لا يكاد العالم ينفض عن نفسه كابوس حرب، حتى تشتعل حرب جديدة، كما لو كان الصراع والتشريد والقتل وحصد الأرواح قدر البشرية المحتوم. حكام يُشعلون المعارك انطلاقاً من غرف مغلقة لا يغادرونها، بينما يدفع تكلفتها الباهظة ملايين من الأبرياء. حروب طويلة ومتعاقبة لم يوثقها التاريخ وحده، وإنما استلهمها الأدب. واستخلص منها الروائيون في مختلف أنحاء العالم، أعمالاً استثنائية، تجاورت فيها الحقائق إلى جانب التخييل، بهدف واحد هو الكشف عن قبح الحروب، ومناهضتها، ولكن هيهات أن ينجح هذا الأدب في إثناء شبح الحرب، ما دام الحكام لا يبالون بما تحمل الروايات من مآسٍ تاريخية.
رؤية مغايرة
في القرن السابع عشر صدرت بعض الأعمال الروائية المهمة، مثل رواية "دون كيشوت" (1605) للكاتب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، والتي تعد من أعظم الأعمال الروائية العالمية. طرحت الرواية فكرة خدعة الحرب وأوهامها، من خلال أحداث دارت حول رجل نهم بالقراءة، وقع في فخ تصديق كل ما قرأه عن الفروسية، فقرر أن يحمل درعه ويترك منزله، باحثاً عن مغامرات، يلعب فيها دور الفارس الشهم. وعلى الرغم من نزوعه للخير وإقامة العدل، فإن تصوراته الخادعة عن الفروسية، دفعته لأن يخوض حروب خاسرة مرة بعد مرة.
وفي القرن الثامن عشر جسّد الفرنسي فولتير فكرة الشر المطلق الكامن في الحرب في روايته "كانديد"، التي كتبها عام 1759، وتطرق فيها بالرمز إلى حرب السنوات السبع، التي خاضتها أوروبا. وامتد تأثيرها لأربع قارات أخرى، وطرح أسئلة جدلية عن الخير والشر، وسعى عبر رحلة شخصيته المحورية، للسخرية من فكرة التفاؤل، بعد ما شهده من شرور مهولة كانت الحروب مصدر بعضها.
وعلى الرغم من أهمية هذه الأعمال، يعتبر القرن التاسع عشر البداية الحقيقية لظهور روايات الحروب، التي تبلورت فيها المفاهيم، ليقدم الأدب رؤية جديدة مناقضة لما كانت تصدره الملاحم القديمة من تمجيد للحرب، خصوصاً في "الإلياذة" لهوميروس الإغريقي، فصدرت أعمال كبيرة وخالدة من بينها رواية "الحرب والسلم" للكاتب الروسي تولستوي. ولعلها واحدة من سخريات القدر أن تكون هذه الرواية التي تصنف كإحدى روائع الأدب العالمي، قد خرجت من روسيا، التي يشن حاكمها اليوم حرباً على جارته أوكرانيا، يدفع ثمنها العالم بأسره. لم ترصد الرواية التي تدور خلال اجتياح نابليون لمدينة بطرسبورغ الروسية عام 1805، حالتي الحرب والسلم، أو مشكلات المجتمع الروسي آنذاك، من تفاوت طبقي وحياة الترف لدى طبقة النبلاء وحسب، وإنما اقتربت من الإنسان. ورصدت قيمة الحياة. وأظهرت عبثية الحروب، وما تسفر عنه من حزن، وفراق، ومعاناة. وكان ما زخر به النص من ثنائيات متقابلة، بمثابة جسور مدّها الكاتب عبر بنائه، لتعبر فوقها غاياته في تصوير جحيم الحرب. وكانت شخوصه، أدوات نقل عبرها الأهوال على خط النار، وأحوال الجنود، والتكلفة الكبيرة لصراعات عسكرية، تودي بمصائر الشعوب.
كل شيء إلا المجد
ستندال أو الكاتب الفرنسي ماري هنري بيل نشر في عام 1839 روايته "صومعة بارما"، التي أعجب بها بلزاك، وكتب عنها مقالاً مطولاً في 72 صفحة. وحازت أيضاً إعجاب تولستوي، وأندريه جيد، ودي لامبيدوزا، وهنري جيمس.
رصدت الرواية معركة واترلو، آخر معارك نابليون بونابرت، التي حصد فيها هزيمة ثقيلة في بروكسل. وتحكي عن شاب من النبلاء، لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، منقسم بين هوية إيطالية وانتماء فرنسي. يتحدى أباه اليميني. ويتطوع للانضمام بالحرب، التي لا يعرف شيئاً عنها، متأثراً بأحلام نابليون العظيمة، لكن شعوره بالفخر يتبدد بعد انخراطه بالمعركة. ويبقى الذعر وحسب.
التقط ستندال عبر الأحداث صور الجثث الملقاة على الطريق بأعين مفتوحة، الحقول المحترقة، الفوضى، الرصاص، الذعر، ليتكشف للبطل والقارئ معاً، أن كل شيء موجود في الحرب إلا المجد. ويتضح عبر ما يبرزه النص من القمع، الاستبداد، حياة القصور، فساد السلطة والمؤامرات السياسية، عبثية الحرب وما يقوم به القادة من تنويم مغناطيسي لشعوبهم باستخدام أحلام العظمة ليقودوهم إلى الهلاك... يقول ستندال في الرواية: "لا شيء من الشجاعة أو المعاناة المشرفة. تظهر الحرب من دون العظمة فيها".
هذه الحرب النابليونية ومعركة واترلو كانت أيضاً محوراً للأحداث في رائعة فيكتور هوغو "البؤساء". فأفرد لها تسعة عشر فصلاً، أبرز خلالها بُغضه الشديد لها، مستعيداً الموت المدمر، وأشباح تلك الكارثة، وما تسببت فيه من معاناة الفرنسيين لسنوات طويلة، قبعوا خلالها في الفقر والبؤس والظلم الاجتماعي. وقد حققت الرواية شعبية عالمية كبيرة، لا سيما في أميركا أثناء الحرب الأهلية الأميركية، لتصبح أكثر الكتب مبيعاً، نتيجة ما رصدته من معاناة القتال، والتماثل العاطفي مع شخوصها.
أما الروائي الفرنسي إيميل زولا فتصنف روايته "الكارثة" كواحدة من أهم روايات الحرب، التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر "1892"، إذ جسدت معاناة ومأساة الجنود. وانتقدت تصرفات الجيش، والحكومة الفرنسية، أثناء الحرب الفرنسية - البروسية. وتعرضت هذه الرواية لهجوم من الفرنسيين والألمان على حد سواء.
بلا عاطفة
كانت مذكرات المحاربين الأميركيين القدامى عن الحرب الأهلية الأميركية، سبباً دفع ستيفين كرين لكتابة روايته "شارة الشجاعة الحمراء" 1895 - وكان عمره حينذاك لم يتجاوز الـ24 عاماً - بعد أن وجد مذكراتهم بلا عاطفة. فجسّد في روايته الوجه المفزع للحرب. وصور القتل والفوضى، والأدرينالين والغضب والدم، ما وضع الرواية في قائمة الأعلى مبيعاً. واعترف الكاتب والصحافي الأميركي أمبروز بيرس، أن كرين على الرغم من أنه لم يخُض حرباً، فإن روايته أعطت صورة حقيقية وصادقة عن الحرب. وقال عنه: "هذا الشاب لديه القدرة على الشعور. هو غارق في الدم، بينما معظم المبتدئين الذين يتناولون هذا الموضوع، يرشون أنفسهم بالحبر فقط".
كانت الحرب الأهلية الأميركية موضوعاً تناوله العديد من الكتاب، في القرن التاسع عشر. واستعادها أيضاً كتاب آخرون، خلال القرن العشرين، على نحو يظهر قسوتها، مثل رواية "ذهب مع الريح لمارغريت ميتشل، ورواية "غير المقهور" لويليام فولكنر، ورواية "الملائكة القاتلة" لمايكل شارا.
هذه الروايات العالمية وغيرها، قدمت دروساً عن وحشية الحرب، لكن الحكام لم يعوها. فاستمر الصراع. وجاء القرن العشرون، ومعه حربان عالميتان ثقيلتان. تدفقت الدماء التي أراقتها في شرايين الأدب، فأمدته بمادة إنسانية خصبة، وفجّرت مكامن الإبداع، وأثمرت روايات عالمية استثنائية، منها على سبيل المثال رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" للكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك، وربما كان سر نجاح هذه الرواية، التي ترجمت لأكثر من 30 لغة، وبيعت منها ملايين النسخ، أنها تعبر عن تجربة ذاتية ومروعة للكاتب. فلا يمكن الفصل بين ريمارك وبين باول - الشخصية المحورية في النص - الطالب الذي دفعته ورفاقه، كراهية الآخر والعصبية، تحريض معلمهم وسذاجتهم المفرطة، للتطوع في الحرب. ليتحول المشهد السردي من سماء صافية إلى أمطار من الرصاص، دماء، وأشلاء، وغاز وألغام. استطاع ريمارك في روايته استنفار كل الحواس، فتسللت عبر سطوره رائحة الموت والغاز، ودوي النفجارات، وصيحات الفزع والجوع، وتوسلات المصابين، ومشهد الدماء اللزجة. ليشي عبر ذلك كله بالخديعة الكبرى، التي أطعمت الموت ملايين البشر من أجل لا شيء. أما الناجون فهم لم ينجو حقيقة، فحين عاد باول إلى قريته لم يتمكن من الاندماج مع أسرته. وبات غريباً بينهم.
رشح ريمارك لجائزة نوبل للسلام عام 1931، وحققت روايته نجاحاً عالمياً كبيراً، واحتلت قائمة الكتب الأعلى مبيعاً. وترجمت لأكثر من 30 لغة، لكن صعود هتلر واكتساح الحزب النازي، كان لعنة على الرواية، التي لم تحمل أي دعاية للنازية، بينما حوت رؤية سوداوية للحرب، تعارض رؤية النازيين لها كمشروع نبيل. وانتهى به الأمر لمغادرة ألمانيا.
ومثلما عايش ريمارك تجربة الحرب بعد تطوعه فيها، عايش التجربة نفسها الكاتب الأميركي آرنست همنغواي، الذي خاض جحيم الحرب، فظهر صداها في الكثير من رواياته، مثل "النهر الكبير ذو القلبين"، التي رصدت الدمار المادي الهائل، وصدمة المحاربين على خط النار، التي تطيح عقولهم. وتسلمهم للجنون. كذلك جسدت روايته "وداعاً للسلاح" التي نشرت عام 1929، المأساة ذاتها، وما نتج عنها من ضياع الحلم، والقيمة. أما روايته "لمن تقرع الأجرس؟"، فتناولت تطوع الكثير من الشيوعيين الأميركيين، في الحرب الإسبانية الأهلية، رغبة في هزيمة الفاشية، بعد انتصارها في إيطاليا وألمانيا، لكن حتى وإن اندلعت الحرب بدافع الأيديولوجيا، فهي حتماً تخرج أسوأ ما في الإنسان. وهذا ما رصده همنغواي في روايته هذه.
أسوأ من الموت
"جوني حصل على بندقية"، رواية للكاتب الأميركي "دالتون رامبو"، نشرت عام 1938، تدور أحداثها حول جندي تعرض للقصف في ميدان المعركة، ليستيقظ في أحد المستشفيات أصم وأبكم وأعمى، بعد أن فقد وجهه، وفقد أطرافه أيضاً نتيجة للقصف. يغطي وجهه بقناع، حتى لا تنزعج الممرضات من مظهره، هذا الجندي ذو العشرين عاماً، يدرك ما آل إليه من موت، بينما لا يزال على قيد الحياة. ويدرك القارئ معه، أن الحروب تأتي ببعض الأقدار، التي قد تكون أحياناً أسوأ من الموت. ويعزز الكاتب هذه الرؤية عبر سرد ذاتي، يسترجع جوني "الشخصية المحورية" من خلاله، حياته البسيطة في بلدته الصغيرة "كولورادو"، قبل أن يلتحق بالحرب، ويتعرض لهذه المأساة. ليبرز هذا التقابل بين المشهدين، بشاعة الحرب وقسوتها. يبتكر البطل الضحية طريقة للتواصل مع العالم الخارجي عن طريق النقر برأسه مستخدماً شيفرة موريس. ويطلب عبر هذه الشيفرة، أن يعرض خارج المستشفى ليدرك الناس بشاعة الحرب، لكن القادة يرفضون كي لا يكون ما آل إليه جوني سبباً يمنع الآخرين من الانضمام إلى صفوف الجيش!
"الخدعة 22"، للكاتب الأميركي جوزيف هيلر، رواية أخرى تصنف ضمن أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، مرر كاتبها عبر ما اعتمده من أسلوب ساخر وكوميديا سوداء، رؤيته حول عبثية الحروب. وحاكم الأنظمة التي تشنّها، بينما استطاع سبيستيان فولكس في رائعته "بيرد سونغ"، أن ينقل رحى الحرب، إلى صفحات روايته واصفاً بدقة آلية القتل، كثافة الموت، الجثث المتراكمة، وتلك المتفجرات التي حولت الرجال إلى أشلاء صغيرة، أثناء الحرب العالمية الثانية.
مخاوف فيرجينيا وولف
كثير من الأعمال الأدبية العالمية التي تناولت الحروب كقضية محورية لها، تشاركت الفضاء المكاني نفسه، إذ دارت أحداثها فوق خط النار. وكان الجنود هم أبطالها، وأهم شخوصها المحورية، لكن أعمالاً أخرى رصدت آثار الحرب الاجتماعية وتداعياتها، بعيداً من ميدان المعركة، مثل العديد من أعمال فيرجينيا وولف، التي هيمن عليها مناخاً من الخوف والقلق والشعور بانعدام الأمان، نتيجة الحرب العالمية الأولى. وقد كان فقد وولف ابن أخيها "جوليان بيل" في الحرب الإسبانية الأهلية، سبباً إضافياً عزز من حالة القلق التي هيمنت على كتاباتها ورسائلها، وحتى على حياتها التي انتهت بالانتحار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كانت فيرجينيا وولف تعيش شعوراً دائماً من القلق، منبعه ترقبها وقوع حرب جديدة، بسبب ما وصفته بالهيمنة الذكورية الهتلرية اللاواعية، لذا حاولت عبر العديد من أعمالها، لا سيما روايات "غرفة يعقوب"، السيدة "دالواي"، "بين الفصول"، إيقاظ الضمير الإنساني ودق ناقوس الخطر، لتنذر بما يمكن أن تؤدي إليه الحروب من فناء البشرية وتدمير العالم.
روايات أخرى بدت الحرب فيها خلفية للأحداث، ومحركاً رئيساً لها، لا سيما رواية "كلارا وبيبو" للكاتبة ديانا روزي، والتي تدور أحداثها في إيطاليا في عام 1938، أثناء سيطرة موسوليني. تمزق الحرب المدينة، فترحل أسرة من أم وطفلين إلى مدينة أخرى، لم يذكر اسمها في سياق السرد، ثم تختفي الأم ويبدأ الطفلان رحلتهما للبحث عنها. وعبر هذه الرحلة ترصد الكاتبة انقلاب الدهر، وقسوة الحياة، وأثمان الحرب الباهظة، التي يدفعها أولئك الذين لا حول لهم ولا قوة.