استناداً إلى حجم التغطية الإعلامية التي حظيت بها الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وكمية الرسائل التي وصلت إلى صندوق بريدي الإلكتروني يمكنني الحكم أن أوروبا تنفست الصعداء عند الساعة الثامنة مساءً يوم الأحد، حين تبين أن الرئيس الفرنسي المقبل لن يكون سوى الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون.
واتفق الرأي العام بغالبيته على أن "تيار الوسط الفرنسي الهش" قد صمد. ونجح نهج ماكرون الذي يعد خليطاً من سياسات اليمين واليسار في إزالة التهديد الذي شكله حزب مارين لوبن اليميني المتطرف بحلته (واسمه) الجديدة، بهامش أكبر مما كان متوقعاً - 58.5 في المئة مقابل 41.5 في المئة.
ولا يعني ذلك عودة ماكرون فحسب ــ أول رئيس فرنسي يفوز بولاية ثانية منذ عشرين عاماً ــ لكن يعني عودة أوروبا (الاتحاد الأوروبي). واحتفل ماكرون خلال تجمع لأنصاره بالنصر عبر الاستماع إلى عزف النشيد الوطني الأوروبي وسط تلويح الأعلام الأوروبية إلى جانب العلم الفرنسي الثلاثي الألوان.
وبالنسبة إلى الناخبين الفرنسيين، كان هناك اعتراف ضمني من قبله بأنه ارتكب أخطاءً خلال ولايته الأولى. وفي خطابه، وعد ماكرون "بحقبة جديدة" تعكس تضامناً أكبر وغروراً أقل بعد الدروس التي تعلمها من خلال ولايته الأولى على أن يتم السعي إلى الحلول بمشاركة الشعب الفرنسي.
وتسير الأمور حتى الآن بشكل جيد. لكن ذلك لا يعني أن مستقبل فرنسا حسم، ولا حتى للفترة القريبة. كما أن نتائج هذه الانتخابات ليست حاسمة كما تتراءى. حصول مارين لوبن على 41.5 في المئة من الأصوات خلال الدورة الثانية من هذه الانتخابات يشير إلى زيادة معتبرة في حجم المقترعين لصالح اليمين المتطرف. فهي نجحت في إضافة ثماني نقاط مئوية إلى رصيدها بالمقارنة مع النتائج التي سجلتها خلال انتخابات 2017، وهي لم تكن مخطئة تماماً عندما تباهت أمام أنصارها المتحمسين بتحقيق "انتصار مدو" حتى من خلال اعترافها بالهزيمة. فالنسبة تلك التي نالتها هي شريحة معتبرة من الأصوات التي تم الإدلاء بها في هذه الانتخابات الرئاسية ودليل على القبول المستجد بتيار اليمين المتطرف على مستوى فرنسا. فهل وصل اليمين إلى مداه الأقصى، أم لديه المزيد لتحقيقه؟
هذا السؤال قد تجيب عنه بشكل جزئي ما نسميه أحياناً "الجولة الثالثة" في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. فبعد أقل من ستة أسابيع سيتوجه الناخبون الفرنسيون من جديد إلى صناديق الاقتراع للتصويت على ممثليهم في البرلمان الفرنسي، وهو ما سيحدد المساحة المتاحة أمام الرئيس المنتخب للمناورة. وكانت الحملات الانتخابية لتلك الانتخابات التشريعية قد بدأت حتى قبل توجه الرئيس ماكرون للاحتفال بانتصاره.
ولم تكن لوبن وحيدة في العمل على حشد مناصريها من الناخبين من أجل المنافسة المنتظرة المقبلة، لكن ذلك هو تحديداً ما قام به أيضاً ما لا يقل عن عشرة مرشحين الذين أقصوا بعد جولة الانتخابات الرئاسية الأولى. وأول هؤلاء كان جان لوك ميلانشون، من تيار اليسار الراديكالي وحزبه "التجمع الشعبي"، الذي هُزم بفارق ضئيل أمام لوبن، وكان لنجاحه هذا غير المتوقع أي حلوله ثالثاً، خصوصاً في أوساط طبقة الشباب، دليلاً آخر على مدى درجة الاستقطاب التي تسود السياسة الفرنسية.
وكان ميلانشون، هو من أطلق العبارة التي أصبحت الأكثر تردداً في ليلة الانتخابات عندما قام بوصف ماكرون على أنه الرئيس الفرنسي "المنتخب بأسوأ طريقة" le plus mal elu، خلال الأعوام الماضية، ويقصد بذلك أنه الرئيس الذي يتحلى عهده بتفويض هو الأضعف نسبة إلى الفارق عن منافسته وكمية أصوات الناخبين التي جمعها.
وأمضى المراقبون السياسيون الساعات التي تلت موعد صدور هذه التصريحات، وهم يحاولون "تدقيق المعلومات" حول ادعاءات ميلانشون، وفي النهاية خلصوا إلى أن نتائج الرئيس السابق جورج بومبيدو Georges Pompidou في 1969 كانت أسوأ مما حققه ماكرون. ومع ذلك، قد يجد ماكرون صعوبة في التخلص من هذه التهمة، كما أنها قد تؤثر على حسابات الانتخابات البرلمانية المقبلة.
إذا اعتبرنا أن الناخبين عادة ما يتعاملون مع الانتخابات الرئاسية بشكل يختلف عن طريقة تعاملهم مع الانتخابات البرلمانية، إذ يركزون على شخصية المرشح للرئاسة بنفس قدر هوية انتمائه الحزبي، فإن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لطالما عكست تقليدياً ما قد يحدث في انتخابات يونيو (حزيران).
حزب مارين لوبن اليميني المتطرف "التجمع الوطني" (كان يعرف باسم الجبهة الوطنية وتم تغيير اسمه كجزء من العمل على تغيير صورة الحزب)، سيرغب في ترجمة النتائج الإيجابية التي حققها خلال السباق الرئاسي في الانتخابات البرلمانية. أما الذين صوّتوا لصالح ميلانشون فسيكون لهم أيضاً مرشحوهم الذين سيخصونهم بأصواتهم، بعدما كانوا ربما صوّتوا لصالح ماكرون في الدورة الثانية أو عزفوا عن التصويت تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن تيار يمين الوسط التقليدي (الجمهوريين) وتيار يسار الوسط (الحزب الاشتراكي)، وهما حزبان سُحقا تماماً في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ومعهم حزب الخضر، قد يحققون نتائج إيجابية بشكل جزئي في الانتخابات البرلمانية، بسبب استمرار تمثيل هذه الأحزاب القوي على مستوى القواعد الحزبية في المناطق.
كل ذلك يعني أن البرلمان المقبل قد يكون خليطاً أكثر تنوعاً من الحالي، مما سيزيد مهمة ماكرون صعوبة في الحكم أكثر مما يوحي به الهامش الذي ربح معه الانتخابات الرئاسية. وقد تزيد أكثر لو استؤنف، في يونيو المقبل، توجه الناخبين للتصويت للأفكار المتطرفة. إن ذلك الأمر، وبحسب ما اعتاد المتشائمون من مراقبي الشأن الفرنسي على التحذير بعد كل جولة انتخابات، قد يؤدي إلى "جولة رابعة" تجري رحاها في شكل احتجاجات في الشوارع الفرنسية.
وربما كانت صورة الفوز الحاسم للرئيس إيمانويل ماكرون قد حملت في طياتها شيئاً من التضليل، فإن تصميمه وقدراته السياسية لا يجب التقليل من شأنها. فهو الرئيس الفرنسي الأول الذي ينجح في الفوز بولاية ثانية منذ عشرين عاماً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نتائج انتخابات عام 2002، حين فاز جاك شيراك لفترة رئاسية ثانية، كانت محسومة مسبقة بعد الوصول المفاجئ لوالد مارين لوبن، جان ماري، إلى الدورة الثانية من تلك الانتخابات.
وكان ماكرون قد أظهر رؤية ثاقبة بإنشائه حركته السياسية الخاصة ــ "إلى الأمام" En Marche ــ قبل الانتخابات الرئاسية الماضية التي مزجت مبادئ اقتصاد السوق الحر بالليبرالية الاجتماعية. حركة "إلى الأمام" اليوم هي حزب "الجمهورية إلى الأمام" La Republique En Marche التي فاجأت منتقدي الحزب ليس من خلال نجاتها، بل أيضاً إتاحتها إعادة انتخاب ماكرون لفترة رئاسية ثانية.
وفي السياق نفسه، يدخل ماكرون ولايته الثانية وهو يمتلك مزيجاً فريداً من الطاقة الشبابية والخبرة. فهو لا يزال في الرابعة والأربعين فقط، ولديه تراكم خبرة خمس سنوات على رأس هرم سلطة الإيليزيه، خمس سنوات التي شهدت، ثورة السترات الصفراء Gilets Jaunes، وإدارته لتداعيات جائحة كورونا، والاجتياح الروسي لأوكرانيا.
إضافة إلى كل ذلك، نجح ماكرون أيضاً في تحقيق النصر عبر إعادة انتخابه. وهذا إنجاز عظيم لا يمكن الاستهانة به. هذا إنجاز رائع ويؤكد مكانته كزعيم الوطني الأبرز بين دول الاتحاد الأوروبي، لا بل على مستوى أوروبا بأكملها، وفي الوقت الذي تبدو فيه الظروف مواتية لمصلحة الأولويات التي وضعها نصب عينيه.
يقود ماكرون دولة تلافت إلى حد كبير عملية الاعتماد على الطاقة الروسية، ما جنبه معضلة الخيارات الاقتصادية والأخلاقية التي تواجهها ألمانيا حالياً. أيد ماكرون سياسة دفاعية أوروبية قوية، متوقعاً زمناً قد تكون فيه الولايات المتحدة الأميركية أقل التزاماً بالأمن الأوروبي بالمقارنة مع التزاماتها الماضية، (والولايات المتحدة عادت حالياً إلى سابق عهدها).
إن مبدأ الحاجة لسياسة دفاعية أقوى (أوروبياً) يتمتع اليوم بدعم غير مسبوق في كل الدول الأوروبية، بسبب الحرب في أوكرانيا. وفيما قطعت باريس العلاقات مع موسكو بعد ظهور الجرائم الوحشية في ضواحي كييف، سعى الرئيس ماكرون إلى الإبقاء على قنوات الاتصالات الدبلوماسية مفتوحة مع روسيا، ما يفتح مجالاً أمام فرنسا لتكون وسيطاً محتملاً في حال ظهرت الفرصة لإجراء مفاوضات سلام جدية.
كما أن الكلام بأن بريكست والعلاقات المتوترة مع المملكة المتحدة قد يشكلان مشكلة للرئيس ماكرون المعاد انتخابه هو أيضاً غير دقيق. الموضوعان كانا قد شكلا جزءاً من الحملات الانتخابية، لكنهما أسهما في دعم التزام الرئيس ماكرون الاتحاد الأوروبي بالنيابة عن فرنسا. ومع تخلي لوبن عن الترويج لخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، فإن فرنسا بقيادة ماكرون مهيأة من جديد لتبوؤ زعامة الاتحاد الأوروبي بلا منازع.
إن الموضوع المركزي لدى جميع الأحزاب التي تنافست خلال الحملات الانتخابية الرئاسية كان موضوع مستويات المعيشة، المتمثلة بـ"القدرة الشرائية". وهذا ما رفع الدعم الانتخابي لكل من لوبن وميلانشون. لكن ذلك ساعد ماكرون على الانتقاء من اليمين واليسار السياسات التي يراها مناسبة لبرنامجه.
ولو كان ماكرون صادقاً في نيته الاستماع بشكل أكبر لمطالب الناخبين، فإن ذلك سيجعل من البرلمان الفرنسي المقبل بغض النظر عن تشظي توجهاته، أقل معارضة له أو في مواجهة طموحاته مما كان يفترض به أن يكون.
في الحقيقة، الخطر الأكبر الذي يتهدد ماكرون في تحقيق طموحاته من أجل فرنسا، ومن ضمنها وعده، الذي خفت نبرته، برفع السن القانوني الفرنسي للتقاعد، وهو لطالما كان قضية إشكالية لم تنجح أي من الحكومات الفرنسية المتعاقبة في معالجته، ليس وجود برلمان غير متعاون أو أحداث غير متوقعة، بل ربما شيء مختلف تماماً.
إن الدستور الفرنسي يحد فترات حكم أي رئيس فرنسي على ولايتين. ربما يتحدث ماكرون حالياً عن "عهد جديد" لكن الأمر لن يطول قبل أن يبدأ منافسوه السياسيون بغض النظر إلى أي أحزاب ينتمون في الإعداد لمرحلة ما بعد ماكرون. لذلك فإن عدوه الأكبر قد لا تكون السياسة، بل عامل الوقت.
© The Independent