راكمت الأحزاب السياسية التي حكمت تونس طيلة عقد ما بعد 2011، الخيبات المتتالية، وفشلت في تحقيق ما وعدت به ناخبيها، ما عمّق الهوّة بينها وبين التونسيين الذين اختزلوا أداء الأحزاب السياسية في الصراعات على المكاسب والتعاطي بمنطق الغنيمة مع الحكم.
ونتجت من هذا الوضع لحظة 25 يوليو (تموز) 2021، التي فجرت حالة من البهجة لدى التونسيين الذين سئموا الصراعات الحزبية، واستثمر رئيس الجمهورية قيس سعيد هذه الفجوة بين الأحزاب التي تحكمت بسدّة الحكم والتونسيين، فحمّلها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد من تأزم اقتصادي واجتماعي، واستبعدها من مشروعه السياسي الذي بدأ باستشارة إلكترونية، فحوار وطني، ثم الاستفتاء المنتظر في الـ25 من يوليو 2021، وصولاً إلى الانتخابات التشريعية المقررة في 17 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
فما هو مستقبل الأحزاب السياسية في تونس؟ وهل يمكن فعلاً الاستغناء عن الأحزاب في الممارسة السياسية الديمقراطية؟
ضمور الأحزاب ظاهرة كونية
ويؤكد النائب السابق في البرلمان والكاتب الصحافي هشام الحاجي أن "التحولات التي تعيشها تونس منذ عقد من الزمن، تطرح تساؤلات حقيقية حول مستقبل الأحزاب السياسية، إذ ظهرت أحزاب لا تمتلك مقومات الحزب مباشرة إثر أحداث 2011، وسرعان ما تلاشت في خضم المتغيرات التي شهدتها الساحة السياسية في البلاد، بينما صمدت أخرى وواجهت صعوبات وتراجعت شعبيتها".
ويعتبر أن "ضمور دور الأحزاب ليس خصوصية تونسية بل يكاد يكون ظاهرة كونية في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وطغيان الفردية وأفول بريق الأفكار الكبرى، ما خلق قطيعة واضحة بين الحقل السياسي، وما يفترض أنه الرأي العام".
ويستدرك قائلاً: "من الصعب أن تشهد السنوات المقبلة موت الأحزاب السياسية، لأنه لا يمكن ممارسة السياسة، بخاصة في الأنظمة الديمقراطية من دون مؤسسات وسيطة بين الشعب والمؤسسات التمثيلية المنتخبة".
ويعتقد الحاجي أن "غياب الأحزاب يمثل نكوصاً وتراجعاً عن تراث فكري وسياسي يرتبط بالتنوير، وأيضاً بنضالات أجيال من التونسيين والتونسيات من أجل تعددية حقيقية". ويقرّ "بوجود أخطاء، إلا أن ذلك لا يجب أن يكون سبباً للقضاء على النموذج الديمقراطي الذي يبقى، على الرغم من نقائصه، أفضل نموذج لإدارة الشأن العام"، بحسب تقديره.
ويفسّر هشام الحاجي التشتت الحزبي الراهن بـ"عقلية الزعامة وغياب الديمقراطية الفعلية داخل الأحزاب".
وبخصوص الخريطة الحزبية في مستقبل المشهد السياسي في تونس، يقول: "إن بعض الأحزاب السياسية، كحركة النهضة والتيار الديمقراطي والتكتل الديمقراطي والحزب الدستوري الحر، ستشكل الكتل الحزبية الكبرى في الخريطة إضافة إلى بعض الأحزاب الاجتماعية الوسطية والعروبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الأثناء، يشدد المدير السابق لأحد مراكز الدراسات الاستراتيجية طارق الكحلاوي على أن "الأعوام العشرة الماضية تركت أثراً في عدد من الأحزاب، لا سيما تلك التي مرت بالحكم، إلا أن ذلك لا يعني اندثارها لأن الديمقراطية تتطلب الأحزاب السياسية".
ويضيف أن "التجارب العريقة في الديمقراطية طوّرت من أدائها السياسي وأضافت آليات جديدة للحكم، كالاستفتاء والعرائض الشعبية، إلا أن ذلك لم يلغِ دور الأحزاب السياسية، التي يجب أن تلعب دورها وتتفاعل بشكل جيد مع الأحداث وتوثق صلتها بالناخب".
أزمة التمثيلية الديمقراطية
في المقابل، يشدد الناطق الرسمي باسم "التيار الشعبي" محسن النابتي على أن "مستقبل العمل السياسي يكمن في التواصل المباشر عبر الاستفتاء والعرائض الشعبية، من أجل استقرار الديمقراطية".
ويعتقد أن "موضوع مستقبل الأحزاب السياسية يلتقي فيه السياسي بالفكري، لأن هناك أزمة تعيشها الديمقراطية التمثيلية، التي قد تكون استوفت شروطها ولم تنتقل إلى مرحلة جديدة".
ويؤكد النابتي أن "أحزاباً كبرى عدة في العالم تعيش نوعاً من الهشاشة، وتواجه غضب الشعوب حتى في الدول العريقة في التجربة الديمقراطية"، مشيراً إلى أهمية ما يسميها بـ"التجارب الديمقراطية الشعبية والمباشرة، عن طريق الاستفتاء والعرائض الشعبية كمخارج للأزمة التي تعيشها الديمقراطية التمثيلية".
ويضيف أن "الأزمة في تونس ترجع إلى نوعية الأحزاب التي حكمت"، مستحضراً "حركة النهضة"، التي هي حزب ديني يعتنق عقلية الجماعة، أكثر منه حزب له برامج سياسية وخلفية فكرية. إنها جماعة دينية طائفية تمتهن السياسة، وتحاول الاستثمار فيها لأهداف الجماعة، وليس لأهداف وطنية، ما شوّه صورة الأحزاب".
وكان مجلس شورى "حركة النهضة"، عقد جلسة استثنائية عقب الإجراءات الرئاسية في 25 يوليو 2021، لمناقشة الوضع العام في البلاد، وتوصّل إلى تفهم الغضب الشعبي المتنامي، خصوصاً في أوساط الشباب، بسبب الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي بعد عشرة أعوام من الانتفاضة، وضرورة بدء الحركة بنقد ذاتي معمق لسياساتها خلال المرحلة الماضية والقيام بالمراجعات الضرورية وتجديد برامجها والتأكيد على أنه لا يمكن التخلي عن المسار الديمقراطي واحترام الحريات وحقوق الإنسان.
الحزب أصبح وصماً سياسياً
ويضيف النابتي أن اليوم عبارة حزب أصبحت نوعاً من "الوصم السياسي والاجتماعي، وعندما تقول حزباً سياسياً فكأنك تتحدث عن عصابة، لأن بعض الأحزاب جمعت رجال أعمال فاسدين ومتهربين من الضرائب".
ويخلص إلى أن "الأحزاب الحاملة لمشروع اجتماعي وطني، وقع تهميشها، وهي تجد صعوبة في إعادة تأطير الشارع الساخط على أداء الأحزاب خلال العشرية الماضية".
ويرجح محسن النابتي أن "المرحلة المقبلة ستشهد ميلاد أحزاب جديدة، قادرة على إعادة بناء جسور الثقة مع الشارع بسبب ثبات موقفها، محذّراً من أن العلاقة المباشرة بين رئيس الجمهورية قيس سعيد والشارع، بقدر ما هي مريحة بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، بقدر ما تحتاج إلى مزيد من التأطير لتفادي الهزات الاجتماعية".