قدم تبادل مفاجئ لإطلاق النار بين الفصائل المسلحة في العاصمة الليبية هذا الشهر دليلا حياً في شأن كيف يمكن أن يؤدي الجمود السياسي إلى اندلاع قتال بين الجماعات المتناحرة وإنهاء عامين من السلام النسبي.
ويخضع جزء كبير من ليبيا منذ سنوات لهيمنة قوات مسلحة تسيطر على الأرض وتتنافس على المناصب، بينما تعمل رسمياً كعناصر أمن مدفوعة الأجر تابعة للدولة.
ففي طرابلس أدى تصاعد التوتر بسبب المواجهة بين حكومة الوحدة التي تم تشكيلها العام الماضي وحكومة منافسة أيدها البرلمان الذي يتخذ من الشرق مقراً له، إلى تفاقم خلافات سابقة في العاصمة في شأن وضع هذه الجماعات.
وعلى الرغم من إعلان جميع الأطراف أنهم يرفضون أي عودة لحرب كبرى ولا يتوقعون ذلك، فإن الجهود المبذولة لحل الأزمة تعثرت وثمة علامات جديدة على تصعيد مسلح.
مخاوف من صراع أوسع
وأظهرت لقطات نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي هذا الأسبوع فصيلاً معارضاً للحكومة في طرابلس يتحرك صوب المدينة من قاعدته في بلدة الزنتان الجبلية بقافلة كبيرة من المركبات العسكرية.
ويمكن لأي اشتباكات طويلة بين الفصائل المختلفة في طرابلس أن تتحول إلى صراع أوسع يجتذب قوات من جميع أنحاء ليبيا في مرحلة جديدة من الحرب الأهلية يكون المدنيون أكثر المتضررين منها.
وعندما بدأ إطلاق النار هذا الشهر في حديقة سوق الثلاثاء بالقرب من وسط طرابلس التاريخي، كانت العائلات تستمتع بنسيم البحر البارد في ليلة عطلة نهاية الأسبوع بعد يوم صيفي حار.
وكانت نوال سالم (42 عاماً) قد ذهبت إلى هناك مع بناتها لأن انقطاع التيار الكهربائي يجعلها غير قادرة على تشغيل أجهزة تكييف الهواء في المنزل. ولعبت الفتيات بدراجاتهن وكانت نوال تقلب في محتويات هاتفها عندما سمعت إطلاق النار.
ووسط الفوضى عندما أمسكت بأطفالها وركضت إلى المنزل، كان الناس يصرخون ويسقطون على الأرض ورأت أطفالاً مفقودين انفصلوا عن آبائهم.
وقالت، "كل ما أتذكره هو حمل بناتي بين ذراعي طوال الوقت حتى وصلنا إلى منزل أحد الأقارب وكنت أبكي كثيراً، وكانت بناتي خائفات جداً".
وذكرت تقارير أن أربعة أشخاص أصيبوا، ولكن في علامة على أن تلك الحوادث أصبحت عابرة، بل وربما طبيعية، بالنسبة إلى سكان المدينة، وكانت الحديقة مزدحمة مرة أخرى في صباح اليوم التالي بالعائلات التي أخذت تتمشى وتشتري الآيسكريم من شاحنة.
ومع ذلك فهناك مؤشرات متزايدة إلى احتمال وقوع اشتباكات أوسع، مما يعرض للخطر اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عام 2020 بين الأطراف الرئيسة في الحرب الأهلية.
العملية السياسية على حافة الانهيار
ورافق وقف إطلاق النار عملية سياسية أوشكت على الانهيار، وكان من المفترض أن تجري حكومة وحدة مؤقتة برئاسة عبدالحميد الدبيبة انتخابات في ديسمبر (كانون الأول)، لكن خلافاً حول القواعد الحاكمة للانتخابات عرقلها.
وبدلاً من ذلك عين البرلمان والقوى المتمركزة في شرق البلاد حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، لكن الدبيبة رفض التنحي ولا يستطيع باشاغا دخول طرابلس.
ويبدو أن الدبيبة لا يزال يحظى بدعم معظم القوات المسلحة الرئيسة في العاصمة، لكن بعضها يدعم باشاغا.
لا يوجد منفذ سياسي للنقاش
وقال عماد الدين بادي من مؤسسة المجلس الأطلسي البحثية، "لأنه لا يوجد منفذ سياسي للنقاش ولا توجد عملية سياسية فإن ذلك يجعل الاشتباكات أكثر احتمالاً"، مضيفاً أن "حقيقة وجود حكومتين تؤدي إلى تفاقم هذا التوتر".
وقال مسؤول كبير في الدولة الليبية إن قادة الجماعات المسلحة تمكنوا من تأمين رواتب حكومية لمقاتليهم والحصول على عقود حكومية في مقابل الولاء لشخصيات سياسية على مدى السنوات الـ 10 الماضية.
وعندما حاول باشاغا دخول طرابلس الشهر الماضي اندلعت اشتباكات بين الجماعات المتناحرة مما أجبره على ترك المدينة.
وجرى دمج معظم الفصائل المسلحة الرئيسة منذ فترة طويلة في قوائم رواتب الدولة بأدوار رسمية تحت إشراف وزارة الداخلية أو وزارة الدفاع، على الرغم من أنها مسؤولة أمام قادتها الأصليين وليس الحكومة.
إطلاق نار
في متجر للبزات الرسمية بوسط طرابلس تعلق على الجدران مجموعة منها بمختلف الألوان وأنماط التمويه، فضلاً عن معدات تكتيكية ولوحة تحمل شارات للعديد من القوات العسكرية أو الأمنية، مما يظهر العدد الكبير للجماعات المسلحة.
وخلال رحلة استغرقت خمس دقائق على طريق رئيس بطرابلس من سوق الثلاثاء في اليوم السابق لإطلاق النار، أحصت "رويترز" ما يزيد على 20 مركبة من 11 قوة أمنية مختلفة، مما يظهر أنها تابعة للشرطة أو الجيش.
وفي الليل تضاء ميادين المدينة بالأضواء الزرقاء والحمراء التي تومض على مركبات الأمن التي تخرج في دوريات عند نقاط الوصول، بينما يرتدي المقاتلون ملابس مجموعات أمنية مختلفة ويحملون بنادق هجومية، وأحياناً يضعون كمامات ويستجوبون السائقين.
وبشكل دوري تتحرك قوات في أنحاء المدينة عبر قافلة مسلحة تضم عشرات المركبات، إذ يقف المقاتلون بالزي الرسمي على شاحنات صغيرة محملة بمدافع رشاشة ثقيلة.
ويقف خليفة حفتر قائد قوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي) المتحالف مع البرلمان الذي عين باشاغا، انتظاراً لانتهاز فرصة نشوب أي صراع بين الجماعات المسلحة في طرابلس.
وأنصار حفتر يقدمونه على أنه الحل للفوضى وانعدام الحكم بالقانون الذي تشكله الجماعات المسلحة المتنافسة في غرب ليبيا، غير أن جيشه الوطني هو أيضاً تحالف من فصائل مسلحة مختلفة، وقد أبلغ فريق خبراء في الشأن الليبي يتبع الأمم المتحدة عن العديد من الانتهاكات المرتبطة به.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إخراج المقاتلين الأجانب
من ناحية أخرى، قال رئيس الوزراء الليبي المعين من قبل البرلمان فتحي باشاغا، أمس الأربعاء، إن حكومته تؤيد إخراج كل المقاتلين الأجانب والمرتزقة من البلاد، وفقاً لتوصية لجنة تشكلت لدعم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بعد صراع دار في الفترة بين عامي 2014 و2020.
وفي مقابلة مع "رويترز" في لندن، حيث يحاول حشد الدعم لتولي حكومته مقاليد الأمور في طرابلس، قال باشاغا إنه يؤيد بشدة لجنة (5+5) التي اتفقت على وجوب إبعاد المقاتلين الأجانب.
وأضاف باشاغا (59 سنة) أن حكومته بدأت عملها في مدينة سرت الساحلية بوسط البلاد، على الرغم من رفض عبدالحميد الدبيبة الذي عين العام الماضي رئيساً للوزراء عبر عملية دعمتها الأمم المتحدة للخطوة، مما أدى إلى أزمة سياسية.
ومنذ أبريل (نيسان) أغلقت جماعات في الشرق العديد من منشآت النفط للمطالبة بتولي باشاغا السلطة في العاصمة، مما أوقف جانباً كبيراً من إنتاج الخام الليبي ووضع ضغوطاً جديدة على أسعار الطاقة العالمية.
دور "فاغنر" الروسية
ولدى سؤاله عن وجود مجموعة "فاغنر الروسية" العسكرية الخاصة في ليبيا، قال باشاغا إن المجموعة موجودة في ليبيا، لكنه يساند لجنة (5+5) المعنية بوقف إطلاق النار، والتي تضم خمسة ضباط من طرفي صراع 2014 - 2020، والتي تقول إن على كل القوات الأجنبية مغادرة البلاد.
وقال عبر مترجم إنه يساند هو وحكومته هذا النهج بقوة، مضيفاً أنه ليست له صلات بموسكو، وإنه سيعمل من خلال لجنة (5+5).
وسلط الضوء على دور مجموعة "فاغنر" في أفريقيا منذ الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط)، وسط مخاوف من أنها قد تزعزع استقرار المنطقة أكثر.
ودخلت مجموعة "فاغنر" إلى ليبيا لدعم القائد العسكري خليفة حفتر في شرق البلاد عام 2019 على الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، لكن تم صد هذا الهجوم عندما أدخلت تركيا قواتها في الصراع دعماً لحكومة طرابلس.
وعلى الرغم من أن باشاغا كان وزيراً للداخلية في حكومة طرابلس تلك ولعب دوراً في تنسيق القتال ضد حفتر، فإنه الآن مدعوم من البرلمان الذي انحاز إلى جانب حفتر في ذلك الصراع.
وأقامت مجموعة "فاغنر" وتركيا قواعد عسكرية في ليبيا، ولا تزالان هناك على الرغم من بند في اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020 يطالب بمغادرة كل القوات الأجنبية.
وتقول أنقرة والفصائل الليبية في غرب البلاد إن الوجود التركي يجب أن يُستثنى من ذلك لأنه جاء بموجب اتفاق مع الحكومة المعترف بها دولياً.