بعيداً من اقتناص أكبر عدد ممكن من الامتيازات خلال الأسابيع القليلة المتبقية له، يزرع بوريس جونسون بحذر بذور خرافة سياسية من شأنها أن تحافظ عليه وعلى مناصريه. وهذه البذور ليست سوى نسخة من نظرية "الطعن في الظهر" التي تلجأ إليها الكثير من الأمم التي خسرت حرباً ويستخدمها العديد من الخاسرين السياسيين (خصوصاً دونالد ترمب وزعماء ديكتاتوريين تمت الإطاحة بهم). قريباً جداً، سيقدّم بوريس جونسون نفسه "كالزعيم الخاسر" ويشبّه نفسه بالأمير بوني [الأمير تشارلز إدوارد ستيوارت طالب بعرش إنجلترا ولم ينله]، الرجل العظيم الذي أطاحت به مؤامرة خاطها له أعداء غير جديرين.
وتقول خرافة "الطعن في الظهر" بأنّ خسارة هؤلاء الزعماء وفقدانهم لمراكزهم لا علاقة له بالأخطاء التي ارتكبوها بل هو أمر متعلق بجبن الآخرين وغدرهم. ويودّ بوريس جونسون أن يجعلنا نصدّق بأنّه تعرّض لخيانةٍ مشابهة. ففي مذكراته، التي ستصدر من دون شكّ في أقرب وقت ممكن بغرض الاستفادة المالية منها وفي عددٍ كبير من أعمدة الصحف والخطابات، سيعيد بوريس جونسون ويكرّر حجّته مجدداً: بأنّ كلّ شيء كان ليكون أفضل لو أنّ زملاءه الحمقى حافظوا على رباطة جأشهم وعلى ثقتهم.
ولا شكّ أنّ هذه الخرافة ستتغذّى من نكبات خلفائه. فإذا ما خسر ساجد جاويد أو بيني موردونت أو جيريمي هانت أو أي شخص آخر في الانتخابات العامة المقبلة، سيذكّرهم جونسون بأنّه فاز في استفتاء العام 2016 ومن ثمّ حصد في العام 2019 أكبر غالبية برلمانية منذ العام 1997 وأكبر عدد من المقترعين منذ العام 1979. ولعلّ رسالته الصريحة وغير المفيدة بشكلٍ أو بآخر ستقول "لم يكن هناك أحد غيري قادر على الفوز بالجدار الأحمر [مناطق سيطرة حزب العمال]".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا ما أشار إليه بشكلٍ واضح في خطاب استقالته غير اللبق والذي شكّل المسودّة الأولى لنظرية المؤامرة. وأخبر البلاد كم كان الأمر "غريباً" بالنسبة "لقطيع" النواب المحافظين المرعوبين للتخلّص منه فيما كانت تفصله "بضع نقاطٍ وحسب" عن حزب العمال المتصدر في استطلاعات الرأي. كان "برلمانيو" الحزب وليس عموم الحزب في البلاد، ناهيك عن الناخبين، هم الذين قاموا بإخراجه. هذا مع الإشارة إلى أنّ العديد من الاستطلاعات أظهرت تقدماً ملحوظاً لحزب العمال بأكثر من 10 نقاط وبأنّ الأشخاص كانوا مدفوعين للتصويت تكتيكياً [تصويت احتجاجي ضد حزبهم] بسبب كرههم الشخصي له وبسبب ما فعله في فضيحة "بارتي غيت". كما أُسقطت من الحسابات الخسائر الفادحة التي مُني بها في الانتخابات الداخلية الكارثية والمجالس المحلية.
ويستمر جونسون في إيهام نفسه بأنه الورقة الفائزة في الانتخابات حتى عندما استنتج من هم في وضع أفضل للحكم والذين يفقهون قواعد اللعبة أكثر من سواهم، ونعني هنا نوّاب حزبه، بأنّه أصبح الآن عائقاً انتخابياً وسيستمر في ذلك لأنّه لم يكن قادراً على ركوب موجة "التحوّل النفسي" الضرورية كما أدركوا.
قبل نهاية العام الجاري، وهذا أمر مرجّح للغاية، سيصدر كتاب مذكرات جونسون لكي يستفيد من مبيعات موسم عيد الميلاد وسيتخذ عنواناً جاذباً على غرار "المهمة أنجزت" أو "تعزيز المساواة". وسيصبح هذا الكتاب بمثابة كتاب مقدّس "لأتباع بوريس". سيتجنّب طبعاً التطرّق إلى حياته الخاصة المتقلّبة ما عدا الصور اللطيفة التي رأيناها أخيراً لزوجته كاري وأولاده، وسيقدّم وصفاً كاذباً ويصبّ في مصلحته الشخصية بشكل متوقع للفضائح المتعددة التي كان وحده المسؤول عنها. ولن يكون النقد الذاتي من بين مواضيع الكتاب. سيرسم صوراً بارعة ومسليّة وساخرة عمّن يلقي اللوم عليهم في خسارته لرئاسة الوزراء ومن بين هؤلاء مثلاً جاويد وغوف وسوناك وغراهام برادي. وللمزيد من الفكاهة، سيسخر من ماكرون وترمب وميركل وطبعاً من بوتين.
وفي الكتاب أيضاً، سيتفاخر بإنجازه حملة التلقيح التي عمل عليها ناظم الزهاوي (والذي سيُنتقد على خيانته له إذا ما دعت الحاجة). وسيتجاهل حتماً التطرّق إلى الوفيات الزائدة غير الضرورية التي تخطت 150 ألفاً في زمن الجائحة بسبب لا مبالاته وطيشه. وسيتناول بأسلوب مزخرف ومنمّق معركة بريكست وسيلقي اللوم على الاتحاد الأوروبي والجانب الإيرلندي لفشله، كما أنه سيختلق إحصائيات اقتصادية في محاولة إقناعنا بأننا كنا نعيش في مرحلة ازدهار خلال توليه الحكم.
ولعلّ أكثر العبارات تواتراً واستخداماً في مؤلفات جونسون الغزيرة ستكون "لو أنّ..."، "لو أنّ نوّابي حافظوا على رباطة جأشهم"، "لو أنّ وزرائي استمروا في إخلاصهم"، "لو أنّ خلفي تمسّك برؤيتي"، "لو أنّ وسائل الإعلام لم تسئ تقديمي وتشوه صورتي"، "لو أنّ رافضي نتائج استفتاء بريكست قبلوا بإرادة الشعب"... وهكذا دواليك.
ضاعت علينا فرصة دولة "بوريس" (بوريسلاند) التي تصوّرها رئيس الوزراء حيث كان بريكست ليجعلنا أغنياء وتتحقق المساواة بين كافة المجتمعات وتُزال الضرائب ويختفي اللاجئون الذين يعبرون القنال الانجليزي في زوارق وحيث يصطحب الرئيس الأوكراني زيلينسكي رئيس حكومتنا جونسون في موكب النصر في أنحاء كييف وحيث تفوز إنجلترا بكأس العالم [لكرة القدم] ويتفكك الاتحاد الأوروبي لأنّ كافة الدول الأعضاء ستودّ أن تحاكي إنجاز بريكست. ولكان حصد لقب "دوق لندن" على مجمل إنجازاته.
لا بدّ من القول إنّ جونسون لا يزال يحظى بجمهور جاهز يدعم نظرية مدينته الفاضلة المحافظة ضمن قاعدة مناصريه التي لا تزال تحظى بأعدادٍ ملحوظة. ولا شكّ أنّ استمرارها وإصرارها سيسمّم حكومة خلفائه وسياسات المحافظين لسنوات مقبلة. وعلى غرار ما يقول حليفه القريب والمخلص كونور بيرنز، سيكون الأمر مشابهاً للخرافات والامتعاضات التي استمرّت لسنوات بعد أن أطاح النواب المحافظون المعارضون بمارغريت ثاتشر من رئاسة الوزراء في العام 1990. وتحوّلت بعدها إلى ما يشبه "سائق المقعد الخلفي" [الراكب الذي يملي بنصائحه على السائق بشكل دائم] (المستشار المزعج) لجون مايجور وويليام هاغ وكانت تحرّض المتمرّدين بشكلٍ دائم. ويمكن الشعور بترددات صدمة سقوط ثاتشر نفسها في قرننا الحالي وحتى في أيامنا هذه. وفي هذا السياق، ليس مايكل هيسلتين مكروهاً من قبل المحافظين زملائه كونه مناصراً للاتحاد الأوروبي وحسب، بل لأنه طعن "ماغي" على مرّ السنوات السابقة [هيسيلتين تحدى زعامة ثاتشر في العام 1990 وخسر المعركة ولكنه هز زعامتها على الحزب ودفعها للاستقالة بعدها بأسبوع].
وفي معلومات تنذر بالتشاؤم، يخطط جونسون بأن يبقى نائباً بعد استقالته من رئاسة الوزراء مما يعني أن بوسعه انتقاد خلفه من المقاعد الخلفية فضلاً عن أنه سيكسب بعض المال (84144 جنيهاً استرلينياً، زائد المصاريف، زائد راتب تقاعدي) ليضيفه إلى المال الذي سيجنيه من مكانٍ آخر. لن يختفي بهذه السهولة.
وجونسون ليس رجلاً شهماً أو مخلصاً ووفيّاً بشكلٍ خاص لحزبه أو لقادته السابقين (اسألوا مايكل هوارد أو دايفيد كاميرون أو تيريزا ماي). فإن كان لا بدّ من إثارة المتاعب، سيثيرها حتماً. إنّه شخص متكبّر بما يكفي لبذل الوقت والجهد الضروريين لكي يغذّي خرافة أنّ توليه رئاسة الوزراء حقق نجاحاً باهراً ومنقطع النظير وبأنّ ولايته انتهت باكراً بسبب غرائز الآخرين. سيشكّل هذا انعكاساً للحقيقة أو بوسعكم القول بأنّه هرم مقلوب من الهذيان والهراء، تماماً كما كنتم تتوقعون.
نُشر في اندبندنت بتاريخ 9 يوليو 2022
© The Independent