قد لا تُتقن الأمم المتحدة كثيراً وقف الحروب، لكن أمينها العام الحالي، أنطونيو غوتيريش، هو على الأقل رجل شجاع ومحترم ومستعد لقول الحقيقة من دون تورية.
والحقيقة هي أن فلاديمير بوتين، الذي لم يكتفِ بتعذيب أوكرانيا وفرض حصار عليها، يحاول الآن تجويع العالم برمته حتى يخضع لإرادته. يقول غوتيريش إن الصراع في أوكرانيا، إلى جانب أزمة المناخ والاضطرابات التي أعقبت وباء كورونا، "يهدد بدفع عشرات الملايين من الناس إلى حافة انعدام الأمن الغذائي الذي سيتبعه سوء التغذية والجوع الجماعي والمجاعة".
هكذا، وبشكل مفاجئ، باتت هذه الحرب القاسية لا تتعلق فقط بحرية أوكرانيا وأمن أوروبا ومستقبل "الناتو"، بل بمجاعة على مستوى عالمي. وأصبحت المخاطرة أكبر بكثير.
وعلى الرغم من أن بوتين وجنرالاته بالكاد خططوا لذلك، لأنهم لا يمتلكون مخيلة قادرة على تصوره، فقد نجحوا بالصدفة في جعل العالم رهينة لقوتهم. فكما بتنا نعلم الآن، تعتبر أوكرانيا سلة الخبز بالنسبة للعالم والمورد الرئيس للقمح وزيت الطهي بالنسبة لقسم كبير من أفريقيا والشرق الأوسط.
الآن، يتم منع مغادرة كميات هائلة من الحبوب وزيت عباد الشمس من أوكرانيا بسبب الحرب والحصار الروسي للموانئ الأوكرانية على البحر الأسود. تنتظر ملايين الأطنان من الحبوب التصدير لإطعام فقراء العالم، لكن بوتين سعيد تماماً بتركها تتعفن، بعد أن أرسل شحنة كبيرة إلى بلاده.
بسبب العقوبات، لا يستطيع العالم شراء أي صادرات روسية، كما أن الارتفاع الحاد في تكاليف النفط والغاز والأسمدة بسبب الصراع منعت منتجي الحبوب الرئيسين الآخرين مثل البرازيل من توسيع إنتاجهم. كما تحظر دول مثل الهند ونيجيريا وجنوب أفريقيا تصدير المواد الغذائية، بينما تحجم السعودية والقوى النفطية الكبرى الأخرى عن تعويض النقص الذي خلقه النفط الروسي في الأسواق العالمية. لا يستطيع العالم إطعام نفسه في مثل هذه الظروف. صحيح أن الغرب يعاني أزمة غلاء المعيشة وصعوبتها، لكن دولاً مثل مصر وليبيا تواجه ما هو أسوأ بكثير.
في الغرب، هناك إدراك متزايد بأن الأزمة الاقتصادية ستشتد. وصف أندرو بيلي، حاكم مصرف إنجلترا الذي تعرض للذم كثيراً، الوضع بأنه "مرعب"، كتلك الصورة في رؤيا يوحنا للفرسان الأربعة الذين ينبؤون بنهاية العالم - الموت والحرب والغزو والمجاعة. لقد تعرض للهجوم بسبب لغته المثيرة للقلق، لكن ونظراً لاحتمال حدوث مجاعة وعدم استقرار وشيكين، كان استعارته في محلها تماماً.
حذرت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، من أن "حرب روسيا ضد أوكرانيا أدت إلى تفاقم قضية الأمن الغذائي بالنسبة للناس في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في البلدان الناشئة والنامية". وأضافت أن هناك "خطراً حقيقياً للغاية" يتمثل في أن ارتفاع أسعار السوق العالمية للمواد الغذائية والأسمدة "سيؤدي إلى مزيد من الجوع، ويزيد من حدة ضغوط الأسعار، ويضر بالمواقف الحكومية المالية والخارجية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قبل عقد من الزمن، أدى نقص مماثل في الغذاء ولكن على نطاق أضيق إلى ما يسمى الربيع العربي، وكل ما تلاه، وليس أقله صعود "داعش" وتدمير سوريا. والآن تتسبب الأزمة في أوكرانيا بالفعل، حتى من دون امتداد الصراع العسكري خارج حدودها، باضطرابات عالمية. أعمال الشغب بسبب الغذاء التي اندلعت من سريلانكا إلى لبنان إلى البيرو ليست سوى شرارة بداية الاضطرابات.
إذاً، فالعالم يمتلك الخيار مرة أخرى. بإمكانه السماح لروسيا بخنق أوكرانيا وتجويع فقراء أفريقيا والشرق الأوسط، أو يمكنه كسر الحظر الروسي على البحر الأسود. سيتطلب ذلك انتصاراً أوكرانياً أسرع مما كان يبدو مرجحاً، وإلا فإن الغرب، بدعم عالمي أوسع من تحالف الراغبين، سيفتح جبهة جديدة مع روسيا، ومواجهة بحرية مباشرة خطيرة تتجاوز مجرد إمداد الجيش والقوات الجوية الأوكرانيين بالأسلحة والاستخبارات.
سيتطلب الأمر أسطولاً كبيراً من السفن الغربية والحليفة لتأمين الوصول إلى موانئ أوكرانيا المتبقية والطرق البحرية المتجهة نحو الشرق الأوسط وأفريقيا وما وراءهما.
هذه المرة، سيتعين على الدول التي كانت متذبذبة أو محايدة بشأن روسيا، مثل تركيا (القوة الرئيسة الأخرى في البحر الأسود) وجنوب أفريقيا والهند، أن تدعم بشكل أكبر تهديد استخدام القوة لمنع انتشار الجوع الجماعي وسوء التغذية، وأن تكون مستعدة لكل العواقب التي لا يمكن التنبؤ بها عادة.
كما أنه ليس بإمكان الصين أن تتعامل بهدوء مهما كانت درجته مع احتمالية إجبار حلفائها في مبادرة "حزام واحد، طريق واحد" على الدخول في حالة من الفوضى ناجمة عن أعمال الشغب بسبب الغذاء وإطاحة الحكومات في البلدان النامية المكتظة بالسكان. تحتاج الصين، قبل كل الدول الأخرى، إلى صادرات سليمة في عالم مستقر كي تحافظ على ازدهارها. علاوة على ذلك، سيؤثر ارتفاع أسعار الحبوب في نهاية المطاف على أسعار الأرز.
كان حديث غوتيريش في الصميم عن الجهود لإرسال مساعدات غذائية ومالية إلى البلدان المعرضة لخطر مجاعات مرعبة كتلك التي تحدثت عنها الكتب المقدسة، لكنه كان واضحاً بأن هذه المساعدات لن تكون مستدامة. وقال: "يوجد في عالمنا الآن ما يكفي من طعام إذا عملنا معاً، لكننا ما لم نحل هذه المشكلة اليوم، فإننا نواجه شبح نقص الغذاء العالمي في الأشهر المقبلة. لنكن واضحين: لا يوجد حل فعال لأزمة الغذاء من دون إعادة دمج الغذاء الذي ينتج في أوكرانيا وكذلك الأغذية والأسمدة التي تنتجها روسيا وبيلاروس في الأسواق العالمية - بغض النظر عن الحرب".
على كل حال، المشكلة هي أن الحرب لن تنتهي لمجرد أننا جميعاً نرغب في ذلك، ولا يمكن أن تنتهي قبل هزيمة بوتين، وتحرير الموانئ والممرات البحرية في أوكرانيا من قبضته.
© The Independent