روسيا تقول إن فرنسا نشرت أخباراً كاذبة، وأميركا ترى أن الدبابة المحترقة في الفيديو لم تكُن أوكرانية بل روسية، بينما تذهب موسكو إلى أن ما نشرته كييف عن قصف القوات الروسية لمستشفى أطفال في أوكرانيا كذب وتدليس. وبريطانيا تعلن أن روسيا خدعتها بـ"مكالمات كاذبة" من مسؤول أوكراني. ورئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف يحذر من استخدام الأخبار الكاذبة عن حرب روسيا في أوكرانيا لنشر الكراهية بين الأعراق المختلفة في بلاده.
الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ظهر في فيديو مطالباً الشعب بإلقاء الأسلحة والاستسلام للروس، في وقت سجل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيديو وآثار المرض واضحة عليه. ربما يكون "باركنسون" الذي يصيب الجهاز العصبي ويؤثر في الحركة أو السرطان. فيديو ثالث نشره الحساب الرسمي الناطق باسم البرلمان الأوكراني يظهر باريس تحت القصف الروسي. ومقطع من مسلسل "فاميلي غاي" الكرتوني الأميركي الشهير الذي بدأ إنتاج حلقاته عام 1999 يصور بوتين وهو يخيف المحيطين به بمسدس ثم بندقية بغرض تهريبهم فقط، يحقق مشاهدات مليونية في دقائق معدودة ويثير شعوراً بأن المسلسل تنبأ بحرب روسيا في أوكرانيا.
شاهد عيان على الفبركة
لكن حرب روسيا في أوكرانيا في يومها المئة تقف شاهد عيان على عصر الأخبار الكاذبة والفيديوهات المفبركة والتصريحات العجيبة وردود الفعل الأكثر عجباً وإعادة تدوير كل ما سبق في بوتقة التواصل الاجتماعي لتصنع من الحبة قبة، ومن الفسيخ شربات، ومن الكذب والتدليس والفبركة أخباراً ومواد إعلامية ورأياً عاماً غارقاً في بحر من الحقيقة والخيال.
بحر الحقيقة والخيال في اليوم المئة لحرب روسيا في أوكرانيا بلغ درجة من ارتفاع منسوب الأخبار والفيديوهات والمواد الإعلامية المفبركة غير مسبوقة في تاريخ الكذب وأرشيف الاستقطاب. هذه المرة الكذب أممي والفبركة لمن أتقن تقنياتها والاستقطاب لمن سبق.
سبق وذاقت مناطق عدة في العالم طعم الفبركة ونكهة الاجتزاء في الخبر والصورة والفيديو. فمن تظاهرات أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر "المليونية" عام 2013، التي تبين في ما بعد أنها "عشرية"، إلى أخبار متواترة عن تأييد البابا فرنسيس لترمب رئيساً لأميركا عام 2016، إلى فيديو يظهر رجم مجموعة كبيرة من الهنود الهندوس رجلاً مسلماً حتى الموت، يظل قوس المواد الإعلامية المفبركة مفتوحاً، لكن بعد مرور مئة يوم على حرب روسيا في أوكرانيا، ربما يجدر بجانب كبير من التغطية الإعلامية – التقليدية والعنكبوتية على متن الـ"سوشيال ميديا"، أن تنال أوسكار "الأخبار الكاذبة" التي أعلن عنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ساخراً ومتفكهاً عام 2017.
ما تخبئه 2022 كان أعظم
وقتها غرد ترمب أن عام 2017 "كان عام الانحياز المفرط والتغطية الإعلامية غير النزيهة والمعلومات الكاذبة"، لكنه على الأرجح لم يدرِ أن ما تخبئه 2022 كان أعظم. ولعل ترمب لم يتخيل أن تشبيه السيناتور الأميركي جيف فليك له وقتها بـ"ستالين" في اللغة التي يستخدمها لمهاجمة الصحافة "الصادقة الحرة وتقويضها"، سيتحول حقيقة أممية بعد خمسة أعوام.
المئة يوم السابقة أطلت على العالم بأخبار من الشرق والغرب، بعضها غارق في التسييس والآخر عامر بالاستقطاب والجانب الأكبر يعتبره فريق تدليساً ويقدمه الآخر باعتباره الواقع من دون إضافات أو محسنات أو نكهات.
نكهة العظة والعبرة والحكمة التي حملها فيديو "باريس تحت القصف الروسي" في منتصف مارس (آذار) الماضي ويصور تعرض العاصمة الفرنسية لهجوم روسي عسكري مكثف بالقنابل والمقاتلات العسكرية، وفي خلفية صوت الانفجارات المروعة، رضيع يبكي وامرأة تستغيث وأفراد يصيحون، رفضها كثيرون باعتبارها أسلوب تسويق رخيص وطريقة دعاية مقززة. الفيديو الذي نشر على حساب "تويتر" الرسمي للبرلمان الأوكراني بهدف جذب نظر الفرنسيين والأوروبيين إلى ما تتعرض له أوكرانيا من اعتداء روسي، وأن السكوت على هذا الاعتداء لن ينجم عنه إلا تمدد الهجوم الروسي ليشمل هذه البلدان، أثار غضب القطاع الأكبر من الملايين التي شاهدت الفيديو عقب بثه، بعد أن تمكن منهم الهلع قبل أن يكتشفوا أن الفيديو مفبرك ولكن من أجل غاية "سامية".
سمو الغايات وتدنيها
سمو الغايات من وراء نشر المواد الإعلامية الكاذبة والمفبركة اختلط بتدنّيها على مدار مئة يوم. وما يبدو سمواً لطرف في حرب روسيا في أوكرانيا هو تدنٍّ في نظر الآخر. وليس أدل على ذلك من انتشار فيديوهات أخرى في التوقيت ذاته، ولكن هذه المرة بطلها الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي يظهر مرة وكأنه مدمن كوكايين، وأخرى وهو يحتفل في حفل صاخب، لكن الفيديو الأشهر والأعمق والأخطر أثراً ظهر فيه وهو يطالب شعبه بالاستسلام للروس. الفيديو نموذج يحتذى في مدرسة الفبركة متناهية الدقة أو "التزييف العميق". عمق التزييف وإتقان الفبركة وصلا إلى درجة نجاح المفبركين في بلوغ قناة "أوكرانيا 24" وظهر خبر المطالبة بالاستسلام في الشريط الخبري الراكض أسفل الشاشة.
الشاشة المحمولة في كل يد المنسوب لها فضل التمكين المعلوماتي أثبتت على مدار مئة يوم من الحرب أن نجاح التمكين لا يأتي من دون ثمن فادح اسمه التضليل المعلوماتي.
"تيك توك" سلاح
فمثلاً ثمن بلوغ منصة "تيك توك" 1.2 مليار مستخدم ناشط شهرياً (يتوقع أن يصلوا إلى 1.5 مليار خلال العام الحالي) أسهم في تحويل هذه المنصة إلى سلاح يستخدمه الفريقان المتناحران لدحر الآخر عنكبوتياً. المتعقلون يقولون إن "تيك توك" أصبح ساحة حرب مشتعلة لا تقل خطراً عن تلك المتأججة في شوارع أوكرانيا ومدنها.
مئة يوم من عمر الحرب تخبر الجميع أن المساواة بين الأطراف المتناحرة في غض الطرف عن الكذب أو التدليس أو نشر الكراهية ليس عدلاً بل توسيعاً لقاعدة الفتنة وإطالة لأمد الحرب. اتهامات وانتقادات عدة تلقتها إدارة "تيك توك" بأنها تتغاضى عن محتوى "مضلل" مصنوع من قبل طرفي الحرب ويتم بثه ونشره وتوغله من خلال حسابات متعددة تم إنشاء كثير منها، على الأرجح، خصيصاً لهذا الغرض. ولأن المحتوى الأكثر انتشاراً هو الذي يكتب له البقاء والسطوة، فإن مسائل التدقيق والتأكد من مصداقية الأخبار ظلت تمر مرور الكرام لأسابيع عدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انفجارات من وحي الخيال
مقاطع فيديو تحمل صوت وصورة انفجارات مدوية وحياة بائسة في ملاجئ تحت الأرض. مقاطع أخرى توثق الحياة اليومية لسكان أوكرانيا في ظل الحرب، بعضها غارق في البؤس والدمار والآخر يحمل قدراً من الدعابة والأمل، لكن آلاف المقاطع تحمل رؤى مؤيدة لشن حرب روسية على أوكرانيا، وأخرى في المقابل تتهم روسيا بالبغي وخرق القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وكل منها معضد بـ"أدلة" من التاريخ و"براهين" من الجغرافيا وتحليلات سريعة تقف على طرفَي نقيض لكن جميعها يحمل قدراً مبهراً من القدرة على الإقناع.
إقناع 4.65 مليار مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي في العالم بأن ليس كل ما يلمع ذهباً، لا سيما أن المعروض آتٍ من الشرق والغرب وما بينهما، أمر بالغ الصعوبة.
"باركنسون" بوتين و"كوكايين" زيلينسكي
صعوبة التحقق إذا ما كان بوتين يمسك طرف المكتب بيده بينما قدمه اليمنى تتحرك لا إرادياً بفعل المرض أو كونها حركات عادية في فيديو انتشر انتشاراً فيروسياً، دفع ملايين إلى الاعتقاد أن الرئيس الروسي ربما مريض جداً، لكن التحقق من مصداقية الفيديو من الأصل صعب في زمن "التزييف العميق".
وسواء كان التزييف عميقاً أو سطحياً، فإن المئة يوم السابقة تشير إلى أن عداد الضحايا لا يشمل قتلى وجرحى من الطرفين ونازحين أوكرانيين ودولاً متضررة في محيط الدولتين فقط، لكنه يشمل المصداقية الخبرية والثقة الشعبية والمادة الإعلامية. رئيس يطالب شعبه بالاستسلام بالصوت والصورة، ثم يتضح أنه لم يتحدث أصلاً. رئيس آخر يبدو مريضاً ومهزوزاً ومتردداً ثم يظهر بعدها صحيحاً ثابتاً واثقاً.
الحقيقة مغدورة
وكأن المئة يوم السابقة بكل أهوالها ليست كافية لتخبر الجميع أن المعلومات المضللة باتت سمة العصر وأن الحقيقة مغدورة وأن أزمة ثقة عميقة تولدت بين المتلقين وصانعي المحتوى، فإذ بصورة فوتوغرافية متداولة على منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الخبرية العالمية للرئيس الأميركي جو بايدن في مؤتمر صحافي، كُتبت عليها أسئلة معدة سلفاً يفترض أنها ستسأل في المؤتمر مزودة بـ"الإجابات النموذجية".
الإعلام الغربي نفسه سمّاها بـ"ورقة ملحوظات الغش" أو Cheat sheet notes عنوان الورقة "أسئلة وإجابات صعبة حول بوتين". حسنو النية قالوا، "ربما يحتاج الرجل (بايدن) إلى ملحوظات تذكره بالخطوط العريضة، لا سيما أنه وقع في أخطاء كلامية محرجة كثيرة". أما سيئو النية، فاتهموا البيت الأبيض بتزييف المؤتمرات الصحافية وتقييد مجال طرح الأسئلة بدلاً من فتح أبواب السؤال على مصاريعها الديمقراطية.
مصاريع الحرب مثيرة
مصاريع الحرب الدائرة رحاها منذ مئة يوم مثيرة، لكن من الإثارة ما قتل، لا سيما حين تبقي على ملايين أو مليارات المتابعين في هواء الشك وعدم اليقين. سيل هادر من الفيديوهات والصور والتدوينات والتغريدات هائمة على وجهها في الأثير. تقرير في جريدة فرنسية يظهر ملصقات هتلر على واجهة محال "شانيل" الباريسية، بينما يضع الزعيم الشيشاني رمضان قديروف سلاحه إلى جواره ويصلي على سجادة صلاة في شارع بأوكرانيا، في وقت تأسر روسيا مسؤولاً في حلف شمال الأطلسي "ناتو".
القوات الأوكرانية تقصف مدينة كراماتورسك شرق البلاد، و"مجزرة" بوتشا مسرحية أوكرانية، كييف تعلن حيازة محتملة لأسلحة نووية، و"ناتو" يبدأ عملية تطوير عسكرية ناشطة في المناطق المتاخمة لروسيا، أما النازيون الجدد، فيديرون الدولة في أوكرانيا، فيديو يصور احتفالات روسية عارمة بالانتصار في أوكرانيا، فيديو يصور احتفالات أوكرانية عاتية بوقف توغل الروس وقائمة يبقى قوسها مفتوحاً من المحتوى المفبرك أو الذي يعود إلى حروب سابقة أو مواقع تصوير سينمائي أو عبر تقنيات تزييف عميق وكذب تم تنفيذه باحتراف.
الإعلام التقليدي
حرفية الإعلام التقليدي وجدت نفسها هي الأخرى على مدار المئة يوم قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في براثن محيط الأخبار الكاذبة والفيديوهات والصور المفبركة. عدد من وسائل الإعلام التقليدية من محطات تلفزيونية ومواقع خبرية وصحف ورقية نقل عن الـ"سوشيال ميديا" ما ورد فيها من مادة خاصة بالحرب، من دون التحقق من مصداقيتها أو بعد التحقق غير الكافي.
كفاية التدقيق أثبتت أنها تظل دائمة قاصرة. التدقيق يسير بتؤدة، لكن الفبركة تبقى سابقة بخطوات وربما أميال، وتجاهل الإشارة إلى مقطع فيديو حقق 10 ملايين مشاهدة في نصف ساعة يحتاج إلى صبر أيوب وتقوى يوسف وزهد محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يكُن متوافراً على مدار المئة يوم السابقة.
هذه الأيام قدمت للبشرية وليمة من الكذب والفبركة بمذاقين رئيسين وإن كانا شديدَي التشابه لحد التطابق باستثناء اسم المعتدي والمعتدى عليه. فالأخبار التي يعتقد أنها كاذبة الواردة من روسيا أو الدول المتعاطفة معها، تصور الجانب الروسي باعتباره يدافع عن الحقوق ويدرأ الأخطار. وفي المقابل، فإن الأخبار التي يرجح أنها كاذبة تأتي من أوكرانيا والدول المؤيدة لها تعتبر روسيا باغية وأوكرانيا ضحية. وعلى الرغم من ترجيح كفة اعتداء الطرف الروسي، إلا أن شبهة المبالغة واتهامات التدليس من باب "الغاية تبرر الوسيلة وتبرئ الفبركة"، لحقت بها.
الملاحظ كذلك أن الجميع، أفراداً ودولاً وإعلاماً جديداً وتقليدياً وصحافة مواطن، ضالع في التضليل بدرجات متفاوتة. بعض هذه الدرجات حظي بقدر بالغ من التفهم والتبرير، والآخر قوبل برفض عاتٍ وهجوم ضارٍ، بحسب التوجهات السياسية والمصالح الاقتصادية للجهة المتابعة.
متابعة من على الكنبات
المتابعون لمجريات حرب روسيا في أوكرانيا من على كنباتهم وخلف شاشاتهم بأنواعها يخضعون لدروس مكثفة منذ مئة يوم حول الإعلام في العام الـ22 من الألفية الثالثة، ودور الإعلام التقليدي ومنافسة إعلام الـ"سوشيال ميديا"، وضلوع صحافة المواطن (وربما الميليشيات العنكبوتية) في توثيق الحرب على مدار الساعة توثيقاً لا يخلو من توجهات مسبقة، والفروق الكبيرة بين المعلومات المضللة عن عمد Disinformation والمضللة من دون عمد Misinformation، وإن ظل كلاهما على مدار مئة يوم سبباً لضياع الحقيقة وفقدان الثقة بالأخبار والفيديوهات والصور.