على الرغم من التعدد الإثني الذي يتميز به السودان، وتنوع جغرافيته وبيئته على طول القطر، فلا تزال هناك جماعات إثنية وقبائل يطغى عليها التمركز حول ذاتها والانغلاق عن بقية المجموعات الأخرى، وتبدو كأنها تعيش خارج العصر، وبالنظر إلى هذه الجماعات وتوزيعها الثقافي، ندرك أن السبب الذي يتحكم في عزلتها مرده إلى عوامل متضافرة مرتبطة بخلفية وخصوصية كل مجموعة، وإن كان التمركز حول الذات يعود إلى تمسك هؤلاء القوم بنمط حياتهم واستخدام كل الوسائل ضد أي تعايش مع الآخرين أو الاستكانة لعوامل التهميش والإهمال من جانب الدولة، ما وفّر لهذه المجموعات عمراً طويلاً في البقاء وحدها، إلا أنه خلق تناحراً مع مجموعات أخرى.
وثمة صورة لها وجهان، تبرز فيها هذه المجموعات، الأولى، مجموعات ينبع إحساسها بالانعزال من شعور بالدونية والإهمال والتهميش، ونتيجة لتغذيتها بهذه المشاعر غالباً ما تتحول إلى ثائرة وعدوانية، وظهر في مراحل متقدمة من تاريخ السودان الحديث عن مجموعات متمردة تكافح عن حقوق مجتمعاتها الاقتصادية والسياسية باستخدام السلاح، أما الصورة الثانية التي يمثلها النموذج الذي نحن بصدد تناوله فهي عن بعض المجموعات التي ترى أنها مركز المجموعات الأخرى، وتدعي النقاء وأنها أعلى ممن حولها، وتعتقد أن أي تسامح ثقافي مع الآخرين سيسلب منها هذه الميزة، فتنعدم النزعة التضامنية بينها وبين الآخرين، لاعتقادها أنها ربما تؤدي إلى إحساسها بالتهديد الوجودي، ما يحد من اندماجها الفعال، فتظل مسالمة، لكنها بعيدة، ولم يكن لهؤلاء أي صدى خارج حدودهم التي رسموها لأنفسهم، وإنما صور ينقلها زائرو هذه المناطق بحذر، فإلى جانب صبغتها الغريبة تعد قصة هؤلاء نموذجاً اجتماعياً فريداً، ولا يزال بعض الجدل قائماً حول الصيغ المرجحة للمحافظة على العزلة، وسياسة المسالمة واقتسام المنافع بينها والإبقاء على نظامها، وعلى الرغم من اختلاف نمط معيشتها، فإنها ظلت تتسم بالفتور والانعزال والانطوائية باتجاه الآخرين، وعلى الرغم من التحديات والهزات العنيفة خارج حدود مضاربها، إلا أنها لم تجبرها على الحركة إلى ما دون حدودها.
خارج التصنيف
وبالنظر إلى عدد قبائل السودان الكثيف، وعلى الرغم من تقلصه بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 إلى نحو 570 قبيلة، فإنها تضم نحو 57 مجموعة إثنية معروفة تتفق على خصائص لغوية وثقافية، وهناك مجموعات خارجة عن هذا التصنيف لندرة المعلومات المتاحة عنها، ولا يتوفر منها إلا القليل، وبالطبع، تخرج هذه المجموعات عن تعداد سكان السودان الذي قدر بنحو 45 مليون نسمة بناءً على أحدث بيانات الأمم المتحدة، وهو ما يعادل 0.56 في المئة من إجمالي سكان العالم، ولم يستطع الباحثون إدراج هذه المجموعات في تكوين السودان الديموغرافي من الزنوج، والبجة، والعرب، والنوبة، ومجموعة من المولدين والمهاجرين الذين اختلطوا بهذه المكونات الرئيسة.
لدى عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية ويندي جيمس، المحاضرة في علم الإنسان الاجتماعي في جامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي، أبحاث وكتب نشرتها خلال عقود، آخرها كان عام 2007 بعنوان "الحرب والبقاء على حدود السودان: أصوات من النيل الأزرق"، وهي كناية عن مجموعات ناطقة بلغة "الأدوك" تعيش في منطقة النيل الأزرق بين شمال وجنوب السودان، وبسبب الحرب الأهلية واضطرار عدد منها إلى الانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان، فضلت بقية من المجموعة الانتقال والعيش بعيداً بين السودان وإثيوبيا، للمحافظة على لغتها وعاداتها وتقاليدها.
وهناك أيضاً جماعة "الوطاويط" الإثنية الناطقة بلغة "البرتا" والمكونة من 100 ألف نسمة، يعيش جزء منها في السودان، وهي من سكان منطقة النيل الأزرق الأصليين، وجزء منها يعيش بين السودان وإثيوبيا، في عزلة عن بقية المكونات الاجتماعية، وقريباً من هذه المنطقة تعيش قبائل "سورما" في منطقة النيل الأزرق وفي جنوب غربي إثيوبيا، وتتميز بأحداث تمدد في شفاه نسائها، بواسطة وضع قرص حديدي، وتعبر هذه العملية عن الخصوبة والأنوثة والاستعداد للزواج، وإذا توفي الزوج فعلى الزوجة التخلص من القرص.
أما رجال "سورما" فيحدثون ندوباً كبيرة على أجسادهم ويتميزون بتمدد آذانهم نتيجة عمليات بدائية يجرونها بواسطة أجسام معدنية ثقيلة، يعتقد أنها أحد مقومات الجمال والجاذبية، وتصنع هذه القبيلة الأسلحة من العصي وتتدرب عليها بغرض الاحتفاليات ولصد العدو.
انغلاق وثني
وعن العزلة التي تحيط بهذه المجموعات، قال أستاذ علم الأجناس والأنثروبولوجي بجامعة الخرطوم عبد الباسط سعيد، إن "ذلك نتيجة لعوامل عدة منها الطبيعة الجغرافية، فقبيلة الوطاويط التي تعيش في جنوب شرقي السودان في الجزء المتاخم لإثيوبيا، تغلقها منطقة جبلية، تتخللها أنهار هابطة من الهضبة الإثيوبية، عن أي اتصال خارجي عبر الزمن". وأضاف، "عندما تكونت الحدود السودانية، نتيجة للبروتوكول بين بريطانيا وإيطاليا في 15 أبريل (نيسان) 1891، وهو الاتفاق الخاص بتحديد نفوذ كل منهما في دول حوض النيل الواقعة في إقليم شرق أفريقيا وحتى البحر الأحمر، ثم المعاهدة بين بريطانيا والإمبراطورية الإثيوبية الموقعة في أديس أبابا في 15 مايو (أيار) 1902، لترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا، تشكلت على أساسها حدود المستعمرات، وقسمت هذه المنطقة، فأصبح "الوطاويط" بين البلدين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذكر سعيد أن "هذه القبيلة انغلقت داخل اعتقادها الوثني، ولم يحدث لديها أي تمازج مع السودانيين المسيحيين أو المسلمين، في المناطق الأخرى، كما لم يحدث أي اتصال ثقافي مع المجموعات السودانية الأخرى، وذلك لطبيعة معاشهم الذي يعتمد على خصوبة الأرض وغزارة الأمطار واعتمادهم أيضاً على الزراعة والاكتفاء الذاتي ما جعلهم ليسوا بحاجة إلى تكلف مشقة التواصل مع العالم الخارجي". وتابع، "هناك سبب آخر لهذه العزلة، وهو أن المجتمعات السودانية في ذلك الوقت كانت تمارس الاستعباد وتجارة الرقيق، وكانوا يخشون من السودانيين الشماليين ووكلاء تجار الرقيق الأصليين". وأضاف، "هذا السبب أيضاً هو المرجح في احتفاظ قبيلة سورما بإحداث عمليات التشويه بتمديد شفاه النساء، لصد تجار الرقيق عنهن. واستمر ذلك كله إلى الآن".
تفضيل العزلة
وأشار أستاذ علم الأجناس والأنثروبولوجي بجامعة الخرطوم إلى أن "العزلة تنطبق على مجموعات إثنية أخرى، حتى ولو كانت غير مستقرة، وأبرز نموذج لها هو جماعة الأمبررو القادمة من النيجر، وهم "بقارة" يعيشون على رعي الأبقار ويتبعونها أينما ذهبت". وأوضح أن "الأمبررو" "دخلوا غرب السودان ومكثوا قليلاً في جبل مرة بإقليم دارفور، ولكنهم وجدوا ممارسة الرعي هناك غير ممكنة، فهبطوا جنوب هضبة الجبل، حيث قبيلة الرزيقات التي تمارس النشاط الاقتصادي نفسه في منطقة الضعين، فضايقوهم باعتبارهم منافسين ومتغولين على فرص الموارد، حتى اتجهوا جنوباً. ولم يتعايشوا مع قبائل جنوب السودان التي اعتبرتهم عرباً دخيلين، نسبة لاختلاف سحناتهم، فاضطروا للاتجاه شرقاً حتى وصلوا إلى مناطق الأنقسنا (إحدى قبائل السودان)". وأضاف، "هناك كانت حكومة (الإنقاذ) إبان أعوامها الأولى في تسعينيات القرن الماضي، مشحونة بنزعة كسب التأييد من المجموعات القبلية والإثنية المستقرة أو تلك التي تعيش على الهامش، فمنحت الأمبررو البطاقة الوطنية وأصبحوا مواطنين، ولكنهم حافظوا على عدم الاحتكاك بغيرهم".
وتابع أستاذ علم الأجناس والأنثروبولوجي بجامعة الخرطوم، "ينطبق تفضيل العزلة على بعض مكونات وإثنيات جبال النوبة، التي عزلتها الحرب، ولم تهتم بها الدولة وظلت من المجتمعات النائية، ولكن انقلب الانكفاء إلى شعور عدائي تجاه سلطة الدولة، فأعلنت التمرد على التهميش". وقال، "إهمال الدولة، وطبيعة المنطقة ساعدت هؤلاء على البقاء في هذه العزلة، ولا تزال بعض المكونات القبلية من ضمن 99 قبيلة بعدد جبالها، معزولة، ولكن بدرجة أقل، إذ إن ممارساتها الروحانية وارتباطها بالكجور "السلطان الروحي"، وممارسة بعض الطقوس، تعمق جودة الانعزال، فالاحتفاظ بهذه التقاليد لا يشجع على التواصل والاختلاط، وحتى مجيء جزء من هؤلاء إلى مدينة الدمازين كان قسرياً بسبب أن الدولة هجرتهم وحرقت قراهم بحجة إيوائهم المتمردين، فلم يجدوا أرضاً لزراعتها ولا لبت احتياجاتهم الإغاثة، فشعروا بشظف العيش والاستغلال ما عمق إحساساهم بالانعزال والحنين للرجوع لقراهم". وتابع، "ومن ضمن ما يعمق الانعزال هو ترسخ مرارات الرق في لا شعورهم، وأن الحس الوطني لبعض هذه المجموعات غير معزز، فلا تشعر أنها جزء من الدولة، وأنها سلطة استعمار داخلي يمارسها "الجلابة" (التجار الشماليون)".
هجرة عكسية
وذكر الباحث الأنثروبولوجي مبارك حتة، الذي زار مضارب مجموعة "الأمبررو" في إقليم النيل الأزرق بمنطقة "الأنقسنا" أنها "تنحدر من قبيلة الفولاني، وهي القمة الهرمية التي تضم عدداً من القبائل من ضمنها الأمبررو التي، على الرغم من توزعها على عدد من الدول الأفريقية، منها الكاميرون والسنغال، ومنطقة القرن الأفريقي، فإنها لا تزال تحافظ على طبيعة عيشها وتقاليدها، من دون احتكاك ببقية المكونات الاجتماعية، ولا تتزاوج مع القبائل الأخرى، وتحقق لها العزلة بعض الأمان". وقال حتة، "هذه المجموعة الرعوية تهتم برعي الأبقار خصوصاً، وتمارس بعض الطقوس على رأسها السحر، ولذلك تحذرها بقية المكونات الأخرى أثناء تنقلها من أجل الرعي. والقاعدة العامة لتنقلها أنها تتحرك عكس اتجاه المجموعات الأخرى، في هجرة دائمة من أجل المرعى والكلأ بين دولتي السودان وجنوب السودان. وعندما يتحرك الرعاة من المجموعات الأخرى إلى مناطق نزول الأمطار، تكون رحلة عودة الأمبررو من تلك المناطق هرباً من أنواع الذباب المزعج لأبقارها". وأوضح أن "المرأة هي المسؤولة عن إنشاء البيوت المتحركة والمعروفة باسم "ظهر الثور"، ويتكون من أنواع قوية من عيدان الأشجار ترصها على شكل قوس، لتتدحرج عليه المياه في الخريف وتتفرق على جانبي البيت، وهي المسؤولة عن نقل أغراض البيت كاملة إلى مضارب أخرى". وأضاف، "المرأة هي التي تبحث عن الكلأ والماء، وتتغذى المجموعة على حليب الأبقار ومشتقاته، ويتعالجون بالأعشاب والحشائش. ولا يذهبون إلى أطراف المدن إلا لجلب السكر والشاي، وتبيع بعض النساء مشتقات الحليب والسمن في سوق أمبررو الشهيرة بمدينة الدمازين، ثم تعود في المساء إلى مضارب القبيلة".
الزي المميز
وعن الزي المميز لمجموعة "الأمبررو"، قال حتة، "يرتدي الرجال والفتيات غير المتزوجات الأزياء الفاقعة وأنواعاً من الأكسسوار الملونة، أما المرأة المتزوجة فهي تظهر عارية وتربط طفلها في ظهرها. كما يرتدون أحذية بلاستيكية ملائمة للبيئة الماطرة".
وعن ارتباط هذه المجموعة بممارسة السحر، ذكر أنه شهد ممارسة بعض هذه الطقوس، تنتابهم أثناءها حالات تلبس خاصة، تتغير فيه أشكال عيونهم وملامحهم، وتقوم المجموعة بطقوس السحر للمحافظة على الأبقار وممتلكاتها، "يرسم الأمبررو دائرة على الأرض حول قطيع الأبقار، وفق طقوس وتمتمات معينة، فلا تجرؤ الأبقار على الخروج منها، ولا يقترب أحد منها. وعندما تريد إطلاقها، ترسم خطين متوازيين على شكل باب الخروج، فيخرج كل القطيع من هذه الفتحة الوهمية". وأضاف، "كما يستخدم هؤلاء السهم المسموم لصيد الأرانب، ولقتل الحيوانات المفترسة. وأبقارها المميزة بقرون مقوسة تشبه الهلال، تهابها بقية الحيوانات، وهي عموماً غير مرغوبة في الأسواق لقوة لحومها نسبة لمشيها ساعات طويلة وتحركها الدائم بين المراعي، لكن الأمبررو تحتفظ بها كنوع من التفاخر والتباهي".