في كل أنحاء العالم تنتشر عائلات بأكملها تحمل اسم الصنعة التي عملت فيها أباً عن جد، وما زالت عائلات في المملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة تحمل ألقاباً تُطلق على مهنيي عدد من الحرف، مثل الحداد (Blacksmith) وصائغ الفضيات Silversmith)) وصانع الأقفال (Locksmith) وصانع الأسلحة Gunsmith))، وفي أنحاء المجتمعات العالمية ما زالت عائلات كثيرة تحمل كنيتها المشتقة من مهنة كان يمارسها أحد الأجداد، حتى لو لم تعد العائلة تقوم بهذا العمل حتى اليوم.
وهذه الكنيات أو الشهرة العائلية المهنية تختلف بحسب الزمن الذي أطلق فيها على صاحبها، فآل خباز لا بد من أنهم من العائلات القديمة في جميع أنحاء العالم، لأن صنعة الخباز هي من أقدم الصنائع البشرية، ثم هناك العائلات التي ما زالت قادمة من عصور الاستقرار البشري الأولى أو عصور الزراعة والرعي، فهناك عائلات الراعي والفلاح والحاصد والساقي، وبالطبع تختلف الكنيات في تلك العصور بين من يتكنون بسبب قوتهم وأسلحتهم وسطوتهم وأخلاقهم، كما هي عائلات قريش كلها في زمن ما قبل الإسلام، ثم يأتي زمن الحرف الصناعية التي خلقت عائلات النجار والحداد والفواخرجي.
وحرفا الجيم والياء في آخر الكلمة يعودان إلى اللغة التركية في زمن السلطنة العثمانية التي تدل على نوع الصنعة، فيقال الكبابجي والسنكرجي والدكنجي وغيرها.
وقد تكون مرحلة تكون العائلات الجديدة قد انتهت مع بداية العصر الصناعي، فبعد الثورة الصناعية أُرسيت سجلات النفوس في الدوائر الرسمية بالدول ذات الإدارات الهرمية الحديثة، فراحت الأجيال المتعاقبة تتوارث اسم العائلة القديم إلا في ما ندر من حالات، كأن تخرج عائلات من فروع عشيرة عربية فتحمل اسم الجد الأخير بدلاً من الأول، فمثلاً نقول في لبنان أن جميع كنيات العشائر الجديدة التي باتت تتوزع في أنحاء البلاد بعد أن كان مستقرها شمال لبنان في سهل البقاع، تتفرع كلها من شجرة عائلية واحدة على رأسها حمادة وشمص، ومعنى الكنية الأول واضح في تبيان رفعة درجة العائلة من كلمة الحمد أو المحمود، أما اسم شمص فهو يدل على شظف عيش العشائر القديم، وهو يعني "جر الدابة حتى أتعبها" وشمصه أي "آذاه حتى أغضبه"، وكما قال المؤرخ شهاب الدين القلقشندي (ت821هـ) أن "غالب أسماء العرب القديمة كانت منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه".
وكما نقلت براء نزار ريان في تحقيقها الوافي حول أصل الأسماء العربية والمنشور على موقع "الجزيرة"، "تقول مريم الدرع في مقدمة تحقيقها لـ (تهذيب جمهرة النسب) لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفي 224هـ، فإن العرب كان من أسمائهم غالب وغلاب وظالم وعارم ومنازل ومقاتل وثابت، وسموا في مثل هذا الباب مسهراً ومؤرقاً ومصبحاً وطارقاً، وسموا بالسباع ترهيبا لأعدائهم نحو ليث وفراس وضرغام ودريد وباسل وورد، وبما غلظ من الشجر نحو طلحة وسمرة وسلمة وقتادة وهراسة، وكل ذلك شجر له شوك".
كيف تنعكس مهنتنا على هويتنا؟
معظم الإحصاءات حول شهرة العائلات الأكثر انتشاراً في العالم تشير إلى أنها أتت من المهن والحرف والرتب، ولكن كيت مورغان المحققة في موقع "بي بي سي" بحثت في تأثير نوع المهنة التي تمنحنا اسمنا على حياتنا، فتقول إنه وللوهلة الأولى قد لا يبدو لك أن ثمة ارتباطاً بين اسم "مولر" اللقب العائلي الأكثر شهرة في ألمانيا وسويسراً، و"ميلنيك" الذي يحتل المرتبة نفسها في أوكرانيا، لكنك ستعرف إذا كنت مهتماً باللغات أن الاسمين يعنيان "الطحان"، وإذا انتقلنا إلى سلوفاكيا فسنجد أن اللقب العائلي الأكثر شيوعا هناك هو "فاركا"، وهي مفردة تعني الإسكافي، أي من يعمل في مجال صنع الأحذية.
وترى مورغان أن الوضع بات مختلفاً الآن، إذ لم تعد المهن التي نشغلها تعكس نفسها حرفياً على أسمائنا، وذلك على الرغم من وجود فرضية بأن المرء ينجذب إلى المجالات المهنية التي تناسب اسمه، لكن علينا أن نعتبر أن مهنة الشخص تؤثر في شخصيته وهويته ونفسيته وقد تكون مفتاحاً للتعرف على قيمه واهتماماته وخلفيته.
وخلال الأعوام الـ 50 الماضية ظهرت أنواع كثيرة من الوظائف والمهن التي لم تكن موجودة سابقاً، فتحول الأمر من أن يعرف المرء نفسه من خلال كنيته فقط إلى إضافة مهنته، مثل الدكتور الجامعي والطبيب والمهندس والمحامي أو مدير الشركة أو رئيس القسم في مؤسسة ما، فتحولت المهنة نفسها إلى كنية إضافية للتعريف عن الذات أمام الآخرين، كما لو أنها طريقة حديثة لتقديم الذات بعد أن كان في السابق مجرد انتمائك إلى عائلة ما كاف للتعريف عنك، سواء أكانت عائلة من الملاك أم الإقطاعيين أم المصرفيين أم المهنيين والحرفيين ومن عامة الناس.
لكن المشكلة العصرية التي يعانيها أكثر الذين بنوا وضعهم الوظيفي أثناء طفرة العمل المكتبي خلال الثمانينيات والتسعينيات وراحت تتكرر اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي، تتمثل في أن من يسمحون لوظائفهم بلعب الدور الأكبر في تحديد هوياتهم يمكنهم إلحاق الضرر بأسمائهم وسمعتهم، فبحسب علم العمل الحديث وعلوم الاجتماع قد يؤدي تكريس الناس قدراً أكبر من اللازم من وقتهم وطاقتهم لمجالهم المهني إلى إصابتهم بحال نفسية يطلق عليها اسم "التورط"، وهي تلك التي تتلاشى فيها الحدود تقريباً بين حياتهم الشخصية والمهنية، والمشكلة التي قد تصيبهم في وسائل التواصل أو سابقاً في الوظائف المكتبية ذات التحديد الهرمي الصارم، هو أن معرّف نفسه بحسب مهنته قد يخسر كل ثقته بنفسه دفعة واحدة في حال خسر مهنته، بعد أن جعل من المهنة عنواناً للتعريف الشخصي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما بعض المؤشرات الشائعة التي تفيد بحدوث حال "التورط" فتكون مثل التفكير في العمل حينما لا يكون المرء فيه من الأساس، وأن يتحدث عنه كذلك خلال الدقائق الثلاث الأولى من أي محادثة يشارك فيها.
ويندرج من يعملون في وظائف توصف بأنها مهن لـ "الصفوة" بين من تزيد احتمالات تحديد هويتهم والحكم عليهم وفقاً لمهنهم، وبرأي جانا كوريتز، وهي مؤسسة عيادة طبية في مدينة بوسطن الأميركية تتخصص في التعامل مع مشكلات الصحة العقلية التي تصيب من يعملون في وظائف حافلة بالتوترات والضغوط، فإن وجود ارتباط بين القيمة الذاتية لشخص ما ومجاله المهني يمكن أن يؤدي إلى أن تتحول المشكلات التي يواجهها في مجال عمله إلى عقبات يصعب عليه كثيراً تجاوزها.