في الوقت الذي تحذر فيه المؤسسات الدولية من لجوء روسيا إلى استخدام الحبوب، وبخاصة القمح سلاحاً في الرد على العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، تشير البيانات إلى أن دول الشرق الأوسط تتصدر قائمة المتضررين من الأزمة، لكن في الوقت نفسه، ربما تكون الأزمة أشد عنفاً في لبنان واليمن ومصر وتونس.
وتشكل روسيا وأوكرانيا نحو 29 في المئة من صادرات القمح العالمية، و19 في المئة من صادرات الذرة، و80 في المئة من الصادرات العالمية لزيت دوار الشمس، وتسببت الحرب الروسية في أوكرانيا في ارتفاع قياسي بأسعار الحبوب، ووفق منظمة الأغذية والزراعة العالمية، فقد بلغ متوسط مؤشر "الفاو" لأسعار الغذاء 157.4 نقطة في مايو (أيار) الماضي، بانخفاض نسبته 0.6 في المئة عن أبريل (نيسان)، ولكن ظل المؤشر، الذي يتتبع التغيرات الشهرية في الأسعار الدولية لمجموعة من السلع الغذائية المتداولة بشكل شائع، أعلى بنسبة 22.8 في المئة مما كان عليه في مايو من العام الماضي.
وارتفع مؤشر "الفاو" لأسعار الحبوب بنسبة 2.2 في المئة عن الشهر الماضي، وفي المقدمة أسعار القمح، التي ارتفعت بنسبة 5.6 في المئة عن أبريل، و56.2 في المئة عن قيمتها في العام السابق، وتسبب حظر التصدير الذي أعلنته الهند والمخاوف بشأن ظروف المحاصيل في العديد من البلدان المصدرة الرئيسة إضافة إلى انخفاض آفاق الإنتاج في أوكرانيا بسبب الحرب، في ارتفاع أسعار القمح العالمية، التي بلغ متوسطها أقل بنسبة 11 في المئة فقط عن المستوى قياسي تم الوصول إليه في مارس (آذار) من عام 2008، كما ارتفعت أسعار الأرز الدولية بشكل عام.
ومن المتوقع أيضاً أن ينخفض الاستخدام العالمي للحبوب بشكل ثانوي خلال عامي 2022 و2023، بنحو 0.1 في المئة عن 2020 و2021 إلى 2788 مليون طن، وهو أول انكماش منذ 20 عاماً، ويرجع هذا الانخفاض بشكل رئيس إلى الانخفاض المتوقع في استخدام القمح والحبوب الخشنة والأرز في الأعلاف، بينما من المتوقع أن يزداد الاستهلاك الغذائي العالمي للحبوب بما يتماشى مع الاتجاهات السكانية العالمية، ومن المتوقع أن تنخفض التجارة العالمية في الحبوب بنسبة 2.6 في المئة إلى 463 مليون طن، وهو أدنى مستوى منذ ثلاث سنوات، حتى مع بقاء توقعات التجارة الدولية للأرز إيجابية.
أوكرانيا تتهم روسيا بسرقة الحبوب الحيوية
في تصريحات حديثة، قال وزير الزراعة الأوكراني ميكولا زولسكي، إن الغزو الروسي لأوكرانيا سيوجِد نقصاً في القمح العالمي لثلاثة مواسم على الأقل بحجب كثير من المحصول الأوكراني عن الأسواق، ما يدفع الأسعار إلى مستويات قياسية، وتحاصر روسيا الخطوط البحرية لتصدير الحبوب الأوكرانية، ويواجه البلد، الذي يُعرف أحياناً بأنه سلة الخبز لأوروبا، مشاكل أخرى تتراوح من تلغيم حقول القمح إلى نقص في مساحات تخزين الحبوب.
وقال الوزير الأوكراني، إن "أوكرانيا ستنفصل عن السوق لوقت طويل"، وزرعت أوكرانيا حوالى 6.5 مليون هكتار (الهكتار يساوي 10 آلاف متر مربع) بالقمح لمحصولها لعام 2022، لكن يمكن للمزارعين حصاد المحصول في خمسة ملايين هكتار فقط في مناطق تسيطر عليها الحكومة.
وتتهم أوكرانيا روسيا بسرقة إمدادات الحبوب الحيوية، وهي مزاعم وصفها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأنها "ذات مصداقية"، غير أن موسكو تقول، إن العقوبات الغربية هي التي أفضت إلى هذا الوضع الذي يهدد بإحداث أزمة غذاء عالمية، ونقلت وكالة "إنترفاكس" الروسية عن إيلينا تورينا المحللة بـ"اتحاد الحبوب الروسي" أن البلاد صدرت 1.26 مليون طن من القمح في مايو، وهو ما يعادل نحو ضعف الكمية التي تم تصديرها قبل عام، ووصل إجمالي صادرات الحبوب لشهر مايو إلى 1.81 مليون طن.
ومنذ بداية الموسم الجاري (الذي بدأ في يوليو (تموز) من العام الماضي وينتهي في يونيو (حزيران) الحالي)، صدرت روسيا 41.7 مليون طن من الحبوب، أي أقل بـ14 في المئة عن العام الماضي، منها 35 مليون طن من القمح، بتراجع نسبته تسعة في المئة عن العام الماضي، وتوقعت تورينا أن تنشط التعاقدات للموسم التالي حالياً، موضحة أن الأسابيع الثلاثة الماضية شهدت إقبالاً من كبار التجار فقط، وأشارت إلى أنه من المحتمل أن يتم تصدير مليون طن إضافي من القمح في يونيو الجاري، وفقاً لحصة القمح التي تسمح روسيا بتصديرها.
الجوع يهدد ملايين الأشخاص عالمياً
وفي ظل ما تشهده أوكرانيا من أحداث، تتزايد المخاوف بشأن دخول العالم في أزمة غذاء، فمنذ بداية الحرب الروسية، وحتى الآن، ارتفعت أسعار المواد الغذائية العالمية بنحو 30 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، بحسب تقارير الأمم المتحدة، ولا يزال الغرب وروسيا، كل يلقي بأوراقه للسيطرة على شرق أوروبا.
وتعد روسيا الأولى عالمياً من حيث تصدير القمح بحجم 37.3 مليون طن سنوياً، تليها الولايات المتحدة وكندا بـ26.1 مليون طن، وأوكرانيا في المركز الرابع بـ18.1 مليون طن، في وقت يبلغ إجمالي محصول القمح الروسي 77 مليون طن، وحسب "الفاو"، فإن العالم يتجه إلى مجاعة تهدد 276 مليون شخص.
الجانب الروسي بدأ الحديث عن المجاعة، وهو ما يشير إلى دول الحبوب في ساحة الحرب، وقال مساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشؤون الاقتصادية، إن العالم سيدخل في مرحلة الجوع بنهاية 2022، ولفت إلى أن "السبب الرئيس للجوع الذي سيصيب العالم هذا العام هو الإجراءات الاقتصادية غير المدروسة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي"، مشيراً بذلك إلى العقوبات الغربية التي تستهدف روسيا والتي قوّضت قدرات موسكو على تصدير الأسمدة والقمح.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إنه "في غضون عامين فقط، تضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحادّ، من 135 مليوناً قبل بدء الجائحة إلى 276 مليوناً في الوقت الحالي"، وأضاف تقرير لمنظمة "الفاو" حول بؤر الجوع الساخنة، "تظل حال التأهب القصوى في إثيوبيا ونيجيريا وجنوب السودان واليمن باعتبارها بؤراً ساخنة للجوع، ذات ظروف كارثية، في وقت تضاف أفغانستان والصومال إلى هذه الفئة التي تثير القلق".
ووفق التقرير المشترك، فإن هذه الدول لديها شرائح من السكان تواجه المستوى الخامس الكارثي من تحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أو معرضة لخطر الانحدار نحو ظروف كارثية، إذ يواجه ما مجموعه 750 ألف شخص بالفعل المجاعة والموت في إثيوبيا واليمن وجنوب السودان والصومال وأفغانستان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحذرت "الفاو" من ضرورة اتخاذ إجراءات إنسانية مبكرة في 20 بؤرة جوع ساخنة من المتوقع أن يتفاقم الجوع فيها في الفترة الواقعة بين يونيو وسبتمبر (أيلول) 2022، وأشارت إلى أنه تمت إضافة سريلانكا ودول غرب أفريقيا الساحلية (بنين وكابو فيردا وغينيا) وأوكرانيا وزيمبابوي إلى البلدان التي تعدّ من النقاط الساخنة، لتنضم إلى أنغولا ولبنان ومدغشقر وموزمبيق التي لا تزال تشكل بؤراً ساخنة للجوع، في وقت تظل جمهورية الكونغو الديمقراطية وهايتي ومنطقة الساحل وسوريا بلداناً فيها الشواغل عالية مع تدهور الأوضاع الحرجة.
وبحسب التقرير، يؤدي الصراع في أوكرانيا إلى تفاقم، ما هو بالفعل، عام من الجوع الكارثي، لما يتبع ذلك من موجة جوع تنتشر في مختلف أنحاء العالم، وتحول سلسلة من أزمات الجوع الرهيبة إلى أزمة غذاء عالمية لا يستطيع العالم تحملها، وقال ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، إن تلك "العاصفة المثالية" لن تضر بأفقر الفقراء وحسب، بل ستربك أيضاً ملايين الأسر التي حتى الآن لا تزال تكافح من أجل البقاء.
دول عربية في صدارة المتضررين من الأزمة
عربياً، ووفق برنامج الأغذية العالمي، تتسبب حرب أخرى في سوريا في تجويع 12.4 مليون سوري، بينما كان هذا البلد مكتفياً ذاتياً من القمح حتى عام 2011، وبعد سنوات من الحرب، تضطر سوريا إلى شراء نحو 1.5 مليون طن من القمح سنوياً، ومعظمها من موسكو.
أما في لبنان، فقد أدى انهيار النظام المصرفي إلى إفقار 80 في المئة من السكان، كما تسبب انفجار مرفأ بيروت في التأثير على وفرة القمح. وفي وقت سابق، قال وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام، إن احتياطيات لبنان من القمح تكفي لمدة شهر على الأكثر وسط مخاوف في السوق بسبب الأزمة الأوكرانية، وأشار إلى أن لبنان يستورد ما يقرب من 60 في المئة من احتياجاته من القمح من أوكرانيا.
وفي المغرب، حيث يعتبر القمح ضرورياً لصناعة طبق الكسكسي وكذلك الخبز، قال الوزير المنتدب المكلف بالميزانية فوزي لقجع، إن الحكومة ستزيد مخصصات دعم الطحين إلى 350 مليون يورو (364 مليون دولار)، كما أوقفت الرسوم الجمركية المتعلقة باستيراد القمح.
لكن تونس غير قادرة على فعل ذلك، وتشير البيانات إلى أن نصف واردات تونس من القمح كانت تصل إليها من أوكرانيا، وتستورد تونس نحو 60 في المئة من القمح من أوكرانيا وروسيا.
وفي الجزائر التي تعتبر ثاني مستهلك للقمح في أفريقيا وخامس مستورد للحبوب في العالم، أعلنت أن "مخزونها من القمح يكفي لستة أشهر فقط".
لكن ربما تبدو الأزمة أكثر عنفاً في مصر، التي تعد ثاني أكبر مستورد للقمح الروسي، وتشير بيانات مجلس الوزراء المصري إلى أن مخزون القمح في البلاد يكفي لتسعة أشهر لإطعام أكثر من 100 مليون نسمة، وتستعد الحكومة المصرية إلى زيادة سعر الرغيف المدعوم.
في الوقت نفسه، حذرت صحيفة "فايننشال تايمز"، من أن فقراء العالم، لا سيما من يعيشون في آسيا الوسطى وأفريقيا وبعض بلدان الشرق الأوسط غير المستقرة، سيقعون في مرمى نيران أزمات طاحنة، وسط استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتناقص توافرها، في ضوء استمرار العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وذكرت أن ما يقرب من 700 مليون شخص، أو تسعة في المئة من سكان العالم، ثلثهم في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، كانوا يعيشون في 2021 على أقل من 1.90 دولار في اليوم، وهو المستوى الذي حدده البنك الدولي للفقر المدقع، وقد يؤدي أي ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية إلى عودة ملايين آخرين إلى هذه الفئة.
ورجحت مؤسسة "ستاندرد أند بورز" استمرار أزمات الغذاء حتى عام 2024 أو ربما بعد ذلك، وحذرت من أن ذلك قد يؤثر على الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي والتصنيفات السيادية للدول. وأيضاً، حذرت لجنة الإنقاذ الدولية العالم من "تداعيات الجوع" الوشيكة إذ يمكن دفع 47 مليون شخص إضافي، معظمهم في القرن الأفريقي والساحل وأفغانستان واليمن، إلى براثن الجوع الحاد.