي يُنظر منها إليها. وذكرها جميعاً في كتابه "زيج السند هند الصغير". ولم يشأ أن يبقي كشوفه نظرية، فاخترع لفهم الأفلاك جهازاً دعاه بالتربيعية لقياس الارتفاعات. ثم إن ذلك الجهاز كان سبباً لملاحظته النجوم والكواكب السيّارة، وتعيينه مواقيت الصلاة تعييناً دقيقاً. إلى ذلك، اخترع الخوارزمي آلة دعاها "مربّع الظل" تعينه على إجراء العمليات الحسابية، وآلة دعاها الإسطرلاب، وهي تقيس أبعاد الكواكب والنجوم.
مؤلفات كثيرة
ولو عدّدنا الكتب التي نُسبت إلى الخوارزمي، وهي كثيرة، من مثل: الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة، وكتاب صورة الأرض، وكتاب الرخامة، وكتاب الجمع والتفريق، وكتاب المزولات، وتقويم البلدان، وكتاب العمل بالإسطرلاب، وكتاب الزيج الأوّل، وكتاب سلطة الأرض، وكتاب رسم ربع الكرة الأرضية، وكتاب التاريخ وغيرها، لخلصنا إلى الأمور الآتية:
أولاً- يتّضح الاتجاه العلمي المنهجي لدى الخوارزمي، على حساب التنظير الفكري والفلسفي المحض. بالتالي، يمكن إعادة تصنيف الخوارزمي في فئة المفكرين العلماء، مع ترجيح انتمائه إلى ذوي الفكر الموسوعي العلمي الذي أحوج ما تكون الأمة إليهم إبان النهضة الفكرية، وتكوين الأسس التي يقوم عليها التمدّن.
ثانياً- ولئن اعتبر الخوارزمي أحد النقلة الكبار للتراث العلمي الغربي والشرقي إلى اللغة العربية، فإن رسوخ منهجيته العلمية وسعة معارفه أبيا عليه إلا أن يصوّب المعارف المنقولة، ويفتح الآفاق الرحيبة أمام الأجيال الجديدة من أجل أن تُقبِل على استخراج معارفها على ضوء منهج علمي صارم، وبالاستناد إلى وسائل للقياس والتقييم والوضع، وترفد ذلك كله مفاهيم واصفة في الجبر والهندسة لا تكاد تخطئ. وتلك لعمري من أسس التمدّن والرقي الذي لا يُنازع عليه شعب، ولا يُصاب بالتهلكة، ولو كبا.