في لحظة تاريخية حرجة، تتموضع بين الربع الأخير من القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس الهجري، عاش الفقيه، الحافظ، المتكلم، المؤرخ، المربي، الأديب، الفيلسوف، الوزير، والإمام ابن حزم الأندلسي. وهي لحظة انتقالية بين نهاية العصر الأموي في الأندلس وبداية عصر ملوك الطوائف، شهدت الكثير من الاضطرابات السياسية والاختلاط الاجتماعي والازدهار الثقافي، وكانت لها تداعياتها الخطيرة على مستقبل الحكم العربي للجزيرة.
هو أبو محمد علي بن أحمد بي سعيد بن حزم، ولد في الجانب الشرقي من قرطبة سنة 384 هـ، في أسرةٍ غنية عريقة، اختلف المؤرخون في أصلها بين قائل بفارسيته وقائل بإسبانيته، لأبٍ وزير للمنصور بن أبي عامر وابنه المظفر من بعده، وأُمٍّ كريمة الأصل ماتت قبل أن يشبّ عن الطوق، وأخ وحيد مات في ريعان الشباب. و"نشأ في قصر أبيه نشأة المترفين المنعّمين، فلم يعرف في حياته الحاجة أو الحرمان، ولم تُضطرّه الظروف إلى الترامي على أبواب الرؤساء أو الوزراء"، على حد تعبير الباحث المصري زكريا ابراهيم في كتابه "ابن حزم الأندلسي". ولعل هذه النشأة التي تعهّدته فيها بالرعاية والتربية مجموعة من النساء تركت أثرها على خياراته الفكرية، فتطبّع بحب الجمال، واهتم بدراسة أحوال العاشقين والعاشقات لا سيّما في كتابه الذائع الصيت "طوق الحمامة".
مرحلتان اثنتان
يقسم الباحث المصري عبد الحليم عويس في كتابه " ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري" حياة ابن حزم إلى مرحلتين اثنتين؛ الأولى استمرّت خمسة وعشرين عاماً، أمضى نصفها الأول مرفّهاً في قصر أبيه وسط النساء اللواتي أقمن على تعليمه والاهتمام به. وأمضى نصفها الثاني وسط المصائب والنكبات التي توالت عليه، من وفاة أخيه شاباًّ، إلى وفاة والده ووالدته وزوجته الأولى، إلى جلاء أسرته عن منزلها إلى المرية واعتقاله فيها ونفيه إلى إشبيلية. والثانية استمرت سبعة وأربعين عاماً، أمضاها في الدرس والجدل والتأليف، وتمخّضت عن ثروة فكرية وعلمية كبيرة، حتى إذا ما توفي سنة 456 هـ، في قرية منت ليشم الصغيرة في البادية، عن اثنين وسبعين عاماً، خلّف وراءه حوالى أربعمائة مجلّد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، كما ينقل بعض المؤرخين عن ابنه الفضل المكنّى بأبي رافع، وسواء أصحّت هذه المعلومة أم لا، فإنها تبقى مؤشّراً على غزارة إنتاجه وتنوّع حقوله المعرفية. وإذا كانت المرحلة الأولى في حياة ابن حزم قد شكلت مرحلة تكوينه النفسي، فإن المرحلة الثانية هي مرحلة التكوين الفكري بامتياز.
أساتذته وتلاميذه
كثيرون هم الذين تتلمذ عليهم ابن حزم في حياته، وكثيرون هم الذين تتلمذوا عليه؛ في الأكثرية الأولى، تتلمذ على أبي علي الحسن بن علي الفاسي وأبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد المصري في اللغة، وعلى أحمد بن محمد الجسور والهمداني في الحديث، وعلى أبي سعيد الفتى الجعفري في الأدب، وعلى أبي عبد الله بن دحون وعبد الله الأزدي في الفقه، وعلى أبي عبد الرحمن بقى بن مخلد في التفسير، وعلى محمد بن الحسن المذحجي في الفلسفة، وعلى ابن الكتاني في المنطق، وعلى والده أحمد بن سعيد في التاريخ وغيرهم. وفي الأكثرية الثانية، تتلمذ عليه أبو عبدالله الحميدي والوزير أبو محمد بن المغربي وعلي بن سعيد العبدري ومحمد بن سريج المقبري وغيرهم.
لم تقتصر حياة ابن حزم على طلب العلم على شيوخه الكثر، وعلى طلب الحقيقة في مظانها الكثيرة، بل تعدّت ذلك إلى السياسة، فتقلّد الوزارة في عهد المستظهر بالله لشهر ونصف الشهر، وتقلّدها في عهد المعتدّ بالله لست سنوات، وعمل مستشاراً للمرتضى حاكم بلنسية، غير أن الظروف لم تكن مؤاتية ليبرز كفاءته السياسية، فطلّق السياسة، وعكف على القراءة والتدوين، وهكذا، خسرته السياسة وربحه العلم. ولعل فشله في السياسة يعود إلى طبيعة شخصيته وصفاتها التي يحددها زكريا ابراهيم في ضوء العوامل الثلاثة، العقلي والعاطفي والاجتماعي، التي تدخل في بناء الشخصية من منظور علم النفس، فيشير إلى قوة ذاكرته وسرعة بديهته وحدّة ذكائه وسعة معرفته ودقة ملاحظته واستقلالية تفكيره، على المستوى العقلي. ويشير إلى حدّة مزاجه وثورة طبعه وقسوة اندفاعه وطول لسانه، على المستوى العاطفي، وقد عبّر الصوفي الأندلسي ابن العريف عن الصفة الأخيرة بالقول: "لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان". ويشير إلى وفائه واعتداده بالنفس على المستوى الاجتماعي. ولعل هذه الصفات، لا سيما تلك المتعلّقة بالعامل العاطفي منها، هي التي أكسبته الخصومات وجرّت عليه العداوات، فراح الخصوم يكيدون له ويتربّصون به ويؤلّبون الخاصّة عليه وينهون العامّة عن الدنوّ منه، وترتّب على ذلك إحراق كتبه وإخراجه من بعض المدن ناهيك بما توالى عليه من إجلاء وسجن ونفي.
شهادة ياقوت الحموي
في هذا السياق، يقول ياقوت الحموي في "معجم الأدباء": "كان ابن حزم يصك معارضه صك الجندل، وينشقه إنشاق الخردل، فتنفر عنه القلوب، وتوقع به الندوب، حتى استهدف الفقهاء وقته فمالوا إلى بغضه ورد أقواله، فأجمعوا على تضليله وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عنه، وطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به، فقطع أثره بتربة بلده من بادية لبة وبها توفي رحمه الله". على أن المؤرخين يشيرون إلى أسباب أخرى، بالإضافة إلى تلك المتعلقة بشخصيته، أدّت إلى استهدافه، ومنها: مناداته بالمذهب الظاهري، تعصّبه للأمويين، تعريضه بالفقهاء والطعن في نزاهتهم وغيرها.
غير أن هذه الأساليب لم تفتّ في عضده، فراح يتصدّى لهم ويكيل الكيل كيلين ويتجرّأ عليهم ويخطّئهم ويطعن عليهم، مما جعل ذهنه يتفتّق عن مؤلفات عظيمة النفع. وينسب إليه زكريا ابراهيم قوله في هذا السياق: "انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة: وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحيي فكري، وتهيّج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة النفع ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت تلك التواليف...". وهذه التواليف الكثيرة تعكس غزارة في الكمّ وكثرة في النوع، ما جعل بعض الدارسين يلقبه بجاحظ الأندلس بلا منازع، الأمر الذي يتقاطع مع ما ينسبه المؤرخ صاعد الأندلسي إلى ابنه الفضل من قوله: "اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه، في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المعارضين، نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحصي الباحث المصري عبد الحليم عويس 89 رسالة مفقودة لابن حزم و53 مؤلّفاً موجوداً كلاًّ أو بعضاً؛ نذكر منها، على سبيل المثال: كتاب المحلّى، مسألة الأصول، رسالة في الإمامة، حجة الوداع، مراتب الإجماع، كتاب الإحكام، الفصل في الملل والأهواء والنحل، التقريب لحد المنطق، الأصول والفروع، رسالة في النفس، السيرة النبوية، طوق الحمامة، ونقط العروس في تواريخ الخلفاء، وغيرها. وهذه العناوين تشي بتعدّد الحقول المعرفية التي حرث. وهو ما يصنّفه زكريا ابراهيم إلى أربعة فئات هي: دراسات فلسفية وكلامية، دراسات فقهية وشرعية، دراسات تاريخية وسياسية، ودراسات خلقية ونفسية. ويدرج تحت كل فئة المؤلفات المنتمية إليها. على أنه لا بد من الإشارة إلى أن ظروف وضعه هذه المؤلفات لم تكن دائماً مؤاتية له، فهو وضع معظمها خلال رحلاته القسرية أو الطوعية بين المدن الأندلسية المختلفة، وهو ما يشير إليه في كتاب "التقريب لحد المنطق" بالقول: "وما ألّفنا كتابنا هذا وكثيراً ممّا ألفنا إلا ونحن معربون مبعدون عن الوطن والأهل والولد، مخافون مع ذلك في أنفسنا ظلماً وعدواناً".
وبعد، إذا كان المقام لا يتّسع للكلام على المحاور الأساسية في فكر ابن حزم الأندلسي، فحسبنا الإشارة إلى أنه صورة مصغّرة عن الأندلس بصعودها وهبوطها، بتألقها وأفولها، وبشؤونها وشجونها. ولعل أفضل ما نختم به هذه القراءة قول الباحث المصري حسان محمد حسان، في كتابه "ابن حزم الأندلسي عصره ومنهجه وفكره التربوي"، بـ "حزمية الأندلس وأندلسية ابن حزم؛ فكلاهما تعبير عن شيء واحد وواقع مشترك"، وقوله أن ابن حزم "كان أندلساً مصغّراً، الأندلس كان ابن حزم مكبّراً".