"مرحباً بك في هذا المكان الروحي. الرجاء المحافظة على الصمت والهدوء والحشمة والنظافة والتزم السير في درب الدير". هذه العبارة هي أول ما يطالع الزائر لحظة وصوله إلى منطقة دير مار موسى الحبشي، إذ تطوف السكينة كل زاوية ليشكل مزيج الكلمات والمكان بما يحمله من طاقة روحانية عالية، تهيئة مناسبة لبداية رحلة روحية من نوع خاص.
يقع الدير شمال العاصمة السورية دمشق، شرق بلدة النبك، على بعد 20 كيلومتراً منها، وعلى ارتفاع 75 متراً عن الوادي، فقد بني فوق جبل عال يسمى المدخن، ويحيط به جبلان متقاطعان، وتسمى قمته في بعض المصادر السريانية "القمة الكبيرة"، وهي مشرفة على سهل واسع يتصل ببادية تدمر من جهة وبفلسطين من جهة أخرى، ولهذا اتخذت قوافل الحجاج وزوار الأراضي المقدسة من هذا الدير محطة رئيسة أثناء ترحالها.
وتشكل عملية الوصول إلى الدير رحلة تأملية بحد ذاتها، فبعد أن يقطع الزائر مسافة 15 كيلومتراً من بلدة النبك عبر طريق جرداء خالية، لا بد من عبور حوالى 340 درجة حتى يلوح الدير من خلال فتحة واسعة بين جبلين قابعاً بسلام، كقلعة حصينة في أحضان جبل المدخن، في مشهد روحاني يلقي في القلب رهبة ويعكس قدسية المكان.
العصر الذهبي
رفع بناء مار موسى الحبشي في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الميلادي على أنقاض قلعة رومانية تعود للقرن الثاني كما يعتقد من خلال البرج الظاهرة آثاره، ويعتبر هذا الدير واحداً من أهم الأديرة والأوابد والمراكز السريانية في جبال القلمون، وقد ورد ذكره في مخطوطات سريانية عدة سبق بعضها التاريخ الهجري، منها مصحف سرياني نادر خط في هذا الدير سنة 575م في عهد أحد ملوك الغساسنة، الأمر الذي يدل على عراقة بنائه وتوغله في القدم.
وتؤكد المصادر أن العصر الذهبي لدير مار موسى الحبشي كان في القرون الوسطى، ولهذا تحول الدير بعد ترميمه في القرن الـ 14 إلى كرسي أسقفي مستقل بسبب زيادة عدد رهبانه وشدة إقبال الزوار والحجاج على زيارته.
لم يحظ بناء دير مار موسى الحبشي بالفن المعماري الهندسي الذي تتمتع به العديد من الأديرة السريانية المعروفة بسبب بعده عن النبك ووعورة الطريق المؤدية إليه، مما صعب عملية نقل مواد البناء إليه، ولكن ما يحتويه من زخارف ورسوم جدارية نادرة صنعت منه شاهداً حياً على حضارة سوريا وشعوبها الآرامية السريانية.
عمارة الدير
ويقودنا إلى داخل الدير المبني بحجارة ضخمة من الصلد باب صغير منحوت في الصخر لا يتعدى ارتفاعه المتر وعرضه 50 متراً، ولهذا رمزية تتعلق بإدخال التواضع والخشوع والرهبة إلى قلب الزائر من جهة، ولفرض جو من الأمان وحماية من السلب والاعتداء من قبل اللصوص وقطاع الطرق من جهة أخرى.
ويحتاج الراغب في الولوج الداخل إلى الانحناء مسافة معينة حتى يطالعه رواق يتفرع عنه إلى اليسار غرفة واسعة تحولت إلى متحف خاص بلقى الدير وآثاره، ويلي هذا الرواق رواق آخر يقع في وسطه باب كنيسة الدير، ويؤدي إلى باحة تبلغ مساحتها 160 متراً مربعاً مكشوفة من جهة الشرق على سهل تدمر، والرواقان وباحة الدير مع الغرفتين خصصتا للمطبخ والطعام، وخصصت ثالثة لبيت الدرج النازل إلى القبو الجنوبي الشرقي.
يتألف القبو الجنوبي الشرقي من غرفتين بينهما باب يوصل إلى باحة الدير، والقبو الشمالي الشرقي واسع المساحة يقع بجانب القبو الجنوبي الشرقي ويتألف من ثلاث طبقات، الطبقة السفلى تتكون من باحة صغيرة تقع بين الصخور وجدار الدير الشرقي والطبقة الثانية تتكون من غرفة كبيرة تتصل بالطبقة السفلى بدرج، وبجوارها غرفة صغيرة حولت إلى حمام، أما الثالثة مؤلفة من غرفة كبيرة وغرفتين صغيرتين تتصلان مع الطبقة الثانية بسلم.
ويتألف الطابق الأول للدير من غرفة منفردة في الجهة الشمالية يصعد إليها بسلم خشبي ومع أربع غرف وحمام تقع في الجهة الجنوبية، والطابق الثاني يحتوي على ثلاث غرف سقوفها جميعا من الخشب، أما السطح فيحيط به جدار حجري تخترقه فتحات لرمي السهام.
كما يحوي الدير مكتبة غنية زاخرة بآلاف المخطوطات السريانية التاريخية، بخاصة الدينية منها وعدد وفير من الأناجيل النادرة التي كتب قسم منها على الرق، وقد نقل عدد كبير من هذه المخطوطات إلى عواصم أوروبا وبلاد الشرق لتتصدر متاحفها ومكتباتها، مثل مخطوط لمار أيوانيس الذهبي الموجود في خزانة المتحف البريطاني بلندن، ومخطوطين لصلوات الصيام الأربعيني بمكتبة باريس وغيرها الكثير.
مغارة أصحاب الكهف
يحيط بالدير كهوف عدة إلى جانب مغارة واسعة محفورة في الصخر تبعد 50 متراً عن الدير، يعتقد أنها كانت مخصصة لإقامة النساك والزهاد والمتعبدين، ثم أصبحت خاصة بحفظ مؤونة الدير وتبدو أمامها مغارة أخرى يطلق عليها اسم "مقبرة الراهب" لاحتوائها على عظام يعتقد أنها لناسك، وقد تحولت فيما بعد إلى مزار يقصده السياح.
وهناك مغارة تسمى مغارة الحائك تقع داخل جرف صخري في الجنوب الشرقي من الدير ويتم الوصول إليها من طرق تسلق الجبل، وبداخلها رواقان وفي أسفل الجرف خزان ماء محفور بالصخر، وسميت بهذا الاسم لقيام نساكها بحياكة الألبسة الخاصة بهم أثناء فراغهم.
كما كرست مغارة لذكر أهل أو أصحاب الكهف القصة المشتركة في التراثين الإسلامي والمسيحي، وتحوي المغارة لوحات عدة تخلد قصة الفتية السبعة النائمين والمذكورة أسماؤهم على لوح بالترتيب، مكسلمينا ويمليخا ومارطونس ويؤانس وديونيسيوس وسرافيون وأنطونيوس، وإلى جانبها لوح مدون عليه، "بسم الله الرحمن الرحيم. هنا ذكرى للفتية الراقدين وكانوا من أبناء إبراهيم بالمسيح مؤمنين. استشهدوا عندما أغلق عليهم الكهف الذي التجؤوا إليه في مدينة أفسس فحفظهم الله فيه سنين عدة ثم أيقظهم ربهم فظهروا أحياء لمن أهل المدينة بالقيامة. وهم شفعاء لمن يشاركهم رجاءهم. (رقدوا في عهد القيصر الروماني داقيوس واستيقظوا في عهد القيصر ثيودوسيوس)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كنسية الدير
تقع على يسار رواق الدير باتجاه الشرق كنيسة صغيرة جدرانها مغطاة بالرموز واللوحات الملونة يعود بناؤها إلى القرن السادس الميلادي، يقع في وسطها بهو واسع عريض يمتد من الشرق إلى الغرب ويعلوه سقف جملوني مثلث مصنوع من الخشب المشبك، له جناحان مستويان يمتدان على الجانبين الشمالي والجنوبي ويعلو كل منهما سقف مستو وينفصل كل جناح عن البهو الأوسط بأربعة أعمدة كبيرة متصلة مع بعضها بثلاث قناطر نصف دائرية مرسومة بنقوش دينية، ويتصدر البهو الأوسط من جهة الشرق هيكل الكنيسة الذي يعلوه قنطرة مزخرفة في أسفلها حنية مقعرة تقع خلف الهيكل مباشرة.
ونجد الجداريات منقوشة على كافة جدران الكنيسة من الداخل والخارج، وهي تعود إلى ما قبل القرن الـ 11 للميلاد، وقد زين أغلبها بكتابات سريانية بالخط "السطرنجيلي" أحد الخطوط السريانية الثلاثة وبكتابات أخرى يونانية وعربية، وهي تقدم دليلاً على إبداع السريان في المجالات الفنية على أنواعها إلى جانب تفوقهم في المعارف والعلوم.