"ماذا يعني أن تكون مخرجاً اليوم؟". سؤال وجودي طُرح على مجموعة من السينمائيين خلال الدورة الحالية من مهرجان كان السينمائي (17 - 28 مايو - أيار)، في اطار حلقة سجالية على مدى يومين، أمس واليوم، يناقش فيها عدد من السينمائيين التحولات التي تشهدها صناعة الفيلم بعد الجائحة والشكل الذي ستتخذه السينما مستقبلاً في ظل المنصّات وتطور أساليب العرض.
افتتح اللقاء المخرج المكسيكي غييرمو دل تورو الذي اشتهر بأفلام مثل "متاهة بان" و"شكل المياه"، وهو معروف بثقافته السينمائية الواسعة ودفاعه عن المشاهدة الجماعية داخل صالة. صرح في حديث من القلب يحمل الكثير من الصدق، أنه لا يعرف كيف سيكون مستقبل السينما، ولكن في المقابل يعلم أنه لن يكون على الشكل الذي هو عليه اليوم.
وتابع قائلاً: "ما نملكه حالياً ينتمي إلى بنية قديمة، والمستقبل سيفرض نفسه، سواء أردناه أو لا. كل هويتنا وكياننا كبشر يتحولان كلياً. لم يتطلب هذا أكثر من جائحة واحدة. تجاوزنا الجائحة لأنه كان لدينا ثلاثة أشياء: مواد غذائية، دواء وقصص نرويها. ما هي الحلول من أجل البقاء والصمود والمحافظة على السينما؟ لا يوجد جواب صح وجواب خطأ. يشاهد الناس أفلامنا كفيلموغرافيا، ولكنها بالنسبة لنا نحن المخرجين، بيوغرافيا (سيرة). أفلامنا هي حياتنا. لا نختبرها على النحو الذي يختبره بها المشاهد. الشيء الوحيد الذي سأطلبه من المشاركين في هذا اللقاء هو أن يكونوا حقيقيين. لا مشكلة إذا اختلفنا بعضاً مع بعض، المهم أن نقول ما نشعر به، هذا هو الشرط الوحيد للخروج بشيء مفيد من النقاش. التواجد في الحاضر صعب جداً، لأن هذا يعني أن لدينا التزامات تجاه الماضي والحاضر على حد سواء. وما هو عظيم في المستقبل هو أنه لا ينتمي الينا. لذلك واجبنا ليس تجاه أنفسنا بل تجاه هذا المستقبل والناس الذين سيأتون من بعدنا، طمعاً بالإستمرارية. أنا في هذا اللقاء، لسبب واحد ووحيد: لا شيء يخيفني. سأكون سعيداً بأي شيء يحل بي. ثمة زمن نحن داخله وثمة زمن آخر نحن خارجه. أنا متقبل لكل شيء، بدءاً من التغيير الشكلي الذي قد يطرأ على السينما. ولكن علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: هل نحن نناقش حجم الشاشة أو حجم الأفكار؟ هل نحن نناقش فكرة أن السينما لا يمكن أن تتواجد إلا في قياس معين أو أنها تحملنا إلى مكان حيث لا فن يستطيع الذهاب اليه؟ أعتقد أن علينا الرد على هذا السؤال ونحن نتطلع إلى المستقبل انطلاقاً من حاضرنا. نحن اليوم ننتج أكثر من أي زمن مضى ونشاهد أكثر من أي زمن مضى. علمونا أن نتحرك بشكل أسرع، الأمر بات أشبه باللحاق بقطار".
أين المِشكلة؟
وأضاف:"هناك كلمتان مرعبتان دخلتا معجمنا قبل نحو خمس أو ست سنوات، وهما أنابيب ومحتوى. أنابيب هي الكلمة التي تُستخدم لوصف النفط والمياه والصرف الصحي. مهما كانت أهمية الشيء الذي نتحدث عنه، فهذه الكلمات لا تصف الفن بل تصف شيئاً يعبر أمامنا. أما أنا فأرى أن العمل السينمائي القيم مكانه إلى جانب لوحة تشكيلية أو كلاسيكيات الأدب. لا نتحدّث بتاتاً عن لوحة باعتبارها لوحة قديمة بل باعتبارها لوحة. اللوحة دائماً جديدة. لوحة "ليلة النجوم" لا تزال حديثة. وعندما تفتح كتاب "الإخوة كارامازوف" لا تشعر انه قديم. الحال التي نعيشها حالياً هي من مسؤولية الموزعين وأصحاب الصالات والمخرجين. علينا أن نسأل أين هي المشكلة؟ نريد أن نتخلص من الخوف في زمن يأتينا الخوف من كل الأماكن. الشيء الوحيد الذي يجب ألا نفعله هو التمسّك بالماضي والحفاظ عليه، لأنه لن يصمد. لن يصمد بالضبط كما كان. وفي أي حال، يجب ألا يبقى كما كان. قد يبدو الأمر مبالغة، ولكن أعتقد أننا في وضع مشابه بما كان عليه الوضع عندما وجدت السينما الصامتة نفسها أمام السينما الناطقة. هذا للقول كم التغيير عميق. لا تتغير فقط طريقة تلقي المُشاهد للفيلم، بل تشمل أيضاً علاقة الجمهور بالقصة. مهما يكن الجواب على تساؤلاتنا، فإني مؤمن أننا سنجده في أماكن مثل مهرجان كان".
المكان الوحيد
السينمائي الكبير كلود لولوش الفائز بالـ"سعفة" عن "رجل وامرأة" والذي له مكان على حدة في مشهد السينما الفرنسية، بدأ مداخلته بكلام شاعري بالقول "إن أعيننا أفضل كاميرا في العالم، أما اذاننا فهي ميكرو العالم، في حين عقولنا أجمل صالة مونتاج في العالم". وأضاف: "أشعر بأنني مخرج منذ ولادتي. بدأتُ في سينما الهواة وكنا ننجز كل شيء بأيدينا. نشأتُ في زمن الموجة الفرنسية الجديدة، لكن شهدت السينما موجات جديدة بقدر ما كان هناك من اختراعات سينمائية. إنتقلنا من الصورة إلى الصوت فالألوان ثم السكوب وغيرها وغيرها. وكل اختراع صنع موجته الجديدة، والسينمائيون لجأوا اليه ليروا الأشياء بطرق مختلفة. السينما لم تتوقف عن التوسع. الهواتف النقالة حلمت بها طوال حياتي. كاميرا الهاتف هي الأقرب إلى العين البشرية. كلما ظهر اختراع سينمائي جديد ظهرت معه كتابة سينمائية من نوع جديد. أنا أؤمن جداً بمستقبل الشاشة العريضة. الصالة تعبر في أزمة، ولكن بعد استهلاكنا المنصات سندرك بأن الصالة هي المكان الوحيد لمشاهدة فيلم. أعاني من مشكلة في مشاهدة فيلم على المنصات. لا يمكن مشاهدة فيلم لجاك تاتي إلا على شاشة ضخمة. فهو يصوّر الأشياء في مشهدية عريضة، وعلى المُشاهد أن يتحلى بموهبة بحجم موهبة السينمائي، كي يتابع التفاصيل من يمين الكادر لشماله. هذا ليس ممكناً على شاشة تلفزيون. شاشة التلفزيون للقطات القريبة، وما هي اللقطات القريبة؟ انها تجسيد لديكتاتورية المخرج. في حين يمثّل المشهد العريض الديموقراطية، ذلك أن المُشاهد ينظر في المكان الذي يريده. هناك حرب، لكن السينما ستنتصر في النهاية ومهرجان "كان" يلعب دوراً إيجابياً لأنه يتيح لنا أن نشاهد الأفلام في صالات كبيرة مع هذا الجمهور الذي هو جزء من العرض".
لا تموت
في كلمة موجزة قال فيها ما قل ودل، تحدّث المخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس، صاحب الفيلم الشهير "Z"، عن الكوفيد كتاريخ مفصلي بين سينما تنتمي للماضي وأخرى للمستقبل. إعتبر أن السينما قالت كل شيء والمرحلة الماضية أُغلقت فاتحة المجال لطريقة اخرى لصناعة الأفلام. وعلّق قائلاً: "بعد الجائحة لن تكون السينما كما كانت قبلها. والتغيير لن يطاول السينما فحسب بل المُشاهد أيضاً. الجيل الجديد مختلف ونحن جميعاً مختلفون. لكن السينما مستمرة لأن الإنسان في حاجة دائمة إلى قصص. في حاجة إلى أن يخلقها وأن ينصت اليها. الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دونها. لكن هناك شيء ما يتغير بشكل جذري في طريقة العرض. الصالة باتت تنتمي إلى طبقة معينة من الناس الذين يستطيعون الإنفاق. أما المنصات فتتيح لملايين الناس الاطلاع على الأفلام مقابل القليل من المال. السينما لا تموت والجمهور لا ينقرض، لكن على السينمائيين أن يجدوا صيغاً جديدة. كلّ شيء يتغير. في بداياتي، كان يُقال لنا "لا تتحدثوا عن السياسة"، اليوم نُسأل إذا الفيلم الذي ننوي إنجازه سياسي. هذا أيضاً تغيير راديكالي”.
غاسبار نويه، المخرج الفرنسي من أصل أرجنتيني، قال شيئاً مختلفاً عن كلام زملائه، إذ ذكر أن الحجر الصحي الذي أجبره على ملازمة البيت خلال تفشي الوباء جعله يقدّر السينما ويطلع على الأعمال الخالدة التي صنعت أهميتها. قال: "نميل إلى تحميل الكوفيد كل مشاكلنا. في حالتي، استعدتُ نشاطي السينمائي بسبب الوباء. دخلت المستشفى وعندما خرجتُ منه، طلب إليّ الطبيب أن أبقى في المنزل للراحة، فأمضيتُ أربعة أشهر أشاهد فيلمين كل يوم من أبرز كلاسيكيات السينما. عاينتُ ميزوغوتشي وتاركوفسكي وكيارستمي. أفلام كنت سمعت عنها من الجميع ولم أكن قد شاهدتها. استعدتُ شبابي السينمائي بسبب الـ"بلو راي" والـ"دي في دي". جرّبتُ كل شيء في حياتي، ولكن المخدر الوحيد الذي أفادني هو السينما. ومهما تكن الطريقة التي سأحصل بها على هذا المخدر سأستهلكه. للسينما مستقبل، قد يكون من خلال المنصّات أو اختراعات لا نعرفها بعد. اليوم بات الاطلاع على السينما أسهل ممّا كان عليه لأبناء جيلي، سواء كنت في مجاهل تشيلي أو في إفريقيا. هذه أشياء لم تكن ممكنة في السابق إذا لم يكن مكان اقامتك سينماتيك كالتي في باريس مثلاً".